الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الجزيرة
Monday 1st November,2004 العدد : 83

الأثنين 18 ,رمضان 1425

الجامعة العربية بين حَدَس وعَدَس
غازي أبو عقل*
في هذه الأيام الكئيبة، قد تكون العودة عدة عقود من السنين إلى الوراء، إلى أواسط أربعينيات القرن العشرين، مناسبة لزيادة كآبة أيامنا.. ففي تلك المرحلة تبلورت جامعة الدول العربية.
قيل الكثير من الكلام وسفح حبر أكثر على ظروف قيام الجامعة، ودور بريطانيا في ذلك المشروع. وإلى اليوم ما زال ذلك الدور بحاجة إلى بحث معمّق وموضوعي. فهل كانت المملكة المتحدة تؤيد قيام الجامعة فعلاً أم تعارضه فعلاً؟
المهم.. الجامعة قامت من رماد التجزئة، فلم يعجب الأمر أهل التقدم واليسار من عرب تلك الأيام لا يعني اليسار هنا الثروة والغنى، بل الإملاق والفقر المادي والفكري بخاصة فانهالت الانتقادات اليسارية على المشروع وما زالت إلى اليوم. وما زال أهل اليسار يؤكدون أن الجامعة صناعة بريطانية، أقيمت لتحقيق مصالح غامضة تسعى إليها لندن (لندن كما يلفظها ممثلو المسرحية الكويتية الشهيرة باي باي لندن).
لربما كانت بريطانيا أكثر نضجاً سياسياً من أهل السياسة المستجدين، بخاصة في تيارات اليسار الفج، الذين وضعوا الغرب في وصف الشياطين، وراحوا يميلون إلى الصف الآخر في الشرق، مبرهنين على سذاجة سياسية قلَّ أن تضاهى.
هيأت بريطانيا مسرح المنطقة التي كانت تتوقع مغادرتها عسكريا مثلما هيأت غيره في أنحاء العالم لإبقاء الصراعات المحلية محتدمة، وأقامت هنا القواعد التي ستتيح قريبا إعلان قيام إسرائيل. وفي نفس الوقت حاولت إرساء قواعد المشروع الوحيد القادر على لجم المشروع الصيهوني، ومنع توسعه تمهيدا لامتصاصه في نسيج المنطقة المكوّن من استيعاب ما لا يحصى من الشعوب والقبائل، التي كان بعضها يفلح في التعارف، وبعضها الآخر لا يعير الأمر أهمية تذكر. ما لم تفلح بريطانيا في التنبؤ به، كان عمق ابتعاد الأقوام الداخلة في الجامعة، عمّا يعرف سياسيا بالتوافق والانسجام والتفاهم والاتفاق، كي لا نأتي على ذكر مفاهيم الوحدة والاتحاد. فهذه كلها مفاهيم حضرية وحضارية، والأقوام الداخلة في الجامعة، كان أكثرها خارج هذه المفاهيم، وما زال يجد صعوبات هائلة في دخولها.
لو كان خبراء صنع السياسة البريطانية بعيدة المدى، والمستعربون الذين كانوا يشيرون عليهم بما ينبغي عمله، على سوية عالية من الاطلاع، لاكتشفوا عقم مشروع إقامة الجامعة العربية مبكرين. غير أن أكثر مستشاريهم كانوا على شاكلة لورانس وكوكس وفيلبي ومن لفّ لفّهم. ولم يدرك هؤلاء أن أقوام الجامعة لا يجتمعون إلا الوقت اللازم لإلقاء قصيدة والتهام مَنسف. رغم كون أولئك الخبراء مكّلفين بالتفرقة لا بالتجميع ولو أنهم قرؤوا ما جاء في مجامع لغة العرب لفهموا ما كان سيوفر المال والوقت.. فلقد جاء في اللسان: (والعرب تختلف في زجر البغال. فبعض يقول عَدَس (بفتح العين والدال وتسكين السين) وبعض يقول حَدَس). قال الأزهري: (وعَدَس أكثر من حَدَس. وقيل حَدَس وعَدَس اسما بَغّالين على عهد سليمان بن داوود عليهما السلام، كانا يَعنُفان على البغال، فإذا ذُكرا نَفرَتْ خوفاً مما كانت تلقى منهما)..
إذا كانت العرب تختلف حتى على زجر البغال، فكيف يطلب منهم (خبيرٌ) أن يتفقوا على زجر إسرائيل؟ وكيف لم يلتفت إلى عمق الاختراق التوراتي لتراثهم التليد؟ فجامع لغتهم لم يجد في الأقوام كلها بَغّالين (وطنيين) يضرب بهما المثل على العنف وإثارة الذعر إلا السيدين المذكورين آنفا والمنتمين إلى إسرائيل التي ما زالت (تَعْنُف) في حين ما زال العرب يختلفون على كيفية زجر البغل السمين هناك.. هل نقول له (عَدَس أم حَدَس)؟..


* أديب وناشر سوري كبير وصاحب جريدة (الكلب) التي أسسها صدقي إسماعيل وشعارها (لا تبلى حرية الصحافة إلا إذا لم تستعمل).

الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
تشكيل
مسرح
ذاكرة
مداخلات
الملف
الثالثة
مراجعات
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved