الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 1st September,2003 العدد : 27

الأثنين 4 ,رجب 1424

أعراف
ينابيع الذاكرة تلويحة الأيدي المتعبة (3)
دفلى فواز
محمد جبر الحربي
لعلنا بحاجة في هذا الوقت العصيب من تاريخنا الحديث، وكله صعبٌ ومالحٌ، عدا لحظات تجلّ وثبات، طردنا فيها الاستعمار من الباب، ليعود إلينا اليوم، لا من النافذة، بل من كل الجهات، وبكافة الوسائل، ليعود إلينا عبرنا.. يا لقمة الألم!!
بل نحن في حاجة إلى استعادة نماذج كثيرة وكبيرة على الصعيد الثقافي لترفدنا، وتزيل عن أعيننا غشاوات يتبارى مخربو الثقافة من أشباه مثقفين وإعلاميين وحواةٍ ومستسلمين وواهمين ابتكارها، وتكثيفها، وتلوينها لتكون لائقة بالعمى العميق الذي يريدون سحبنا إلى منافيه.
من هذه النماذج الواجبة الاستعادة فواز عيد، لأنه يذكرنا بنا، بقيمتها وقيمنا وحقوقنا وجمالنا وتفاصيلنا وأوطاننا التي نحاول التشبث بها، ويحاولون طمسها والغاءها.
يذكرنا أن الأوطان بخير إذا كنا بخير، وإذا كنا كبارا كما هي.. كما هو..
هنا، واختصاراً لدرب طويل سأقضيه مفتتناً بالراحل الحاضر. سأقتطف هذا الجزء من نثر فواز، من نور فواز وناره، من مقدمة كتابه «نهارات الدِّفلى».
يوميات حرب فلسطين عام 1948م.
فتمتعوا بهذا الجمال ولا تنسوا أوطانكم: (الدِّفلى)..
«أشجار الدفلى.. أشجار تشبهنا في حياتها.. وطباعها.. وعاداتها وتقاليدها..
إنها لعريقة عراقة الأنهار التي حفرت وديانها.. بين صخور «الأردن، واليرموك، والرقاد، ومجدّو..» لذا أثبتها الفيروزبادي في (القاموس المحيط)، والإمام الزبيدي في (تاج العروس) وابن منظور في (لسان العرب).
بل.. إن فيها روحاً عربياً.. قد ضل طريقه إلى جسد بدوي.. لينهض في شجيرة لدنة.. تتعشق الشمس.. وتزكو بها.. على حين تشير فروعها العالية إلى الواحات.. والينابيع.. والأنهار.. تشير إليها.. كلما هبت الريح التي تضمر الكلام القديم.. عن ذكريات وطنها الأول.. على ضفاف نهر الأردن.. أو اليرموك.. أو ضفاف بحيرات الوطن.. الحوله.. وطبرية.. وبحر أريحا.. إنها أشجار.. لا تملُّ من الحياة أبداً.. إذ أنها تتفتح مدى الفصول بلون الشهوة الغامقة.. أو لون السلام الأبيض.. أو.. ما بينهما من مزيج الأحمر والأبيض.. وهي أشجار تحتمل عصف الرياح المتعسفة.. فتميل معها كساحل من زهر.. ثم تستقيم بعد أن فوتت فرصة الاقتلاع على العاصفة العدوة.
وإنها بعد ذلك.. لتبقى على وجدها الأول.. لموطنها الأول.. مهما اغتربت.. وأينما انزرعت.. إذ تنفتح على السفوح.. وتحت نوافذ البيوت... وفي الحدائق الضيقة بين الدروب.. إلا أنها تهيج على ضفاف أنهار (فلسطين) أكثر ما تهيج.. لتشتعل حمرة في بعض السنين.. فتشتبك أزهارها فوق الأنهار.. حتى تمحو زرقة المياه ومراياها.. لتسيل فوقها نهراً فائزاً من الدماء الحارة..
وعند ذلك.. يتطلع الأباء إلى الآفاق.. توجساً من حرب أخرى.. أو جحفل من جحافل الغزاة.. الغزاة الذين تعود الآباء على رؤيتهم.. يطلون فيضربون بالسيف جذور الدِّفلى.. إلا أنها تظل تزهر.. ولا تموت أبداً.. حتى ولو انكشفت جذورها بمقدرة السيول في سنوات الفيضان..
إن أعجوبتها لتحدث عند انكشاف الجذور حين تتصلب هذه الجذور فجأة.. وتنمو في يوم وليلة.. وتمسك بلبَّ الأرض.. بمخالب قوية.. كمخالب النسور الأسطورية.
إنها لأشجار تشبهنا.. فوجهها يبذر الحب والضحكات.. وقامتها تتقن أية رقصة شرقية على إيقاع (الصبا أو غيره).
إلا أن دمها يقطر مدراً.. إذا جُرحت أعضاؤها.. أو انقطفت أوراقها.. حتى ان الفلاحين يضربون المثل بها.. (مرّ.. كالدفلى)..
إنها لأشجار.. تشبهنا.. تشبه بلك النهارات.. نهارات المرارة.. والجراح الفاقعة.. يوم ابتعد عنا الوطن قليلاً.. إلا أن أزهار (دفلانا) ما زالت تشير إليه بسير إلى وطن السحب.. ووطن «الدفلى».
ما رأيكم إذا بهذا النثر الفاره؟!
ميزة فواز أنه عندما أبدع شعراً في حبيبته، وعندما كان (فرحاً ومنثوراً على تتعب النوافير).
وعندما كان (بباب البساتين والنوم)، وعندما صفق مع الراقص في (دان.. دان).. لم ينس وطنه. وجراحه، ومأساة شعبه وبقية الشعوب العربية.
بل على العكس كانت مأساته مفجراً لكل طاقاته، ليكون إنساناً أعلى، وإنساناً أجمل، شاعراً وناثراً، ومؤرخاً، وباحثاً عن الجمال.
ليكون كبيراً لائقاً بالوطن.. وأهل الوطن.
سلاماً يا فواز
الصفحة الرئيسة
أقواس
فضاءات
نصوص
قضايا
تشكيل
كتب
مسرح
وراقيات
مداخلات
الثالثة
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved