Culture Magazine Monday  01/10/2007 G Issue 218
أوراق
الأثنين 19 ,رمضان 1428   العدد  218
 

قصيدة الضوء والمطر
جمعان الكرت

 

 

يقول الروائي أحمد أبو دهمان صاحب رواية الحزام: هكذا بنى أجدادنا القرية كل حجر، كل بئر، كل قصيدة، كل ورقة وكل خطوة تحمل أنفاسهم وعشقهم، آمالهم وشقاءهم، انكساراتهم وانتصاراتهم أولئك الذين كانوا كل صباح يشيّدون قريتهم وكأن ليس أمامهم إلا نهار واحد لتخليدها.

ويضيف بقوله: قريتنا كانت في البدء أغنية فريدة تماما كالشمس والقمر، وأن الكلمات التي يمنحها الناس طاقة شعرية، تطير كالفراشات، بعضها الأكثر غنى لونيا والأكثر جمالا تطير بخفة لا مثيل لها، ولأن قريتنا هي بالتأكيد الأقرب إلى السماء، فإن هذه الكلمات الشعرية تجد فيها أفضل مكان لتباهي بمكنوناتها، ولكي تضيء العالم.

الشاعر الدكتور عبدالعزيز المقالح يقول عن القرية : جميلة تتباهى بفقرها وبمعمارها المتقشف..

ليل هادئ، عامر بالنجوم..

ونهار راقص..

مترع بالضوء..

وبموسيقى الجداول والشجر، بيوتها الحجرية المطلية النوافذ بالنور.. تلوح لعيني المسافر من بعيد كقناديل هابطة من السماء، طين تراوده شهوة العزلة وحنين الابتكار يتذكرها.. يتذكر التلال والأودية المنحدرات الصخرية المغطاة بأعشاب لا تعرف الذبول.. هي الأمل في أعتى درجات اليأس.

والضوء في آخر الرحلة الخائبة هي بقعة في جسد الوطن وأحيانا هي الكلمة التي تختزل الوطن.

لا أدري لماذا تشتعل القرية بناسها وأحجارها ونباتاتها وجبالها وغيومها وجداولها وطيورها وهوائها ومساريبها وأبوابها ونوافذها..

لماذا تشتعل في ذاكرة الروائيين والشعراء فهذا أحمد أبو دهمان الذي يعيش في أكناف عاصمة الضوء باريس - وجه أوروبا- حيث بانوراما الحضارة يتفتق بما هو مدهش..

المباني الزجاجية الصقيلة والشوارع الضاجة بكل مثير والميادين التي تنتصب بها عشرات المجسمات التي تحكي تراث وثقافات الأمم وغيرها إلا أن ذاكرته القروية ثنت ريشة قلمه ليكتب عن القرية، يسعفه في هذا الجانب المخزون الثقافي والتراث الاجتماعي القروي ليصدر أجمل الروايات التي نشرتها ( دار غاليمار ) أحد أشهر دور النشر في فرنسا وترجمت إلى معظم اللغات الحية.

تلك القرية الصغيرة التي اسمها آل خلف هي مصدر إلهام الروائي أبو دهمان.

تلك القرية كما يصفها الروائي بأن المطر يصعد إليها.

إذ القرية هي الضوء والعطر والشعر والحياة ولم يكن الروائي المحضري عبدالعزيز المشري بعيدا عن نبض القرية وجمالياتها إذ احتوت رواياته ريح الكادي، الحصون، صالحة، الوسمية، الغيوم ومنابت الشجر وغيرها مخزونا ثقافيا وشعبيا واجتماعيا وفسيولوجيا محملا بعبق القرية الملهمة.

المشري استل مراسم قلبه ليكتب عن القرية قال في مكاشفات السيف والوردة: لا أجد نفسي حميميا مع الحياة المدنية كثيرا ولم أتعاطف مع إيقاعاتها الذائبة، الخرسانية ،فمنذ البدايات القصصية الأولى كانت الأعمال وهي في المدينة والغربة الثقافية..

تجعل أبطالها قرويين يتعاملون بالمنطق القروي والهيئة القروية.

ويضيف المشري متحدثا عن روايته الوسمية إذ يقول: جاءت بولادة مختلفة وبطرح مختلف وعالم مختلف لأمر رأيته وقتها مقنعا ومعبرا عن المفهوم لدور الكتابة القصصية والتحاور معها بحميمية بالغة التعاطف وعالية الحساسية في تفاعلي مع عالمها وشعوري بتأدية القيمة الأمانية والخلق الإنساني لعالم القرية بعفويته وصدق تعابيره المعيشية اليومية ودلالات لغته ونحت حياته التي أقامها مع وسيلة إنتاجه وطبيعة علاقاته الجماعية بها.

ويضيف بكلمات صادقة ومؤثرة :كان الحنين القروي المشتعل في الذاكرة هو حمايتي الوحيدة في الإقامة الطويلة والجبرية.

والدكتور المقالح يحمل دهشة العبارة وجمال الوصف وعمق الفكرة وتجليات النص في كتابه القرية إذ غمس قلمه في وريد جبل غيمان لينثر حبر إبداعه عصافير وفراشات ملونة من الكلمات الشاعرية الباذخة الجمال.. كتب عن نجوم القرية ووشوشات الفلاحين والطيور وذاكرة الحجارة ونبض الجدران وتراتيل الأودية والربوات المغطاة بالمسك والورد المختالة في مرح..

كتب عن المساءات المعطرة ورقصة الريح ونشوة الحقول وموسيقى الينابيع..

عن الشمس التي تغمر المكان بضوئها.

أظن أن من الواجب الكتابة عن وجنتيها الضاجتين كالتفاح عن جداولها المتثنية في غنج بين أرداف الجبال كحبل الفضة، عن نبضها الراعف واختلاجات فرحها وحزنها..

الكتابة عن أهداب عيني القرية وهي تظلل ناسها وترأف بهم وتمنحهم قميصها وشالها لتقيهم من لسعات البرد.

وتعطيهم بوح أسرارها لينثروا قصائدهم الشعرية لتشنف الأسماع.. وتطهرهم من أدران الحياة بماء الطهر.. وتشاطرهم أحزانهم و مواويلهم.. ويبتل قلبها حزنا لموت أحدهم، وتنتشي فرحا في أعيادهم وزيجاتهم ورقصاتهم ،القرية هي التي تسبقهم إلى ساحة العرضة وتلقي القصيد وتغسل قلوبهم وأجسادهم.. وتوقظ العصافير لتغني لهم.. وتهمس للنجوم كي تسامرهم وتزف أنسام الصباح لترطب نهارهم ، وتسمح للعشاق أن يتطهروا بضوء الحب العفيف.

القرية تسمح فقط للقمر والنجوم لأن تكون قناديل مدلاة من السماء..

تسمح لملاءة السحاب أن ينام على سفوح جبالها لتومض بلوارتها الشفيفة حجارتها بلمعان آخاذ..

القرية يتسع صدرها لتحمل هموم أهلها وتقذفه للفضاء الفسيح لتتبرأ من كل ما يسبب لسكانها النكد..

تمنحهم فيض كرمها..

سنابل قمح وأكواز ذرة وعناقيد شهية من العنب أيها الأحبة للنهار والليل والماء والجبل والقمر والمطر والطير معنى آخر في القرية.


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة