الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الجزيرة
Monday 1st November,2004 العدد : 83

الأثنين 18 ,رمضان 1425

ظفار.. قصة الحضارة في معجم الذاكرة
3 الجبل
د. سلطان سعد القحطاني

تحدثنا في الحلقة السابقة عن المظاهر الطبيعية في سهل صلالة، ولنا أن نتحدث الآن عن الجبل، وهو القسم الثاني من الطبيعة الظفارية، وكانت الاخوار والموانئ عماد حياة السكان، أما الكهوف في الجبال فحدث ولا حرج، ففي ظفار (كهف طيَق) بفتح الياء، أكبر كهف في السلطنة، وثاني كهف في العالم كما يقول السكان ويقال ان بعض الأماكن فيه لم يدخلها إنسان إلى الآن، ويطل على المحيط كهف آخر اسمه (المنيف) في منطقة المغسيل التي مر ذكرها. ويقع في ولاية مرباط كهف طوي أعْتِير، يقع عند مدخله حفرة يبلغ عمقها 150 متراً، ومساحتها 500 متر، يحذر السكان من النزول فيها، ففيه مخاطر كبيرة. وهناك الكثير من الكهوف التي يرتادها الرياضيون وعشاق المغامرات في العالم، من السياح الاجانب وغيرهم، من كل العالم. وهناك من الجبال الشاهقة العديد، منها جبل نوس، وجبل جشم، وتقع في منطقة حدبين، التي يقال ان فيها قبر النبي صالح بن هود عليه السلام على بعد 170كم، عن مدينة صلالة. وقد اشتهرت هذه المحافظة بكثرة تنوع مصادر الآثار والطبيعة البكر، التي لم تطمثها التكنولوجيا، وتغير من ملامحها الرئيسية، لكنها تعايشت مع المنجزات الحديثة بكل ثقة واطمئنان، وحافظت على هذه الآثار النادرة، ولم ينصرف العمانيون إلى غيرها من المنجزات الحديثة، مثل الحصون، ومنها: حصن طاقة، وحصد سدح، وحصن مرباط وتدل هذه الحصون على أهمية المنطقة الاستراتيجية، فقد قامت لحمايتها من الغزاة، وهذه علامة بارزة في كل السلطنة وتزول الغرابة عندما نجد الخطى الحديثة تسير على هدي من عبقرية القائد الذي لم يزج بها في احضان العولمة دفعة واحدة، بل سارت البلاد كلها على خطى مدروسة وجرعات منظمة، وبالتالي أمكنها ان تأخذ من الحديث أحسنه، وتحافظ على الماضي بتراثه المتفق مع التطور والحداثة، دون مصادمة تفسد الطرفين، فقد استلهمت حاضرها من ماضيها، بعد الركود الذي انتشلها منه جلالته، حيث يقول في خطاب ألقاه في 18 نوفمبر سنة 1974م: (كان لزاما علينا ان نبتدئ من الأساس ومن واقعنا، وهذا الأساس هو الشعب في عمان، وقد سلكنا مختارين أصعب السبل، لنخرج به من عزلته ونأخذه بعيدا إلى طريق العزة والكرامة، وفي نفس الوقت تحملنا مسئولية حمايته من التمزق والضياع، واحياء حضارته، واستعادة أمجاده، وربطه ربطا وثيقا بالأرض ليشعر بعمق الوطنية، ومدى التجاذب بين الإنسان العماني وبين أرض عمان الطيبة).
يقول الذين عاشوا قبل سنة السبعين الميلادية من القرن العشرين: كلنا لا نعرف من أدوات الحضارة الحديثة شيئا قبل سنة 70، كنا نبهر عندما نجد شخصا يقرأ بالنظارة أو يستعمل القلم في منطقة الخليج أو الهند، وكنا نجلب معنا الهدايا المستغربة إلى البلاد، مثل أقلام الباركر، وفي العهد الميمون تعاملنا مع السلع الحديثة بأسمائها دون خوف منها، ودخل ابناؤنا المدارس الحديثة، وسافر البعض منهم إلى أوروبا وأمريكا، وعادوا بالشهادات العالية. ولم تغيرهم حياة المدنية الحديثة عن تراثهم العزيز على أنفسهم، ولا عن رمز بلادهم (اللبان) وعندما تحدثنا عن ظفار المحافظة بمقدمة مختصرة لم نتكلم عن أهم مصادرها الاقتصادية، لأن هذا الموضوع يحتاج منا إلى حديث يليق به، ولأهمية هذا المنتج صار شعار صلالة شجر اللبان، وحق لها ذلك ان تفتخر بتراثها الاقتصادي، وعندما نقول صلالة فإنما نقصد ظفار، فالاسمان مترادفان في عرف أهل هذه البلاد، وسبحان الذي ميز هذه البلاد بهذه الشجرة العريقة النسب الظفاري، وليس اللبان فقط في ظفار بل يوجد في كثير من البلدان العربية وغير العربية، ولم يكن له تلك الشهرة التي اشتهر بها اللبان الظفاري، ولا شك ان جودة هذه المادة عالية، حسب ما تذكر المصادر، لكنها ليست الشجرة الوحيدة في ظفار لتكون شعاره دون غيره من المزروعات والأشجار المثمرة، فجوز الهند والموز و(الفافي) وغيرها تصدر من هذه المنطقة ولم يكن لها ذكر سطع
نجمه مثل اللبان، حتى ان بعض المؤرخين قال: إن اللبان لا يوجد إلا في ظفار!!، وهذه مغالطة تاريخية، بيد ان هذه الشجرة قد اخذت شهرة فائقة في عالم التجارة، بل ان مادتها ذكرت في كتب التاريخ القديم، مشيدة بها وبأهلها الضخام الذين يحرسونها، مثلما ذكر في الوثائق المصرية، وما ذكره الكتاب الاغريق والرومان، أمثال (هيرودوت وسترابو، وبليني، وديو دروس، وبوليمي) وغيرهم، عن ارض اللبان، وهذا يعني ان ظفار معروفة بهذا المنتج منذ القدم، وهذه حقيقة اعتقد انها لا تقبل النقاش او الاثبات، لكونها تجارة رائجة إلى اليوم، ولكونها مادة علاجية، إضافة إلى رائحتها الزكية، كبخور في المنازل، وإلى كونها من المعتقدات الموروثة في عمان ومنطقة الخليج العربي، كون المنطقة مشبعة بالرطوبة وتحتاج إلى بخور يمتص هذه الرطوبة، ويجفف المنازل اثناء النهار، وهذه ليست من المعتقدات الروحية عند سكان الخليج العربي، كما هي عند الأقوام القديمة أصحاب الروحانيات والمعتقدات الوثنية، مثل المصريين، والفرس والهنود والصينيين، وعندما قمت بترجمة كتاب الصحفي المعروف، اندرو تيلر (رحالة الرمال) رجعت إلى ما كتبه عن الرحالة (ثيسيجر) الذي عاش لسنين طويلة في منطقة الخليج العربي وجبال عمان، وكتب كتاب الرائد في عالم الرحلات والاكتشافات (الرمال العربية Arabian Sands) تحدث فيه عن الرحلات القادمة من أطراف الخليج العربي، في شرق الجزيرة العربية، متجهة إلى الغرب حيث تجارة اللبان العماني المشهور، والبخور الذي يستخدمه الكهان والأطباء كنوع من الدواء، ويذكر ثيسيجر، ان هذه التجارة انتعشت في القرن العشرين، وانه رافق هذه القوافل، وانها لم تتوقف على تجارة اللبان فقط، بل كان بجانبه الكثير من السلع التي تأتي من الهند وافريقيا، مثل العطور والحرير، والتوابل، والأحجار الكريمة، ويتحدث عن ازدهار هذه التجارة قبل 1500 سنة. هذا ما قاله رحالة كتب عن مشاهداته، في القرن العشرين وعما قرأه عن هذه التجارة، فماذا قال المؤرخون الآخرون، من عرب وغيرهم؟
يذكر المؤرخ العربي ابن بطوطة: ان اسواقها (ظفار) من أكبر الأسواق. ويذكر الرحالة والمؤرخ الايطالي (ماركو بولو) في القرن التاسع عشر تجارة اللبان مع الهند، والملاحة العربية العمانية وتجارة الجياد العربية. ويقول الرحالة (برترام توماس) في كتابه (البلاد السعيدة): (إذا كان هناك منطقة في شبه الجزيرة العربية تصدق عليها هذه التسمية إذا استثنينا اليمن بأمجاده التاريخية فهي بحق المنطقة التي تسمى (ظفار) ولم يخلو مصدر من المصادر القديمة أو الحديثة، العربية وغير العربية من ذكر شجر اللبان. وفي هذه الأجواء التي وصفها الرحالة، ومن قبلهم المؤرخون والجغرافيون، ومنهم أبو الجغرافيين (الإدريسي) من التلال العالية والسهول المنبسطة والخضرة الساحرة، تتجلى شجرة اللبان العريقة، فقد عرفها الإنسان منذ ان عرف نفسه، ونشأت بينه وبينها حميمية لا يضاهيها حميمية وولع بها، فهي الرمز وهي الحياة بالنسبة للظفاري، فهي ليست مجرد شجرة، هي الحضارة والتاريخ والاجتماع والجغرافيا، منها قامت مدن وحضارات على مر العصور الموغلة في القدم، تحدثنا آثار مدين (سمهرم، وخور روري) التي تعود إلى الألف الأولى قبل الميلاد، عن هذه الشجرة وما تحمله من رمز للحياة، ففي هذه المدينة الأثرية كتابات بالأبجدية العربية الجنوبية، والتي تسمى اليوم (الجبّالية) تصف الهدف من تأسيسها، حيث كان الهدف الرئيسي تصدير اللبان من هذا الميناء العريق، كما يوجد ميناء آخر في رأس فرتاك (جبل القمر) لتصدير اللبان إلى اليمن، ومنها إلى أجزاء متعددة في الجزيرة العربية، ثم إلى غزة، وهذا ما لفت نظر المؤرخين الاوائل منذ القرن الرابع قبل الميلاد، تذكر المصادر اليهودية في أسفارها ان المصريين القدماء جاؤوا إلى هذه البلاد (سفار) بحثا عن اللبان لتحنيط موتاهم، ويذكر الباحث والمؤرخ العماني، عبدالقادر بن سالم الغساني، في كتابه (ظفار أرض اللبان) ان الاسكندر الأكبر أخذ من أرض العرب المنتجة للبخور كمية من البخور لاحراقها للآلهة تقربا إليها، ويذكر أيضاً أهمية هذا المنتج، فيقول (لقد كان البخور أو اللبان رأس بضائع العالم الثمينة المطلوبة، في ذلك العهد كان سعره يساوي سعر كل من الذهب والبترول في هذه الأيام ولم يكن يشتريه لغلائه هذا إلا رجال الدين، لاستعماله في الشعائر الدينية، التي تستنزف القسم الأكبر منه، والملوك والأثرياء لحرقه في المناسبات الدينية وفي اجتماعاتهم) ويؤكد الغساني على ان تجارة اللبان كانت تصل إلى كل من الشام والعراق ومصر، على أيدي العرب الجنوبيين.
ولعلنا لا نبالغ عندما نقول ان هذه الشجرة وما يكتنفها من الحرفية بمهارة عالية تحتاج إلى خبير بها، سواء في حينها، أو في المتاجرة فيها، وتقول بعض الأساطير عند بعض العامة وهذا أمر طبيعي في كل مكان في العالم، عندما يكون السر غامضا في عصر من العصور، وهناك الكثير من البحيرات في أوروبا ما زالت الاسطورة تلعب دورها فيها ان هذه الشجرة تعرف صاحبها، وانه يجري معها حديثا لا يعرفه إلا هو وهي، او من تثق فيه، والحقيقة انها مجرد احتراف، فلكل صنعة صانعها، وهذه الشجرة مثلها مثل كل الأشجار، فالنخيل لا يحترفها إلا من يعرف التعامل معها، وكذلك الزروع والفواكه.. وتشير بعض المصادر إلى انها ساهمت في بخور عرش النبي سليمان، وتذكر المصادر أيضاً ان الامبراطور (نيرون) أحرق في وفاة زوجته ما يعادل محصول جنوب الجزيرة العربية من اللبان، لكن الثابت إلى اليوم وجود هذا البخور في الفاتيكان، في روما للاعتقاد بأنه يطرد الأرواح الشريرة، وقد ذكرنا انه ليس بمعتقد روحاني في عمان ودول الخليج العربية، لكنه كان في السابق كذلك، أما اليوم فقد تطور العقل العربي ونبذ هذه الخرافات البالية، فالسبب تعطير المكان وامتصاص الرطوبة منه. وتجمع الثمار من بداية شهر ابريل من كل عام، حيث تشتد الحرارة التي تساعد على خروج السائل من الشجرة، لكنها تحتاج إلى خبير في التجريح بواسطة اداة حادة تسمى (المنقف) وتحتاج إلى ضربتين، أي جرحها في مرتين متباعدتين بينها قرابة 14 يوما، يخرج السائل الأول على شكل حليب، يكشط إلى الأرض، فهو غير صالح، لتأتي الضربة الثانية بجرح الشجرة على طول جذعها، ويبدأ الجمع بعد اسبوعين، من الضربة الثانية، ومنها يتم نقر الشجرة للمرة الثالثة ليخرج السائل اللبني ذو الجودة العالية، ويترك إما على الشجرة أو في الأرض، وتختلف كل شجرة عن الأخرى في نوعية اللبان وكثرة الانتاج، والضربة الاولى يطلقون عليها (التوقيع) أما الثانية والثالثة فيسمونها (السعف) وتحتاج هذه المهنة إلى خبير فيها، فأي خطأ يمكن أن تعقم الشجرة بعده فلا تنتج، لذلك يحذرون من إصابتها في اللب، وقد يمتد موسم الجني إلى شهر اكتوبر، ويبلغ انتاج الشجرة الواحدة حوالي عشرة كيلو غرامات، وهناك أشجار تزيد على هذه الكمية، ويقدر إنتاج ظفار من هذا المحصول بسبعة آلاف طن سنويا، وتقدر قيمته بحوالي مليون دولار.
الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
تشكيل
مسرح
ذاكرة
مداخلات
الملف
الثالثة
مراجعات
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved