Culture Magazine Monday  01/10/2007 G Issue 218
فضاءات
الأثنين 19 ,رمضان 1428   العدد  218
 

بالكاغد (للمرة ثانية)
قاسم حول

 

 

(1)

ماذا تعمل عندما يأتي العالم إليك؟!

بين السابع من شهر سبتمبر وحتى الحادي عشر منه حضر العالم إلى منطقة الرأي في إمستردام ليعرض آخر منجزاته التقنية في تقنيات البث والفضاء بكل جزئياتها. كان من الصعب أن ترى كل شيء وتسأل عن كل شيء وأنت ترى المجسمات البصرية وترى كل يوم أنواع الكاميرات في معرض IBC الدولي الذي أدهش المشاهدين في عروضه. كاميرات حرفية صغيرة تلك التي بات الحصول عليها سهلاً، ولم يعد المخرج السينمائي يبحث عن تمويل كثير لكي يؤسس ستوديو في منزله فيخرج بتلك الكاميرا التي تمنحه صورة عميقة الأبعاد وحادة في وضوحها وتلتقط التفاصيل في أقل الظروف إضاءة، وإضاءة محمولة لا تكلف بضع مئات من الدولارات يحملها المخرج في حقيبته وتحقق له معجرات الصورة. الشركات تتنافس في العروض والمطبوعات بأجمل الألوان والإخراج الفني، كلها تدلك على منافذ الدروب لتوصلك إلى الأجمل والأقل كلفة في نفقات الإنتاج.

(2)

عندما تتجول في مثل هذه المعارض، فإن مكاتب ومقرات الشركات المنتجة لبضاعة الفضاء والتقنية تنظر إليك وتسألك عن شخصك ومهمتك ومهنتك عندما تستهويك آلة أو جهاز بث أو جهاز مونتاج أو بروجكتور ضوء. فإذا ما وجدت فيك زبونا (شاريا) إنعمت عليك بالقهوة والبسكويت وهدية قلم أنيق ومفكرة أو حقيبة وإذا ما عرفت أنك صحفي أتيت للكتابة فتكون هديتك كاتلوك البضاعة ومنه تستقي المعلومات.

توقفت عند ركن عشقت فيه جهاز ضوء أنيق من ذلك الذي يضفي لمسة ضوء فضية أثناء مقابلة مصورة وقادني الجهاز للتمعن في تقنيات الشركة العارضة. تقدم مني مسؤول الشركة، وسألني عن سبب توقفي كثيراً عند جهاز الضوء واستفسر عن جنسيتي. قلت له أنا عراقي. فهز رأسه بلا مبالاة قائلاً (لقد جهزنا العراق بكل شيء) استوقفتني الجملة مع أنها تعني أن لا مصلحة له معي بعد أن باع للعراق بضاعته، فيما وجدت أنا فائدة بموضوع أبحث عنه وعن أسراره. فقلت له أنا مستشار لفضائية جديدة وخاصة، فاستهواه الأمر. سألته ماذا تقصد بقولك جهزنا العراق بكل شيء. فأورد لي أسم قناة عراقية قائلاً لقد أرسلنا لهم أطناناً وأطناناً وأطناناً من كل أنواع المعدات الخاصة بالتقنية الفضائية والتلفزة. وطلبت منه المزيد من المعلومات فذكر لي عدداً من المعدات التي تستوعب أكثر من فضائية، بل وأكثر من ثلاث فضائيات. فعرفت بأن القنوات العراقية التي أبحث عن مصادر تقنياتها وتمويلها، وسألته وهل كان تحويل المبالغ إليكم سهلاً .. كيف كان يتم ذلك والعراق في ظروف حروب مدمرة تصعب فيه عمليات التحويل المصرفية؟ قال لي الدفع كان من شركة أمريكية واحدة.

إستوقفتني هذه المعلومة وعرفت بأن هناك مؤسسات أمريكية تجهز العراق بأنواع المعدات وما يهمني منها الجانب الثقافي والثقافة المرئية حيث جهزت الفضائيات العراقية بكافة التقنيات المطلوبة. ترى كيف تريد الولايات المتحدة الأمريكية أن ترسم صورة عراق الغد الديمقراطي وهي تجهز قنوات فضائية لا تنشر سوى ثقافة الجهل والتجهيل التي أودت بحياة المثقفين العراقيين وحرضت على تهجيرهم الهجرة الثانية المريرة، وكل تجهيزاتها التقنية مدفوعة من شركة أمريكية ترسل لهم أطناناً وأطناناً وأطناناً من المعدات لتكرس في تدمير وطن اسمه العراق دون أن تحسب لمن تسلم هذا السلاح الخطير!

(3)

وأنا في القطار في طريقي للاستمتاع بالعروض والدنيا كلها أتتني من اليابان وأمريكا وكوريا وتايلاند تلقيت مكالمة من شخص كلف بتأسيس قناة فضائية في وطني الجريح، وهو يريد مني الاستشارة، فسألته ما هو الشوط الذي قطعتموه في تأسيس فضائيتكم فأجابني وصلتنا أجهزة للقناة (بالكاغد)! والكاغد هي كلمة فارسية وتعني عندما تقول اشتريت سلعة بالكاغد معنى ذلك أنها جديدة أي ملفوفة بالورق الخاص بها ولم تفتح بعد. وكلمة (الكاغد) دخلت اللهجة العراقية في بداية القرن العشرين بداية تأسيس الدولة العراقية حيث بدأت تتسرب اللغة الفارسية للعراق ودخلت بعض المفردات حتى في الأغاني العراقية فيصف المغني حال قلبه لحبيبته الذي أصبح مثل الورقة المبتلة بالماء، قائلاً (كاغد وجاسه الماي قلبي). سألت صاحب المكالمة ثانية وإلى أي جيل تنتمي معداتكم وهل هي من جيل واحد أم متعددة الأجيال والمصادر فأجابني مرة أخرى (إن المعدات وصلتهم بالكاغد) ففهمت أنها جديدة ولا يعرف التفاصيل فأردت أن أبسط له الأمر وقلت له عندما تذهب إلى معرض السيارات فأنك تستطيع أن تشتري سيارة بالكاغد موديل 2000 ولكن توجد سيارة أخرى بالكاغد موديل 2007.. وإذا كنتم اشتريتم معداتكم بالكاغد فما هو مطلوب مني قال لي أن تبرمج لنا القناة. فقلت له هل تعلم بأن للبرمجة والبرامج علاقة بجيل المعدات والتطور التقني في الصورة. قال كيف قلت له مهما أبدعت في كتابة وتنفيذ برنامج ما فإنك يمكن أن تسقطه في العادية إذا كان شكله الفني غير قياسي سواء في نوع الصورة أو نوع الصوت.

انتهت المكالمة عند هذا الحد وعرفت منه أن المعدات وصلتهم (بالكاغد) أي أنها غير مفتوحة بعد.

(4)

كيف سنحل المشكلة؟ مع من نحل المشكلة؟

يبدو لي نحن مطالبون بحل المشكلة مع أنفسنا، فنحن في معركة مع الداخل والمشكلة تكمن في الوجود لا في الحدود. الوجود ينجزه الوعي والحدود هي معركة سياسية وعسكرية وفيها قاتل ومقتول. ومشكلتنا تكمن في الوعي. وهذا الوعي مطلوب تصفيته فينا وتدميره وإنهائه، ولذا فإن نظرة واعية إلى الثقافة المرئية الحاضرة تؤكد أن تدمير الوعي للناطقين بالعربية واضح من خلال نوع ومستوى الأداء الثقافي وهذا واضح بشكل جلي في عراق الغد الديمقراطي المبتلى بالهجمة الجاهلية.

وفي القنوات الشرق أوسطية نلاحظ أيضاً غياب برامج الأدب والفن والمسرح والسينما وهي أن ظهرت فحجمها ضئيل قياساً بحجم البرامج الهزيلة وحتى فلسفة الضحك الجميلة والمبهجة للنفس الإنسانية والتي ترتقي بها إلى مديات خيالية تزكي النفوس فإنها تحولت إلى أعمال تهريج ونكات وحركات بذيئة تنعكس على السلوك الاجتماعي بالضرورة.

إن التطور التقني الذي تجمعه المعارض الدولية لا ينفصل عن نوع الثقافة وبدون هذه العلاقة العضوية فإن معادلة الثقافة المعاصرة تعيش في حالة من الانفصام. عندما تعرض شركة عملاقة كاميرا حديثة وتريد أن تستهوي عشاقها فإنها تبني مشهداً من مكونات الواقع وينظم خبراؤها هذه المكونات بقيمة تشكيلية تبهر النظر ومسندة بتوزيع ضوئي حتى إذا ما رغبت باختبار الكاميرا في التصوير وأنت تراقب المعرض، تستطيع أن تعرف مديات الكاميرا وقدرتها في التقاط عمق الصورة وبدون هذه العملية فإن الكاميرا تفقد قيمتها وقدرتها، فعملية بناء المشهد لا ينفصل عن قدرة التقنية. من هنا تأتي مسألة الوعي لدى منجزي الثقافة الجديدة. فإذا كانت العملية قصدية في تقديم ثقافة الاستهلاك وثقافة ضياع الوقت وثقافة الإهمال، فإن العملية سائرة في طريقها المرسوم وبنجاح، وإذا كان العكس فعلى كل المؤسسات الثقافية ومن يقف وراءها أن تعيد النظر في قوانينها وحرياتها المسؤولة وإعطاء (الخبز بيد خبازته) لأن الإنعكاس على مستوى الجيل القادم سيكون كارثيا على المدى المنظور. عندما زرت معرض التقنيات لم أشاهد سوى بضعة أشخاص عرب حضروا للاستفادة من هذا المعرض العالمي في حين تكثر الفضائيات وتتكاثر كل يوم وهم بحاجة إلى الأجيال الحديثة التي تقوي الصورة وتقلل الكلفة الإنتاجية لأن المعدات التقنية صغر حجمها وكبرت فاعليتها. فبدلاً من أن نذهب ونتجول في أنحاء العالم فإن العالم يأتي إلينا، وسؤالي لماذا لا تستضيف بعض البلدان العربية المستقرة مثل هذه المعارض، شركات ذات تخصص في معارض صغيرة تدعو إليها شركات العالم وخبراءها لعقد مؤتمرات وندوات يمكن أن تحقق الفائدة وتجعل ليس فقط أصحاب البث التلفزيوني بل حتى الجمهور العادي وطلبة المدارس والمعاهد والجامعات أن تتعرف على آخر مبتكرات الدنيا في مجال العلم والاختراع وفن الصورة والصوت اللتين صارتا تذهلان المتلقي في العالم للتطور النوعي في جزيئات الصورة والصوت فنرى مثلنا مثل بشر الدنيا صورة مجسدة جميلة الاستقبال وصوتاً يطرب السمع ولا يؤذيه أو يخدشه. ونتعلم بأن التقنيات الكثيرة والجديدة ليست بالضرورة منتمية إلى الجيل الجديد حتى وإن وصلتنا (بالكاغد). والمهم أن لا تكون عقولنا مغلفة بهذا الكاغد وحينها تحصل الفاجعة!

- هولندا sununu@wanadoo.nl


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة