الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السياراتالجزيرة
Monday 02th January,2006 العدد : 136

الأثنين 2 ,ذو الحجة 1426

شعرية المألوف وعوالم الذاكرة القصيّة
قراءة في تجربة محمد حبيبي الشعرية «2»
د. أسامة البحيري
وتتشكل آليات المفارقة في شعر محمد حبيبي من خلال المشهدية الحكائية، التي ترسم بداياتها مفردات البهجة والفرح الطفولي، وتترسخ المأساة في خواتيمها، لتعمق الصدمة اللغوية والشعورية في ذهن المتلقي:
(...
آه يا شجر الرينْ
كنا صغيرينْ
أعلِّمها
صنعَ فقَّاعةٍ من ورقْ
رسم قلبٍ به عاشقينْ
أول حرفٍ من اسمي
ومن زهرة الرين عقداً يضيء ضفيرتها
أهِ يا شجر الرين
ها نحن عدنا غريبين
وها أنت مغتربٌ مثلنا)
«انكسرتُ وحيداً ص 32»
تحتل الآهة بداية المشهد وخاتمته، وشتان ما بين البداية المبتهجة الواعدة بنهاية سعيدة توحي بدوام الود والصحبة، وبين الخاتمة التي تقلبها المفارقة التشكيلية، إلى مأساة تنسج خيوطها الغربة الشاملة، غربة الإنسان وغربة المكان، لينتصر الحاضر القاسي في هذه الجولة ويهيمن بسطوته وغربته على ذكريات الماضي.
وتصبح الغربة قدراً مصاحباً للذات المبدعة، تنغص عليها مباهج الماضي، وتحولها إلى حزن وبكاء، وتجعل ذكريات الطفولة المرحة تفرّ دائماً من سطوتها:
(كلما عدتُ للقرية النائيةْ
فرَّ مني القمرْ
كلما لذتُ نحو الحميمين من أصدقاء الطفولة
يبكي علينا الشجرْ
كلما أُبتُ من سفرٍ يحتويني سفرْ)
«انكسرتُ وحيداً ص 25»
تمثل صدمة الذات المبدعة أمام جبروت المدينة الجامدة الخالية من القلب تجربة متكررة في الشعر العربي الحديث والمعاصر.
وتجربة المبدع هنا قاسية دامية، وتشتد قسوتها مع التحذيرات والتجارب السلبية السابقة التي لم يُستفد منها:
(أ تذْكُرُ يا والدي
حين حذَّرتني
من نساء المدينة ؟ وقلتَ:
المدينة ليست لأمثالنا...
آهِ
ها إنهم أصدقائي
الشَّوارع والأرصفة !!)
«انكسرتُ وحيداً ص 36»
التجربة قاسية تخلو من المشاعر الإنسانية الحانية، ويؤكد التشكيل اللغوي جمودها وقسوتها حين يسرد في الخاتمة خلاصة تجربة الشاعر مع مفردات المدينة، فلا يبقى له منها إلا الجمادات القاسية (الشوارع والأرصفة).
وحين يضاف الحزن والاعتراب إلى هذه التجربة، تمسي مفرداتها دامية مظلمة، لتعلن القطيعة النهائية بين الذات المبدعة، وبين المدينة الظالمة، وتعيدها إلى فردوسها، إلى ماضيها، إلى قريتها:
(تهمسُ
أن الظلام
يلفُّ الطريق
ولا شيء يخدش دَجْوَ المدينة
سوى نظرات الغريب الحزينة)
«انكسرتُ وحيداً ص 22»
(أجرحُ هذي المدينةْ
وأعلمُ
أني أشكِّل من ذكرياتي بها فيلقا
هل
سأنسى التي أسكنتْ في دمايَ
نسيب القرى؟)
«انكسرتُ وحيداً ص 35»
تغيب مفردة (الحرية) بحضورها اللغوي المباشر عن التشكيل السطحي في بنية النص على امتداد الرؤية الشعرية في الديوانين، ولكن وعي الذات المبدعة بمدلولها الفعال حاضر في البنية العميقة للنصوص، وتمتد جذور هذا الوعي إلى أزمنة بعيدة رسخّت قيمة الحرية، وكثّفت شعور الذات المبدعة بها، وعمّقت توقها الدائم إليها، من خلال رفض القيود والأغلال التي تخنق الشعور والأحاسيس التي تمثل مثيرات العملية الإبداعية وأدواتها الرئيسية:
(في باحة الدار
كنتُ أربِّي الحمامْ
ذات قيظٍ
تطاير حتى تجاوز صندوق جاري
فأدركت أن الحمام يحب الهواء نقياً
وأني اختنقت بجو القفص)
«انكسرتُ وحيداً ص 33»
ويرتبط الإبداع بالحرية ارتباطاً وثيقاً، ويصبح غيابها ضعفاً مشيناً للعملية الإبداعية، ولا يتمكن المبدع من توصيل رسالته، في أجواء الذعر والخوف والتربص، وقد تجبره مقتضيات التوصيل والتواصل مع نصه الذي يمثل متعته، ومع المتلقي الذي يمثل هدف رسالته، قد تجبر المبدع على التخفّي والعزلة، حتى يصبح:
(كصبيّ يجمع أعقاب السيجارات
ليطلق متعته في ركنٍ مهجورٍ
أو فوق سطوح البيتْ
كلماتي تخرجُ - في ذعرٍ - تتلفَّت..)
«انكسرتُ وحيداً ص 79»
الصورة التشبيهية المسيطرة على المشهد تفجّر المتناقضات عن طريق التمعّن في طرفي الصورة (المشبّه والمشبّه به)، فالبنية السطحية لتشكيل التشبيه في الصورة تبرز عناصر القهر والعزلة، والتخفي، وتختزن البنية العميقة دلالات الصبر، والتحمل، والعزم على إتمام المهمة.
وتسهم المخالفة في ترتيب عناصر التشبيه، وخلخلة بنيته المعتادة، بتقديم المشبه به (جمع الصبي لأعقاب السجائر، كي يحقق المتعة المختلسة)، وتأخير المشبه (إصرار المبدع على توصيل رسالته.
المذعورة، كي يتخفف منها ويرتاح) يسهم ذلك في إبراز التوتر بين ما تبرزه البنية السطحية، وبين ما تختزنه البنية العميقة التي يتوصل إليها المتلقي حين يمعن النظر في تشكيل الصورة الشعرية.
حين تخفي الذات المبدعة آلامها مبرحة من جراء انسحاقها تحت وطأة سلطة كبْتٍ ما...
أو من تداعيات وضع غير سويّ، تلجأ إلى تقنية (التجريد) للتعبير عن تجربتها الشعرية الصعبة.
ويمثل (التجريد) ظاهرة أسلوبية أثيرة لدى الشعراء القدامى والمحدثين.
حيث يأتي المبدع بكلام ظاهره خطاب لغيره، وهو يريد به نفسه، فتتوجه البنية السطحية في تشكيل التجريد إلى مخاطب مجهول، ولكن البنية العميقة تحيل مباشرة على المشاعر الداخلية للمبدع نفسه. ومن خلال التجريد يتم التواصل الحميم بين المبدع والمتلقي، لأن المتلقي لا ينخدع بهذا الانفصال الظاهري بين البنية السطحية، وبين البنية العميقة، بل يتوصل إلى الكشف عن مكنونات المبدع من خلال استبطان النص، وإدراك مراميه.
وفي حالة الصدام الأزلي بين الذات المبدعة و(الرقيب..) يكون اللجوء إلى التجريد مسألة حتمية، لتتاح مساحة من الحرية يعبر بها المبدع عن مشاعره وإحباطاته:
(ها أنت
كمن فُقِئَ لسانه
إذ سلخوه نصف حروفه
كي تخرج منه الكلمات..
عرجاء على عكازين...)
«انكسرتُ وحيداً ص 81»
وحين تنسحق ثمار الإبداع، ولا يجد المبدع صدىً لرسالته، ويلمح طغيان القبح، وهيمنة الكسل، يصبح الإبداع وسيلة تعذيب، وتكون الراحة في العزوف، والفراق:
(بعد انْعِطَابِ الأصابعِ
تسألْ:
لِمَ أنْتَ تَكْتُبْ ؟!
حسناً
هاهنا يستوي أن ترتِّبَ مشروعَ نصّ ونومْ!
أرأيتمْ يستوي أن..... و
...... إذنْ
سَوْفَ أَتْرُكُهَا الكلِمَاتِ فَقَطْ
لأنَام...)
«أطفئ فانوس قلبي ص66»
وتهيمن العدمية، وتنفقد الرغبة في مواصلة الحياة، نتيجة لرحيل الطموحات الكبيرة، وتصبح الحياة الناعمة سرقة للأحلام المستقبلية، فيمسي الأحياء، كأوراق الخريف الذابلة، تسلم قيادها لأول ريح قاتلة قادمة:
(بحياةٍ تسرقهم حلموا...
وكأوراق خريف يصحونَ
قد التصقوا بالأغصان
دلَّوا أيديهم والأعناقَ لأول ريح)
«انكسرتُ وحيداً ص 62»
تأنس تجربة محمد حبيبي بالأشياء البسيطة المألوفة التي تبدو في ظاهرها عصية على الانصهار في بوتقة الإبداع، ولكنها تتلمس مناطق الشعرية في الأشياء اليومية المعتادة من حولها، وتعيد تشكيلها لغوياً ودلالياً لتتفجر منها ينابيع الإبداع، وتدهشنا بطاقتها الشعرية المتوهجة.
وتسلط أضواءها على المناطق الهامشية في الحياة والأشخاص، والدوال والدلالات، وتكسبها من وهج الشعرية ما يجعلها صالحة للتمركز في بؤرة التجربة الشعرية للشاعر.
وتبدو أهمية العنصر الدرامي في رؤية (حبيبي) الشعرية، فهو يوظفه في معظم نصوصه الشعرية، ويوفق في استخدامه بحرفية فنية ومهارة عالية، فيضفي على نصوصه سمات الموضوعية والحياد، وهي الصفات المهمة جداً للحساسية الشعرية الحديثة.
التي تكسبه الحيوية، وتمنعه من الوقوع في شرك النزعة الذاتية النرجسية، وتحميه من الاستهلاكية العاطفية، وتبعده عن المباشرة الفجة، والوضوح القاتل.
ويعد التكثيف والتركيز أهم ما يميز نصوص الديوانين، والإيجاز ملمح بنائي مقصود في تشكيل القصيدة الحديثة، وتصر عليه الذات المبدعة من خلال إضفاء المسحة (الإبجرامية) القصيرة، أو (القصيدة الومضة)، وهي التي لها ارتدادها التراثي، عبر ما كان يُصطلح له (النتف والمقطوعات الشعرية).
وهذه التشكيلات المكثفة الموجزة تعتمد حديثاً على آليات الصدمة اللغوية، والشعورية، التي تحدثها استراتيجيات المفارقة في وعي المتلقي، وتنجح في إدخال المتلقي في الدائرة الدلالية للنص، من خلال إكمال الفراغات النصية المتروكة عمداً، وانفتاح الدلالات في تأويل النصوص الشعرية الحديثة.


انتهى

الصفحة الرئيسة
أقواس
فضاءات
نصوص
تشكيل
مداخلات
الملف
الثالثة
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved