الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الجزيرة
Monday 1st November,2004 العدد : 83

الأثنين 18 ,رمضان 1425

اللغة الثالثة بين الفصحى والعامية!
د. علي بن حمود الكريدس*
من المعلوم أن في كل أمة، بل في كل دولة من الدول لغة فصحى وبجانبها لهجات عامية محلية (إن لم يكن العكس) والتي يجري التعبير عنها مجازاً بأنها (اللغة الثانية) إلى جوار اللغة الفصحى، وهناك خلاف بين اللغويين والإعلاميين والأدباء والأكاديميين والشعراء حول موقع كل من الفصحى والعامية في العصر الحاضر في ظل العولمة وسيطرة القنوات الفضائية واستخدام لهجات متنوِّعة، مما أدى إلى ظهور نوع جديد من اللغة ليست عامية ولا فصحى، بل هي وسط بين هذه وتلك.
وتساءل البعض: هل الصحيح أن تكون الفصحى وحدها لغة الإعلام، فرأى فريق من المختصين ضرورة الرجوع إلى الفصحى وتدريب العاملين في الإعلام وإعدادهم إعداداً جيداً لاستخدم الفصحى دائماً في الإعلام، نظراً لأنها اللغة التي يفهمها كل الشعوب العربية من المحيط إلى الخليج، وطالب أن تتخذ الحكومات موقفاً حاسماً في طريق ذلك للحفاظ على هويتنا وقوميتنا والواقع أن هذه الازدواجية اللغوية أمر بالغ الخطر، إذ إن الاهتمام بالعامية ومحاولة الإكثار من استخدامها له مخاطر على الفصحى لسهولة العامية ومرونتها وقدرتها على استيعاب كل أجنبي دون تمحيص أو تدقيق، فأصبحت هناك لغة تتردد على ألسنة الشباب، لا هي عربية خالصة ولا أجنبية ولا شرقية ولا غربية أي لا هوية لها، لهذا فمن الخطورة بمكان أن يستخدمها بعض المثقفين من خلال إقحام بعض المصطلحات الأجنبية في أحاديثهم وكتاباتهم، حيث يلوكونها في أشداقهم متباهين بالانتماء لثقافاتها، بل يعتبرها البعض منهم من أشكال الاستعلاء على الناس وإظهار أنهم يتمتعون بثقافات حُرم منها غيرهم، ناسين أو متناسين لغتهم الأم التي تمثِّل هويتهم وانتمائهم ناهيك عمن يؤمن بأن اللغة العربية هي السبب الرئيسي في تأخر الأمة العربية وعدم مجاراتها الأمم الأخرى المتقدمة!!
وما لا شك فيه أن هذه القضية ليست قضية سهلة، بل لها أبعاد كثيرة، فقد اهتم الغرب بدراسة العاميات أو اللهجات العربية منذ زمن قديم، وكان لذلك بواعث كثيرة لعل أبرز هذه البواعث:
الأول: يتصل بالتبشير: مثال ذلك ما فعله الراهب القطلاني (دفر متين) الذي تعلَّم العربية من أجل تنصير مسلمي الأندلس والمغرب، ولم يقتصر على ذلك فقط، بل لقد ألَّف في سبيل ذلك معجماً عربياً حسب العامية الأندلسية، وفعله مثله آخرون، مثل الراهب (بدرودي الكالا)، (جي لير كندي).
الباعث الثاني: يتعلق بالاستعمار: وذلك عندما فكر الأوربيون في غزو البلاد العربية أسسوا مدرسة اللغات الشرقية الحيَّة في فرنسا، وأنشؤوا معاهد عليا لدراسة اللهجات العربية والأمازيغية، وألَّفوا العديد من الكتب في قواعدها، ووضعوا معاجم لمفرداتها ومصطلحاتها وقام معهد البحوث العليا المغربية منذ بداية عام 1915م حتى نهاية عام 1959م برعايتها، لهذا سعت الحركة الوطنية في هذه الدول إلى مقاومة هذا الاتجاه، فأنشأت مدارس ومعاهد دينية لمواجهة السياسات الاستعمارية في المغرب تلك السياسات التي فرضت الفرنسية كوسيلة للثقافة، واللهجة الأمازيغية في الإذاعة والمعاهد ذات الأغراض الاستعمارية، وكان الهدف وراء ذلك هو إثارة النعرة والعصبية وإيقاظ الفتنة في البلاد العربية لتفتيت وحدة الصف وإضعاف الحركة الوطنية التي تهدف إلى طردهم من البلاد، وصدر عدد كبير من المعاجم المتخصصة في العامية الأندلسية والمغربية منذ القرن الرابع عشر وحتى عام 1892م وما زالت هذه الحركات على مختلف مشاربها تعمل على قدم وساق وليس ذلك مقصوراً على المغرب العربي، بل طال ذلك مصر وبعض الدول العربية، وقد انساق وراء هذا التيار أبناء الوطن (المثقف)!! الذي ينادي بإحياء اللغات القديمة وتقوية اللغة العامية والانسلاخ من اللغة الأم التي هي لغة القرآن.
وفي ظل الوضع الراهن نجد لغة العامية والفصحى تعتبر قاسماً مشتركاً بينهما، يطلق عليها تسميات مثل (اللغة الثالثة) أو (العربية المعاصرة)، وهي التي تسيطر الآن على وسائل الإعلام، ومما لا شك فيه أن تعدد اللهجات واختلاف الألسن من آيات الله لقوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ ...} وهو أمر قديم قدم انتشار الإنسان في ربوع الأرض، ولكن الله سبحانه وتعالى تكفل بحفظ كتابه الكريم الذي نزل باللغة العربية الفصحى قال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}، لهذا فإن الدعوة إلى العودة الفصحى وتنميتها واستخدامها في وسائل الإعلام وفي المؤتمرات الدولية والإقليمية والمحلية وفي البحوث والدراسات العلمية أمر يستند ليس فقط إلى هويتنا وتراثنا، بل يستند إلى ديننا وعقيدتنا الإسلامية، لهذا فإن بعض الباحثين والمتخصصين أكدوا أن العاميات العربية أثر من آثار التخلف والجهل وسمة من سمات الأمية، وعامل من عوامل الفرقة والتجزئة ومعوق من معوقات انتشار التعليم ويقظة الوعي الوطني والقومي، فهي تحمل فكراً محدوداً ومفاهيم جلفة لا يتذوّقها إلا جماعة محدودة من الناس، والسبيل الوحيد لمعالجة ذلك يتمثَّل في انتشار التعليم والقضاء على الأمية، سواء لدى الأميين من العامة أو لدى المتخصصين، لأن من أصعب الأمية هي أمية المثقفين، وانتشار التعليم الذي أقصده هنا الانتشار القائم على استخدام سياسة لغوية فصحى سليمة تجعل من معلم كل مادة معلم لغة يقدمها سليمة لطلابه بأسلوب يحببها لهم، بالإضافة إلى جعل الفصحى لغة مؤسسات الدولة وجميع مرافق الحياة بها.
وإذا كان وجود العامية إلى جانب الفصحى في الوطن العربي أصبح لا مفر منه ومن المتوقَّع أن يستمر في المستقبل، نظراً لاستمرار قوى الهيمنة في محاربة الفصحى في سعي دائم لفرض سيطرة العولمة، فإن من الواجب على القائمين على السياسات التعليمية والثقافية والإعلامية الحفاظ على اللسان العربي والارتقاء بالعامية حتى تقترب من الفصحى، فالواقع الذي يجب أن نسلِّم به هو أن هناك مستويات مختلفة للغة، كما أن التقارب بين الفصحى والعامية مرهون بارتفاع المستوى الثقافي.
ولكن يجب أن نؤكد هنا على ضرورة عدم إقحام اللغات الأجنبية لمفردات اللغة العادية حتى لا تفقد هذه الأخيرة هويتها وحتى لا تصبح هجيناً لغوياً لا ينتمي إلى الفصحى، ولا إلى العامية وذلك بتعريب المصطلحات التي لا غنى عنها والأمثلة من القرآن الكريم والشعر العربي كثيرة، هذا التقارب بين الفصحى والعامية يمكن أن يتحقق كلما ارتفعت الثقافة، حيث يتضاءل الفرق بينهما وتتبسط الفصحى نتيجة خروجها لكتابة الحياة وتحولها إلى لغة منطوقة، لغة للتعامل بين الناس في الأسواق وفي العمل وفي الندوات والمؤتمرات وغيرها.
فتتداخل مع العامية وتصير من ثم حيَّة متحركة غير جامدة وبذلك تفقد الأطر البلاغية القديمة الجامدة، وتصبح العامية في إطار ذلك قريبة من الانضباط، حيث تفقد سيولتها، ويرتفع مستواها نتيجة لاستخدامها في وسائل الإعلام المسموعة والمرئية والمقروءة وفي الأحاديث الملتزمة بقضايا معينة. وهنا يمكن أن يظهر ما يسمى (تفصيح العامية)، و(تيسير الفصحى وتبسيطها) فتتحول هذه الأخيرة من لغة قاعدية إلى لغة تداولية تشتبك مع حركات المجتمع وتطوره.
ومن هذا يتضح أن وجود (اللغة الثالثة) يعد من أهم وسائل التقريب بين الفصحى والعامية، لأنها اللغة العربية السهلة والميسرة التي يفهمها العامة والخاصة، ووجودها في المجتمع مع الالتزام بضرورة أن ترقى لتقترب من الفصحى ولا يندرج في مصطلحاتها وألفاظها مصطلحات أجنية إلا ما عرّب منها، سيساعد على استيعاب أشكال الحضارة الحديثة وجوانبها الاجتماعية والاقتصادية والفنية. ولكنني أرى في النهاية أن اللغة الثالثة التي أقصدها ليست لغة بجانب اللغتين الفصحى والعامية قائمة بذاتها، بل هي لغة تستند في أسسها وضوابطها على اللغة الفصحى، مما يؤدي إلى وجود فصحى واضحة ومبلغة لمضمون رسالتها، (فاللغة الثالثة) المقصودة عندي هي الفصحى في ثوبها السهل الجديد الذي يكون في متناول الجميع، فالواقع أن هناك لغة عربية فصحى واحدة ولهجات محلية وليست لغات محلية متعددة، لهذا يجب الارتقاء باللغة الفصحى باستخدامها وتبسيطها بعيداً عن (الحذلقة).


* كلية الملك فهد الأمنية

الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
تشكيل
مسرح
ذاكرة
مداخلات
الملف
الثالثة
مراجعات
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved