الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السياراتالجزيرة
Monday 02th January,2006 العدد : 136

الأثنين 2 ,ذو الحجة 1426

أغنية عن عصر ما بعد الاستشراق«2-2»
فاضل الربيعي*
وهاهم اللاجؤون العراقيون بعد سقوط بغداد يستعدون للعودة إلى بلادهم، وهاهم، أيضا، يستمعون إلى كلمات الأغنية من محطات التلفزيون الهولندية كما لو أنها كانت أغنية وداع.
ولكنهم، برغم نجاحهم في مغامرة الوصول إلى أوروبا في المرة الأولى، ومغامرة العودة إلى الغابة في المرة الثانية، كانوا إذ ذاك، لا يزالون ضائعين في بغداد المحتلة أيضا.
لقد وجدوا أنفسهم وسط مدن عراقية متسخة تعمها الفوضى ويضربها الخراب ولكن بملابس نظيفة. وتلك كانت ذروة المفارقة.
إن درجة استسلام النخب السياسية والثقافية وبعض المنفيين السياسيين العراقيين العاديين لصورتهم الجديدة في الغرب، كما عبرت عنها كلمات الأغنية التي تصفهم كقبيلة ضائعة من رجال ونساء، وصلت بعد مغامرة رهيبة إلى المدن النظيفة ولكنها مع هذا ظلت تائهة، يعبر بدقة بالغة لا عن درجة مذهلة من الخضوع شبه الجماعي لفكرة استشراقية قديمة عن الشرقيين وحسب، وإنما عن نوع ومقدار الخضوع شبه الجماعي الذي يريد منطق ما بعد الاستشراق فرضه. عليكم، منذ الآن، أن تغنوا أغانيكم التقليدية بلغتنا.
أن تسيروا في شوارعنا النظيفة والأنيقة بملابسكم الرثة وأصواتكم الغريبة، ومن الأفضل أن تسيروا وأنتم تتحسرون -كما كان يفعل أسلافكم - على مدَنية الغرب وسحره.
عليكم، إلى جانب هذا كله، أن تتأكدوا أن الغرب لن يتخلى عنكم بوصفكم موضوعه الدائم والمستمر، ولكنه سوف يقوم بعملية قلب أو إبدال وحسب؛ لأن ذلك ملائم وضروري لتأمين عودته إلى الغابة التي طردَ منها. إنه مثلكم تماما، متحرق ويرغب بقوة في العودة إلى الغابة نفسها.
مع انطلاق المشروع العسكري للولايات المتحدة الأمريكية لغزو أفغانستان والعراق سارع الغرب كله، إلى استرداد هذه الفكرة تلقائيا وراح يغني أغنيته العراقية على أنغام الاوركسترا الملكية. سوف يمد أياديه الأوربية البيضاء (الكولنيالية) لتقود اللاجئين من جديد إلى كابول وبغداد والقاهرة وإلى كل بقعة من العالم العربي يمكن أن تمتد إليها وتبلغها، بل ولتقوم بتنصيبهم كزعماء وقادة مجالس قبائلية (لويجركا).
على الفور سيبحثون عن كرزاي أفغاني** وعن آخر عراقي حتى آخر القائمة.
هكذا جاؤوا من الغابة - وهذه هي صورة بلادهم كما تقول كلمات الأغنية- وهكذا يعودون إليها.
وطوال عامين متواصلين من الاحتلال الأمريكي للعراق، وحين قادت الأيدي البيضاء الرجالَ والنساء في القبيلة العراقية الضائعة من معاصمها لتعيدها إلى الغابة، كان العراق بأسره يتحول، بالفعل وفي ظل الفوضى والخراب والقتل إلى ما يشبه غابة موحشة.
وطوال عامين أيضا كان تلفزيون الشرقية وهي محطة فضائية عراقية أسسها الصحفي العراقي سعد البزاز، الذي كان هو نفسه لاجئا (في لندن وعاد إلى بغداد فور سقوطها في قبضة الأمريكيين)، يبث بشكل متواصل وكل أسبوع تقريبا أغنية فريدة هذه.
لا أحد من محبي فن المقام. وهو لون من الغناء البغدادي التقليدي شديد الخصوصية أو من قادة النخبة السياسية والثقافية والفكرية العراقية، فكر، مجرد تفكير، بإمكانية وجود أدنى رابطة بين الاحتلال الأمريكي ومشاركة هولندا في الحرب على العراق من جهة، وإطلاق هذه الأغنية من جهة أخرى؟ وبالفعل ليس ثمة سوى رابطة واهية.
ومع هذا، فإن المرء لينتابه إحساس غامض بأن ثمة رابطة أخرى أكثر قوة، من حيث مستوى المشابهة، ولكن أقل دراماتيكية مما كان عليه المثال العراقي، ربما لمجرد تصويره على هذا النحو كشخص بربري متسخ الثياب لا يملك سوى ذكريات صحراوية وأصوات غريبة.
وكيف يستسيغ إنسان ما، مهما كانت درجة سخطه على النظام السياسي في بلاده، أن يصف نفسه أو أن يتقبل وصف الآخر (الغربي) له على هذا النحو، وأن الأيدي البيضاء وحدها، أي أيادي الأوربيين والغربيين عموما (هي التي سوف تقوده من معصمه كالأعمى إلى بلاده؟ قد لا يكون هذا الأمر مقبولا) لولا أن الحرب (من أجل إعادة اللاجئين إلى الغابة) قد أصبحت على الأبواب.
كان لا بد عندئذٍ من أغنية تصدح بها امرأة عراقية شرقية ويعزفها رجال بيض على آلات غربية. ولأن الحروب كما يخبرنا التاريخ قد تبدأ بأغنية، فإن من المنطقي التفكير بأنها قد لا تنتهي بأغنية. وذلك ما لا يفكر فيه (المنتصرون) عادة.
يخفي هذا الدمج الماكر للصور والأصوات، بدرجة أكبر مما نتخيل، نزوعا (قديما) للهيمنة وقد أُعيد إنتاجه في عصر ما بعد الاستشراق، وذلك من أجل مواصلة دمج جماعات بشرية ببعضها، تماما كما ُتدمجُ الآلات الموسيقية الشرقية والغربية، ومن ثم تخُيل المزيج الغريب من الأصوات، كمقطوعة موسيقية قابلة لأن ُتعزف بأنامل غربية بيضاء، بل ومعاملة هذه الجماعات المُدمجة كجماعة واحدة تقف بانتظار الخلاص، مبهورة ومستسلمة لسحر الغرب الخفي. إنه نمط آخر من الهيمنة على اللغة قد لا يكون مألوفا بعد.
إن التزامن المقصود بين غزو أفغانستان والعراق، وانطلاق ما دُعي بحملة (نشر الديمقراطية) في هذين البلدين الصحراويين، النفطييْن، وتحرير النساء فيهما من التسلط والحجاب والاضطهاد، وبالطبع من سائر النظم والقوانين والتقاليد المحلية التي تحد مما يدعى (حرية المرأة) في التعليم والعمل، هو الذي يدعونا إلى رؤية المغزى الحقيقي لذلك المزيج الغريب من الأصوات المتصاعدة عشية وبعد الغزو.
إن عصر ما بعد الاستشراق يبزغ مع هذين الحدثين بجلاء نادر. ليس دون معنى أن فريدة حين صدحت بأغنية المقام العراقي هذه، والتي كتبت خصيصا (لها باللغة الهولندية، وعزفتها لها بدلا) من فرقة الجالغي البغدادية (فرقة العزف التقليدي) فرقة اوركسترا ملكية، كانت تغني في اللحظة ذاتها التي كان فيها الجنود الهولنديون يتمركزون في مكان أسموه هولندا الجديدة؟ هولندا الصغيرة، الشرقية، البدوية هذه ليست سوى محافظة السماوة.
لقد أصبحت هي هولندا الجديدة (أو هولندا الشرقية) بينما أصبح البدو العميان بثيابهم الرثة وأصواتهم الغريبة هم سكان هذه الإمارة. فكيف تبدت، إذن، صورة العراق كله مع بزوغ عصر ما بعد الاستشراق هذا؟ ما يطمح الكاتب إلى إثارته- في هذا الإطار- على وجه التحديد، رؤية إمكانيات أكبر وأفضل للربط الخلاق بين عودة الاستعمار القديم إلى مستعمراته، وبين بزوغ عصر استشراق عالمي جديد (عصر ما بعد الاستشراق) حيث يتلاشى الموضوع الكلاسيكي عن سحر الشرق ليحل محله موضوع مركزي آخر هو: سحر الغرب الخفي الذي يُلهم بلدانا وجماعات وثقافات لا حصر لها في هذا العالم ويرغمها على محاكاته والتماثل معه.
وذلك ما سوف يتجلى بشكل شديد الحيوية والتواتر في المحاولات المحمومة لتسويق استراتيجية الحرب على الإرهاب، وتصويرها وكأنها حرب مقدسة مضادة ضد حرب مقدسة أخرى، خفية وشيطانية ومتوحشة يشنها الإسلام الشرقي ضد الغرب وحضارته ومدنيته، وضد سحره الذي يطغى على مساحات شاسعة من العالم.
وفي إطار هذه الحرب التي بدأت في الحادي عشر من أيلول / سبتمبر 2001 جرى دمج ماكر للعراق بأفغانستان وظهرت صورة جديدة لبلدين وجماعتين بشريتين من العالم الثالث، وكأنها صورة بلد واحد وشعب واحد مُصدرٍ للعنف ضد الغرب، تكاملا ونضجا داخل مرآة التخيل في هيئة كائن أخطبوطي، شرير وشيطاني قادر على التمدد فوق المساحة الفاصلة بين بغداد وكابول، ممسكا (في ذراعه اليسرى ومثل آلهة الأولمب بأسلحة التدمير الشامل المرعبة، بينما يمسك في اليد اليمنى بسلاح الأصولية الفتاك.
إن بغداد الأفغانية، أي بغداد التي تعرضت لعملية (أفغنة) منظمة ومطردة وطوال أكثر من عامين، وحيث صورت بوصفها معقل بن لادن الجديد والبديل عن جبال تورا بورا، بل ومعقل خلفائه من الأصوليين الشباب بقيادة أبي مصعب الزرقاوي و(الأصوليين الشرسين المتسللين) من وراء الحدود، هي صورة تنتمي إلى نوع جديد من الاستشراق.
إنه ما بعد استشراق سياسي، تقوم بموجبه وبفضله قوة استعمارية جديدة، بتخيل البلد نفسه وبالطريقة نفسها وللأهداف والأغراض نفسها أيضا، ولكن بأدوات أخرى قد لا تمت لأدوات ووسائل التخيل الكولنيالي السابق بشيء.


* كاتب عراقي

الصفحة الرئيسة
أقواس
فضاءات
نصوص
تشكيل
مداخلات
الملف
الثالثة
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved