Culture Magazine Monday  01/10/2007 G Issue 218
قراءات
الأثنين 19 ,رمضان 1428   العدد  218
 

قيم الحياة وجمالية القصيدة الشعرية
قراءة في ديوان (متدثر بالبياض) للشاعر عبدالله السميح

 

 

تتجلى القصيدة عند الشاعر عبدالله السميح بوصفها إطارا جماليا للإفضاء الذاتي، والتعبير عن تجربة الذاتية في قراءة العالم، والكشف عن مكنونات الحالات والمواقف الصغيرة والكبيرة التي تطرأ على الذات الشاعرة.

إن عبدالله السميح دائما ما يجعل للقصيدة نسقا دلاليا، أو بالأحرى نسيجا كلاميا يلملم فيه أطراف تجربته، ويعطي للقارئ مضامينها ومغازيها المعبرة.. هكذا تبدو القصيدة عنده بمثابة الوعاء الشكلي الذي يستوعب مضمونا ما، وهو بهذا يخرج عن الآفاق التي تبدو فيها القصيدة بمثابة تجربة في اللغة أو الكتابة، أو الاستبطان النفسي للذات، أو التحليل الجمالي الكاشف، المختبر للعالم.. فالقصيدة عنده عمل تلقائي، يتزين باللغة الشعرية، ويعبر عن حالاته ومواجيده الذاتية.. والعالم الشعري منضد، ومجهز، وما عليه هنا سوى إعادة التنسيق والترتيب، والتزيين. هكذا ينبئنا ديوانه (متدثر بالبياض) الصادر عن نادي الطائف الأدبي في طبعته الأولى 1427هـ، فالهمّ الجوهري الذي يبدو طافيا هنا هو أن الشاعر يلوذ بالقصيدة بوصفها وعاء جماليا يحتضن مضمونا ما، أو حالة ما، وهنا تترى القصيدة في إطار التعبير والإفضاء، لا في نسق التجريب أو المغامرة أو الكشف.

إن هذا الاصطفاء التعبيري جعل الشاعر يرسخ، مقولة المعرفة الجمالية، عبر الصورة، الخيال، التكوين التزييني، المعنى الذي تصوغه التجربة لا اللغة، علوّ الأنا وسطوعها بدلالات الصدق والنقاء والشموخ، المعرفة الجمالية بالقصيدة، وهذه المعرفة تقودنا بلا ريب إلى قراءة قصيدته على أنها نموذج تعبيري دال، لا على أنها نموذج تجريبي، وهنا فإن عبدالله السميح يعطينا لوحات شعرية، بتصاميم مجددة، وبألوان تنتقش فيها الذات، بوصفها صائغة، ومنسقة، ومرتبة، وصانعة للحدث الشعري الجمالي.

قيم الحياة

الذات الشاعرة هي محور قصائد الديوان، وفي ظل ذلك ينتج السميح صوره وأخيلته، إنه يطل من عالم رومانتيكي بالأساس، وهنا تحضر الحقول الدلالية الوجدانية، ومفردات الطبيعة، والمفردات السماوية : الشمس، القمر، النجوم، الكواكب، والمفردات الحسية التي تعبر عن الزمن، والضوء، والعتمة، والمكان.. إنها قيم الحياة الشعرية المؤثثة والمتمثلة معا، وهي القيم النموذج التي إن لم تكن موجودة بالفعل، فهي موجودة بالقوة في الوعي الجمعي.

يحتوي ديوان (متدثر بالبياض) على (47) قصيدة، ويصطفي الشاعر البنية القصيرة للتعبير عن فضاءات تجربته، وهذا الاصطفاء يجعل قصائد الديوان تترى في سياق ينطوي على الكثافة، والتركيز، والتجريد الذي يجعل من الحذف بنية، ومن التعبير بأكثف العبارات نهجا جليا خاصة في القصائد التفعيلية. وتتمثل القيمة الجوهرية في الديوان في الاعتداد بالذات الشاعرة، وهو هنا يجعل من دالة (الشموخ) عنوانا دلاليا جليا في التعبير عن الذات، ويتأدى هذا في قصائد عدة بشكل واضح منها: (السراب), (الهشيم)، (تداعيات ربما) و(خيول الصباح) على سبيل التمثيل، يقول في (خيول الصباح):

ستخبر عني رياح الوفاء

بأني أكبر من هؤلاءْ

أنا ما انحنيتُ لوجه الظلام

وهم دأبهم ذلة وانحناءْ

أنا ما تنزَتْ على هامتي

بسقط الخنوع فلول الرياءْ

ويتجلى هذا الاعتداد بالذات حتى في القصائد الغزلية، فليس ثمة من ترقب أو انتظار للمحبوبة، أو بكاء على أطلال المواعيد الضائعة، أو استجداء للتواصل، بل إن الذات الشاعرة تترك ذلك كله، لتبدي قدرا من القوة الوجدانية حيال الآخر حتى لو كان الآخر هو الحبيبة، يقول في (شموخ):

يا ابنة الحسن أنا رغم القلى

نظرتي فجر وإطراقي إباءْ

لن تطالي من شموخي لفتة

أو تنالي من جلال الكبرياءْ

فاخدعي غيري فدوني عفة

تتباهى بوقار الأتقياءْ

وهذه الذات الحاضرة في الديوان بشكل جلي، تعبر أيضا عن مجالين دلاليين أثيرين هما: (الاغتراب) و(الحنين)، وهما مجالان كثيرا ما يتماهيان شعريا في الشعرية العربية القديمة والمعاصرة والراهنة، وفي بيت دال يصور هذا الاغتراب الذي ينسحب على كل الأماكن، وعلى الذات نفسها، هذا البيت الذي ينهي به الشاعر قصيدته (التيه):

تمر غريبا في المدائن كلها

وتنفرُ من معنى خطاك الشوارعُ

إن السميح يبدي في هذه القصيدة قدرا كبيرا من الاغتراب المكاني والنفسي، إنه يحقق شعرية اللا مكان إذا صح التعبير، فالمكان ليس بحضوره الجمالي - بتعبير جاستون باشلار فحسب - بل بغيابه واستدعائه، وهو ما يتبدى بجلاء في قصائد السميح، فهو يستهل (التيه) بهذه الأبيات:

نأتك رباب واجتوتك أميمة

فهمت اشتياقا والدروب المواجعُ

عكفت على بيد النوى ترقب المدى

ولما تزل تسطو عليك المرابعُ

تصباك من (رمث) الحمى عابق الهوى

وشوقك مشبوب وشعرك دامعُ

فهل ثَم مسرى والدروب خرائب

وكل قلوب الراحلين بلاقعُ

في ظل هذا الأفق الاغترابي - الحنيني تنطلق تعبيرات كثيفة لدى السميح، كما في قصيدة: (معزوفة للبكاء في أعياد الميلاد) التي يستدعي فيها (الوطن) عبر

عبق الرائحة في لحظة عابرة:

حينما اشتم في لحظة عابرة

عبقا قادما من تراب الوطن

فظل يجوس بآلامه خلال المكان

يتفرس في أوجه العابرين

وتعرض عن وجهه السابلة

إن حضور الذات الشاعرة في التجربة الشعرية في هذا الديوان يعطي للتجربة خصوصيتها، خاصة حين تتأمل هذه الذات تفاصيل الواقع بأحداثه، وشخوصه، وأمكنته، ويصبح الوطن علامة على الذات، والذات علامة على الوطن، فالرياض رياض الشعر، وسيدة المدن، وعذراء الرمال، والشخوص الحاضرة ممدوحة أم مرثية هي شخوص طالعة من نسغ هذا الوطن، وهي سواء استثمرت كقناع أو كحالة تعبيرية تحتضن التعبير الشعري حين يتحول هذا التعبير إلى رمز، هكذا نجد في القصائد المكتوبة عن بعض الشخصيات البارزة في الديوان، حيث يستلهم الشاعر تجربة هذه الشخصيات الحياتية كوجوه طالعة من حيوية الوطن وتاريخيته وتفاصيله الواقعية.

إنها قم الحياة، الحياة الواقعية وحياة الشعر التي يبوح فيها الشعر عن مكنوناته، عبر جمالية القصيدة وفضاء الأبجدية.

الموروث قناع أم رمز؟

ما الذي يجعل عبدالله السميح يعبر بهذه اللغة الحاضنة لكمّ ملحوظ من المفردات الموروثة؟ وهل هذه المفردات ما زالت في حيويتها وتوهجها لتعبر عن الزمن الراهن؟

وهل لكل زمن شعري مفرداته وتعبيراته؟ وكيف يمكن النظر إلى قصيدة شعرية راهنة تستثمر المعجم الشعري القديم؟ وهل يمكن أن يولد هذا المعجم صورا شعرية جديدة مبتكرة عصرية؟

إن استخدام الحقول الدلالية الموروثة شعريا ينظر إليه من خلال رؤيتين:

- الأولى: استخدام هذه الحقول بمفرداتها وتعبيراتها وشخوصها ووقائعها كأقنعة ورموز تسقط على العصر الراهن؟

- الثانية: التقليد الشعري، واستجلاب حالات ومواقف شعرية عبر عنها سابقا بالتعبيرات والرؤى ذاتها. فأين تقف شعرية السميح في هذا الديوان من ذلك كله؟

يبدو أن السميح يقدم في ديوانه ما يمكن تسميته بشعرية التماثل، إنه يسعى للتماثل مع الشعرية العربية الموروثة، ويعبر من خلالها خاصة في القصائد العمودية التي يستعبر فيها الطلول، ويتذكر، ويغتدي بالخيل، ويذهب مذاهب القدماء بوصفها حالة تعبيرية شعرية جاهزة، ولننظر إلى بعض هذه الأساليب الموروثة:

قال الذي ألوى بآثارهم

وبات يستجدي نحيب الطلول

كانت إذا ما مشت في الحي وانتقبت

وشى بها حيث ألقت خطوها العبقُ

يرتادك الحزن أو يعتامك الوجل

حتام أنت على الآهات ترتحلُ

وهل يرعوي من لا يبالي بسقطة

إذا ما تغشاه من الأمر فادحهْ

تسامى عن التشبيب والعشق شاعر

تنحت به عن ربع (ليلى) مطامحهْ

إن الشاعر يستخدم الأساليب الإنشائية والخبرية الموروثة، فضلا عن التعبيرات الجاهزة مثل: (ولقد ذكرتك...) أو(كليني لهم...) أو: (يا صاحبي قفا...) أو (خليلي...) أو يستعبر الأطلال والمرابع، وهذا كله يتأدى بعيدا عن نسق القناع أو الرمز، فما الذي يدفع الشاعر لخصام واقعه اللغوي، وراهنه الحياتي ويلجأ إلى هذا القاموس الموروث؟

لقد فعل شعراء الإحياء سابقا لدى البارودي وشوقي وإسماعيل صبري وحافظ إبراهيم والرصافي والزهاوي ما يفعل الشاعر الآن، لكن كانت مرحلة الإحياء الشعري تتطلب هذه العودة إلى النموذج القديم، ثم كان استثمار التراث في الشعر الحديث تعبيرا عن مأزق التاريخ المعاصر، عبر القناع الشعري أو تحويل التاريخ إلى رمز؟ لكن لا نجد ذلك لدى السميح، ويبقى السؤال مشرعا في قراءة قصيدة السميح في هذا الديوان: ما دلالة استخدام عبدالله السميح لهذه اللغة الشعرية الموروثة؟ وهل حقق بها تجديدا ما أو إضافة ما في نسق القصيدة؟

إن شعرية عبدالله السميح هنا، على الرغم من هذا الأفق اللغوي، يتحقق فيها الاعتداد بالذات الشاعرة، وبقيم الحياة، وبتفاصيل المكان، وبدلالات الوطن، وكثافة حضوره التي لا تفارق القيم الجمالية والتعبيرية في قصيدة الشاعر، حاضرا، أو مغتربا، أو متشوقا لذكرى، أو لحظة، أو قبس من أمل.

- الرياض


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة