الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الجزيرة
Monday 1st November,2004 العدد : 83

الأثنين 18 ,رمضان 1425

مرٌّ.. وأمرّ منه
عبدالسلام العجيلي
دأبت، خلال ثلاثة عقود زمنية من آخر القرن المنصرم، على أن أكتب مقالا شهريا في مجلة (طبيبك)، المجلة الرائدة في تبسيط العلوم الطبية باللغة العربية. وقد جمعت مقالاتي في تلك المجلة في ثلاثة كتب من كتبي، هي (عيادة في الريف) الذي صدرت مؤخرا ترجمته إلى اللغة الفرنسية في باريس، و (حكايات طبية)، ثم (أحاديث الطبيب).
في تلك المقالات كنت أروي وقائع طريفة أو مشوقة مما يمر بي في عيادتي مع مرضاي الريفيين، إلى جانب أخبار علمية عن ما هو مستحدث أو ما هو متغير في عالم الطب، مما كنت أطلع عليه في قراءاتي ودراساتي وأسفاري. في تلك الوقائع والأخبار كان هناك الجاد والمضحك والمألوف والمستغرب. وكان منه ما يثير فضول بعض قرائي أو يؤثر فيهم، فيناقشونني فيه أو يعقبون عليه أو يبحثون عن الاستفادة الشخصية منه. وقد تحدثت في محاضراتي وكتاباتي الأخرى عن تصرفات عديدة من هذا القبيل عند بعض القراء. ولا يزال في الذاكرة بقايا منها، وأذكر في ما يلي أحد أمثلتها.
في ذات مساء قرع باب المنزل عليّ بعد أن كنت أنهيت عملي في عيادتي بأكثر من ساعتين. كان هناك على الباب رجلان غريبان عن البلدة. بعد أن بادلاني السلام قال أحدهما، وكان في منتصف العمر، منهكا، وتبدو عليه أعراض ضيق تنفس شديد: أتيناك من الميادين. والميادين بالمناسبة تبعد عن بلدتي نحوا من مائتي كيلو متر. قال المتكلم: أتيتك من الميادين لأسألك كيف أشرب بول الغزال، وكم أشرب منه؟ على الريق أم بعد الطعام، وملعقة أم فنجان، وكم مرة في اليوم؟
كان سؤالا، بل مجموعة أسئلة غريبة، ومضحكة في الوقت نفسه، لم أملك غير أن أقول للرجل: عن ماذا تتحدث يا أخ؟... لم أفهم عليك. قال: أنت تراني، لا أستطيع التنفس.. أهلكني الربو، ولم أجد دواء يشفيني منه. ألم تكتب أنت في المجلة أن بول تيس الغزال يشفي من هذا المرض الملعون؟ جئتك من الميادين لأستفهم منك عن هذا الدواء.
عند هذه الكلمات كادت تنطلق من حنجرتي ضحكة داوية، لولا أن بؤس منظر الرجل صرفني عنها. أدخلت الرجلين المنزل ليستريح المنهك العسير التنفس منهما، واستعدت لنفسي ما كتبته في المجلة عن الربو ومعالجته ببول تيس الغزال، في الواقع لم أكن أنا الذي وصف تلك المعالجة، ولكني كنت أوردت ذكرا لها في سياق مقال ضاحك نشرته منذ شهرين أو ثلاثة مجلة (طبيبك) بعنوان ( هذا السائل الذهبي). يبدو أن هذا المريض بالربو لم يقرأ المقال، أو لم يسمع به، إلا منذ مدة قريبة، فجاءني اليوم مستفهما عما ورد فيه. وتوضيحا لهذا التوهم الذي وقع فيه الرجل، أورد فيما يلي مطلع مقالي عن ذلك السائل الذهبي كما جاء في المجلة. قلت:
( في جلسة المساء التي تعقد كل يوم في مضافة الأسرة، والتي أحضرها أنا بعد انتهاء عملي في العيادة، قال الخال بشير:
أريد أن أسألك يا حكيم.. هل صحيح أن بول تيس الغزال يشفي من الربو؟
ضحكت أنا وقلت: هذا أمر لم يدرس في المخابر ولم تجر عليه التجارب في المستشفيات.
من أين جئت بهذا الطب الجديد؟
قال: لم آت به من عندي. ولكن أروي لك حكاية. تعرف أن عندنا غزالا ذكرا. ربيناه منذ أن كان خشفا صغيرا إلى أن صار تيسا ضخما ذا قرون. وهو لا يألف أحدا غيري، ومن قاربه أصبح من ضربة قرنيه على خطر.
قلت: أعرفه. وقد ضمدت جرحا في ساق أحد أطفالكم من جراء نطحه من ذينك القرنين..
قال: هذا صحيح. ومنذ أيام عدت إلى منزلنا في الضحى فوجدت رجلا لا أعرفه منتحيا في ساحة الدار، جالسا بالقرب من مربط الغزال. سلمت عليه وسألته عما يريد. قال لي إنه جاء في طلب بول هذا التيس. فهو مصاب بالربو، تطبب منه كثيرا فلم تتحسن حاله. وقد وصف له بعضهم بول تيس الغزال, يشربه على الريق، ففيه الشفاء من ذلك الداء. وأضاف: عرفت أن عندكم هذا التيس. ومنذ الصباح وأنا أحاوره فلا أقدر على الاقتراب منه. مرة يرفسني، ومرة ينطحني. في إحدى نطحاته كاد يبقر بطني بقرنيه المحددين هذين.
ضحكت أنا ثانية وسألت الخال بشير: هذه وصفة عجيبة للشفاء من الربو. كيف كان يطمع صاحبك هذا بأن يحصل على بول الغزال؟ أتراه يبول في ساعة معينة؟
قال: لا أدري. كان الرجل يحمل إناء يحاول دسه بين رجلي الحيوان فلا يستطيع. رأيته ملهوفا فأشفقت عليه، وجئت بكيس من النايلون وضعته تحت بطن الغزال، في مؤخرته، وأثبته على الظهر بخيط، وقلت للرجل: اصبر حتى يتجمع لك من البول ما تراه كافيا لجرعتك الدوائية، حينئذ أحل أنا الكيس وأعطيك إياه. وهكذا كان. ورأيت الرجل يسكب ما تجمع في كيس النايلون من البول ويجرعه دفعة واحدة، وقد أغمض عينيه وزوى شفتيه.
قال أحد المستمعين في المضافة متقززا، وشرب البول؟ أي نفس له ذلك الرجل؟!
قال الخال بشير: لا يسوق على المر إلا ما هو أمر!.. لو لم يكن مضطرا لما أقدم على شرب البول. ليس المهم هذا. المهم أنه جاءني بعد أيام، متهلل الوجه، وهو يرجوني أن أعينه في الحصول على رجعة ثانية من بول غزالنا. قال لي إن ضيق صدره زال وإنه يشعر بتحسن كبير.
أعدت العملية وشرب الرجل حفنة أخرى من بول التيس، وذهب فلم أره بعد ذلك. ولهذا سألت ابن اختي إذا كان شرب بول التيس يشفي من الربو.
قلت أنا: عن فائدة بول تيس الغزوال في الشفاء من الربو فهذا أمر لم يخطر على بال باحث علمي. وهو شيء غير عملي، على الرغم من احتواء البول مواد مختلفة بعضها قريب من الكورتيزونات ذات الأثر في تسكين نوبات الربو. ومع ذلك فإن صاحبك قد يكون صادقا في قوله إن حاله تحسنت بعد شرب الجرعة الأولى من بول التيس. أولا لأن الربو يأتي بشكل هجمات متقطعة، تزول أحيانا من غير علاج. وثانيا. لأن هذا الداء يتأثر كثيرا بالعوامل النفسية. على طاولتي الآن كتاب علمي حديث الصدور يرد كل حالات الربو، حتى إذا كان تحسسيا، إلى سبب نفسي. وإقدام الرجل على ذلك العمل الكريه، أعني شرب بول الحيوان، قد يكون أحدث فيه تغييرا نفسيا قطع السلسلة الانفعالية التي تسبب إطلاق نوبات الربو..).
هذا مطلع المقال الذي جاء إليّ بالزائرين ذلك المساء. واضح أني لم أصف شرب بول تيس الغزال دواء للربو، وإنما سردت في مقالي الضاحك بعض الطرائف عن هذا السائل الذهبي الذي تفرزه كلية الحيوان ويحمل فضلات استقلاب وظائفه الجسدية. ولكن كلاما أقوله عند أناس عديدين لهم ثقة بمعرفتي وكفاءتي قد يفسر عندهم بخلاف ما أقصده وبأكثر مما أقصده. وهذا المريض الذي أنهكه الربو وأعياه التطبب منه واحد من الذين فهموا ما كتبته على غير وجهه الصحيح، فجاءني يطلب مني أن أعينه في تجرع المر للخلاص مما هو أمر منه.
إنه واحد من كثيرين. أفهمته واقع الأمر ونصحته بما يمكن أن يفيده في حالته السيئة.
وصرفته وأنا أرثي له ولكل من أعياه التطبب بما هو معقول فراح، كالغريق الذي يتشبث بخيوط العنكبوت، يبحث عن النجاة في الركض وراء الأوهام. هذا إذا لم يقع فريسة لمدعي التطبيب الكاذبين، من دجالين ومشعوذين، وما أكثرهم في كل مكان وزمان.
الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
تشكيل
مسرح
ذاكرة
مداخلات
الملف
الثالثة
مراجعات
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved