Culture Magazine Monday  01/10/2007 G Issue 218
فضاءات
الأثنين 19 ,رمضان 1428   العدد  218
 

محمد أياد العكاري: الشعر والطب
عبد الله بن أحمد الشباط

 

 

الأحساء تلك المجموعة من المدن والقرى المتناثرة بين واحات النخيل التي تتخللها قنوات الري المنبعثة من الينابيع محظوظة أولاً بموقعها الفريد وسط الشريط الساحلي للخليج العربي من ناحية، وثانياً بالمبادرات التي تصدر من أهلها ترحيباً بكل وافد إليها، وثالثاً بأن حباها الله بعدد من الوافدين على مرّ الأزمان من الدعاة والعلماء ورجال الفكر الذين ما أن يلقوا عصا التسيار في ربوع الأحساء ويلتقوا ببعض رجالها حتى تحلو لهم الإقامة الدائمة، والمثال الذي بين يدي الآن الدكتور محمد أياد العكاري القادم من بلاد الشام للإسهام في بناء النهضة التي تشهدها المملكة؛ إذ قدم متعاقداً مع رئاسة الحرس الوطني كطبيب للأسنان، لكن ما أن وطئ أرض الأحساء واحتكّ ببعض فضلائها حتى قرّر الإقامة بعد أن رخّص له بافتتاح عيادة لطب الأسنان بالأحساء؛ حيث وجد في المجتمع الأحسائي أهلاً ووطناً ومقاماً كريماً إحاطة بالطمأنينة والكثير من التقدير وأوسع مقاماً في كل منتدى بعد أن تفتحت أمامه القلوب فبادلته حباً بحب وتقديراً بتقدير، فأخذ يشدو أشعاره النابعة من إحساسه المرهف يبثّ أشواق نفسه وروحه معبراً عن لواجم الحب شعراً رائعاً.

والدكتور العكاري منذ أن قدم إلى الأحساء وهو عضو فاعل في الحراك الثقافي لا في الأحساء وحدها بل في المنطقة الشرقية؛ فهو حريص على ملازمة الأحدية الثقافية التي التزم بها (شيخنا وأديبنا أحمد بن علي المبارك) والمشاركة في فعالياتها، كما أنه يحرص أشد الحرص على حضور الأمسيات الأدبية التي يقيمها النادي الأدبي بالدمام ويشارك فيها أحياناً؛ لذلك فقد نشأت بينه وبين الشيخ أحمد المبارك علاقة حميمة، كما هو الشأن مع بعض أفراد الأسرة الكريمة، ومن تلك العلاقة يحدّثنا عن نموذج امتزجت فيه العواطف الأخوية بالروحانية عندما حدّثه الدكتور محمود بن محمد آل الشيخ مبارك أستاذ القانون الدولي في جامعة الملك فيصل برؤياه للنبي صلى الله عليه وسلم وصاحبيه أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، قال الشاعر: فترقرقت عيناي بالدموع وهو يسرد علينا رؤياه متأثراً بهذه المكرمة التي شرف بها وتألقت بنورها الأحاسيس والمشاعر:

رؤياك إسراء لأعلى سدة

شماء فيها الحمد والتحميد

تهفو لها الأرواح نرجو وصلها

ما كل من طلب الوصال برود

فهو انتقاء واصطفاء منحة

خير الخلائق يحتفي ويشيد

وها هو يصف مقدمه إلى الأحساء تحت عنوان (ما أشبه هجر بطيبة): (كانت كل قطعة مني متمنعة عندما قال لي الدكتور محمد الشهاب قبل أكثر من عشرين عاماً، وهو من أسرة معروفة في الأحساء، وكان يشغل منصب مدير عام الخدمات الطبية في الحرس الوطني، وهو نسيب لآل الشيخ مبارك، وكنا في مكتب وكيل الحرس الوطني في الرياض، وكان آنذاك الأستاذ عبد العزيز العلي التويجري، قال: إننا سنوجِّهك إلى الأحساء بعد أن خيَّرني بينها وبين حائل، كانت رغبتي أن أكون في البقاع المقدسة، فأومأت بالموافقة، وكلِّي رفض وممانعة، وخرجت من مكتب الوكيل مع الدكتور محمد الشهاب والدنيا كلها تدور برأسي بعد أن أبعدت عني رغبتي لمدينة لا أعرفها ولم أسمع عنها من قبل، فطيَّب الدكتور خاطري وقال: لا عليك، ستحبّ الأحساء..! وكأنه يستشرف المستقبل، وتمرّ الأيام ويأتي الدكتور محمد الشهاب في زيارة تفقدية إلى الأحساء بعد عدة سنوات، ويزورني في عيادة الأسنان في مستوصف الحرس الوطني؛ حيث يقدم المستوصف لمنسوبيه خدمات جلى، وهو يقع داخل المدينة السكنية للحرس الوطني، جميل التصميم، جيد التنظيم، يحوي جميع التخصصات، قضيتُ فيه أحد عشر عاماً هي درة شبابي ولله الحمد، وشعرت فيه أنني بين أهلي من جنود وضباط الحرس الوطني زادهم الله قوة ومنعة. فلما زارني في العيادة سألني: كيف حالك الآن؟ فحمدتُ الله. ثم أردف قائلاً: وهل ترغب في الانتقال من مكانك؟ فقلتُ: شكر الله لك، لقد ألفت الأحساء وألفتني. فتبسم وانصرف ضاحكاً وكأنه يذكِّرني بالماضي. أما وقد عرفت الأحساء وعرفتني، وخبرت أهلها طوال عشرين عاماً تنسمت هواءها واستظللت تحت سمائها، ذقت لفح هجيرها، وجلست في أحضان نخيلها، تعلَّمت من علمائها، واستفدت من أدبائها، وطربت مع شعرائها، شاركتهم مشاعرهم وأحاسيسهم، أحببتهم من أعماقي، ألفت الأحساء هذه البلدة الطيبة المعطاء، بلدة العلم والدين، ومدينة الشعر والأدب، وموطن الخضرة والنخيل، وموئل الألفة والظل والظليل. إنها البلدة التي برزت في مخيلة المصطفى عليه الصلاة والسلام وخطرت بباله لما رأى في المنام أنه يهاجر من مكة إلى أرض بها نخل: عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (رأيت في المنام أني أهاجر من مكة إلى أرض بها نخل، فذهب وهلي إلى أنها اليمامة أو هجر، فإذا هي يثرب...) الحديث، أخرجه البخاري ومسلم. فما أشبه طيبة بهجر، وما أقربهما إلى القلوب، وقليل مني أن تعزف لها الحنايا بهذه الأبيات:

يا لحسن الأحساء يا لرؤاها

صاغها الله تحفة للعباد

روضة الخير والنخيل حنون

سعفة ماس عطفه كالمهاد

أنسه غامر وظل ظليل

ونسيم مداعب بابتراد

فكأن الصبا تحنّ إليها

بربيع مضوع وارتياد

أو تراها للعاشقين ملاذاً

دفقة السحر جذبها بوداد

ولقد أعجب الدكتور العكاري بالمجتمع الأحسائي وتلك المجالس الأدبية، فكتب عن ذلك: الأحساء بمجالسها الأسرية والأدبية وشعرائها وأدبائها عرس ثقافي متميز، وظاهرة حضارية نادرة في زمان تتسارع فيه الأحداث لتطأ بأخفافها علينا من وقعها الشديد.

فإذا استعرضنا مجالسها الأسرية لرأينا البر والصلة، والأواصر والوشائج، والعلوم والآداب تتلألأ في ساحاتها وفضاءاتها، حتى إنه أذهلني أن أحد مجالسها الأسرية لم ينقطع منذ مائة وستين عاماً حتى الآن، وهو مجلس آل الشيخ مبارك، ناهيك عن المجالس الأخرى المباركة.

وإن استعرضنا المجالس الأدبية في منطقة الأحساء لبرز رائداً مجلس الشيخ أحمد بن علي آل الشيخ المبارك عميد الأدب الأحسائي وعميد أسرة آل الشيخ مبارك حفظه الله ورعاه الذي ترك بصماته الأدبية وخبرته المعرفية والثقافية جلية في الأحدية التي دخلت عامها الخامس عشر.

ثم هناك المجالس الأدبية الأخرى كإثنينية النعيم، وثلاثائية العفالق، وسبتية البوخمسين، وسبتية الموسى، وغيرها، وكل هذه المجالس تثري المنطقة أدباً وشعراً، معارف وفكراً وثقافة وعلوماً.

أجل، فالمجالس الأدبية واحات فكر، وحدائق آداب، ومجامع علوم وثقافات، يثري الإنسان منها معارفه، ويشحذ بها فكره، ويقدح بها قلمه، ليقرأ في كل ندوة كتاباً من خلال الموضوع الثقافي المطروح، ثم من خلال المناقشات التي تليه ليستجلي الموضوع من جوانبه العديدة، ويراه برؤى مختلفة، وأيّ عناء وثراء له في هذا، والدكتور العكاري شديد الإعجاب بندوة الشيخ حمد بن علي المبارك (الأحدية)، وقد أشاد بها في قصيدة جوابية للدكتور عبد الرحمن الصوف قال فيها:

فالأحمدية خيرها متدفق

والأحمدية ما لها من أوس

والأحمدية ذخرها بعميدها

وبدرها المنثور مثل الشمس

يا رب أنعم بالمكارم والهدى

واجعل لنا بالبر خير الغرس

واشدد على درب الفلاح نفوسنا

وأهدِ الجميع لجنة الفردوس

ولقد أعجب بالمجتمع الأحسائي وشارك كالوجن المثقفين جلساتهم المتجمعة تحت الأغصان الوارفة في العيان المعمرة، وها هو يصف إحدى تلك الجلسات:

قباب للندى والخير طلت

تحيينا فكالأم الحنون

تسامرنا توشوشنا بهمس

تعانقنا بشوق للبنين

تعالي باسقاً والتاج حان

على الولدان في حنو ولين

وتفرش سعفها أنساً ولطفاً

وتشمخ عالياً طول السنين

وتدلي أضرعاً تسقى رحيقاً

من الرطب الشهي فكاللبون

ترصعت النخيل بخير زاد

وفي الأنظار كالدر الثمين

وكالذهب النقي إذا تبدى

تلألأ مشرقاً في نحر عين

فهامت أعين بالنخل حباً

ويا للنخل من خلو الرنين

ويا للأنس في الواحات طرا

ويا للحفل من حلو الشجون

وبين النخل أشجار تراءت

من الليمون مزداناً وتين

ويعلو العشب بينهما قشيباً

ليكسو الأرض في حلل الفتون

وعندما دعاه صديقه الدكتور محمود ابن الشيخ محمد المبارك لحفل زفافه اغتنم هذه الفرصة للمناسبة السعيدة للإشادة بأسرة آل الشيخ مبارك:

آل المبارك دمتم في ربوعكم

فضلاً وعزاً مدى الأزمان يعطيها

والعلم والحلم ركز من ركائزكم

والمجد ما أثقلك صرحاً من مبانيها

والفكر يأرز والأشعار نبض هدى

مأنتم موئل إلا أب مهدوها

والدين تاج الحجى في لبكم ألن

لا خيب الله من بالدين يحييها

وعندما بلغه نعي شاعر الأحساء يوسف أبو سعد رثاه بقصيدة جاء فيها: جاءني نعي الشاعر الأديب الأستاذ يوسف عبد اللطيف بوسعد صاحب القلب الكبير والأدب الجم والشعر المتدفق العذب، فكانت (وداعاً شاعر هجر):

أأرثيك؟! لا والله ما كنت مزمعا

وفكرت يوماً أن أكون مودعا

تصدع قلبي مذ تناهى لمسمعي

نعي يدوي بالهفوف مروعا

صمت وخار العزم مني وقوتي

وأمسي فؤادي بالمصاب ملوعا

مضى صاحب الفن الجميل وريشه

تصوغ بألوان اليراع روائعا

تموج بحور للخليل بصدره

جمالاً وسحراً عبقرياً مرصعا

تطل عذارى الشعر منها كأنها

عقود جمان كالشموس سواطعا

وأرخى عنان الحرف أطلق حسه

ليمخر في عرض البحور مشرعا

ويعزف ألحاناً على (الناي زفرة)

لتشجي (تقاسيم الشجون) المسامعا

وتلقي (بقايا للرذاذ) يحوطها

(شواطئ حرمان) تهيج مدامعا

بكيتك يا بحراً من الحس مرهفا

نفيس اللآلئ بحترياً مصرعا

بكيتك خلا صادق الود صافياً

بكاك جناني ألمعياً تربعا(1)

إن هذه النماذج والإشارات المقتبسة من تلك الروضة الغناء التي احتوت على كثير من الأشواق المنطلقة من قلب متيّم بحب الحياة المفعمة كبدي النبوة وحب من حوله ابتداء بأفراد أسرته وأصدقائه ومحبيه وكل من تجمعه معهم رابطة الأدب حاولت أن أقدمها دون رتوش؛ حيث إنها فرضت نفسها التزاماً باللغة الفصحى ونهج شعري يذكرنا بالمتنبي وأبي تمام، وعسى أن أكون أعطيت هذا الشاعر الأديب الدكتور محمد أياد العكاري بعض ما يستحقه.

(1) ما بين الأقواس أسماء دواوين الشاعر يوسف أبو سعد رحمه الله

- الخبر


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة