الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 02th May,2005 العدد : 104

الأثنين 23 ,ربيع الاول 1426

ما وراء الخطاب...!!!
أمل زاهد
تتجه المدرسة التحليلية في الفلسفة إلى تحليل الفكرة إلى عناصرها الأولية ورائد هذه الفلسفة هو (برتا نرد رسل) وهو يصف منهجه قائلاً: (منهجي أن أبدأ بشيء ما، فيه غموض ولكنه باعث على الحيرة، شيء يبدو قابلاً للشك، ومن هنا أمضي في عملية شبيهة برؤية العين المجردة أول الأمر، ثم التعقيب على ذلك برؤية الشيء نفسه خلال المجهر)، فإذا أراد أن يحلل فكرة ما ردها إلى الأحداث التي تتأثر بها حواس الإنسان المختلفة من بصر وسمع ولمس، فإذا وجد عنصراً من هذه العناصر لا يرتد إلى حاسة معينة عند تحصيله أيقن بعدم صحة تلك الفكرة. وعندما تتعامل الفلسفة التحليلية مع اللغة تلجأ إلى التمعن في المفردات التي تتكون منها الجملة، ثم إخضاع المفردة المبهمة إلى التحليل ومحاولة إيجاد المعاني الحقيقية المختبئة خلف تلك المفردة.
القراءة التفكيكية تخرج من رحم الفلسفة التحليلية وهي تنظر إلى الحدث أو الخطاب من تلك الزوايا النائية البعيدة عن العقلية النمطية، التي لا بد أن تقودنا في النهاية إلى رؤية مختلفة، وإلى نظرة تهتك عري الحقيقة المختبئة خلف الحدث أو الخطاب المكتوب أو المقروء. وهذه الآلية تقودنا إلى التأمل والتفكر ليس فقط في كل ما يجري حولنا من أحداث ومجريات بل في اللغة وما تحمله في أعطافها من معانٍ. وتدفعنا أيضاً إلى أن تكون لنا عين ميكروسكوبية تلتقط أصغر الجزئيات، لتضعه تحت مجهر الحقيقة حيث يتم تقليبه ذات اليمين وذات اليسار، عله يتمخض عن أسرار تختفي تحت غطائه الخارجي وتندثر بقشرته الظاهرية.
لم تتعود العقلية العربية على تفكيك الخطاب الموجه لها، سواء كان هذا الخطاب مقروءاً مكتوباً أو مسموعاً مرئياً. فالمتلقي يميل إلى امتصاص كافة أنواع الخطاب بدون إخضاعها لأي نوع من أنواع النقد، ومن دون أن يتساءل عن ما وراء اللغة من شُرُك قد تنصب له بدون أن يدرك. فاللغة هي وسيلة التعبير وهي تخضع للتعميم والتشويه والمبالغة والحذف والإضافة والإيحاء والتعتيم. وذلك حتى يتم لها توصيل ما يريده صانع الخطاب، الذي يخضع بدوره إلى أنواع مختلفة من المؤثرات والدوافع والرغبات الكامنة في نفسه.
يأتي في مقامها الأول عشق الإنسان للسلطة وحبه الآسر لها، وهذا العشق قد يدفع به شعورياً أو لا شعورياً إلى ليّ عنق الحقيقة ومحاولة تسخيرها في سبيل تحقيق رغباته ومطامحه التي ليس لها حدود. ثم يأتي مختلف أنواع الضعف البشري الذي يتحكم في سلوكيات الفرد حتى من دون إدراكه هو لتأثير ذلك الضعف عليه وعلى حكمه على الأمور، كما تلعب القيود الثقافية والاجتماعية والحضارية دورا بارزا يجعله غير قادر على التخلص من هيمنتها عليه، فتحكم قبضتها عليه وتغشي عينيه بضبابية كثيفة تحجب عنه حقائق الأمور، وتأسره في شباكها فلا يملك أن ينظر للأمور نظرة حيادية خالية من التعصب والتحيز لثقافته ومجتمعه وحضارته.
ولو تمعنا في أي عبارة توجه لنا لأدركنا أن وضع مفردة مكان مفردة أخرى قد يغير تماماً معنى الجملة ويقلب مفهومها رأساً على عقب، أو قد يؤدي استخدام مفردة مرادفة في المعنى إلى خلق معنى آخر للجملة قد يتنافى تماماً مع الحقيقة، وأذكى أنواع الخداع اللغوي في صنع الخطاب هو ذلك الذي يأتي بصورة غير مباشرة، فيتسلل إلى الجمل مصطحباً معه إيحاءات مبطنة تفرض على المتلقي فكرة معينة بدون أن يدرك أنه يسقط في تلك المصيدة التي تقوده إلى تكوين رأي محدد دفعه له منشئ الخطاب.
وعلم الإيحاء أضحى واحدا من أهم العلوم التي تندرج تحت بند عريض له فروع مختلفة، ويهدف إلى تعطيل عقل المتلقي بالسيطرة على عواطفه وانفعالاته وكأنما يقوم بعملية تنويم مغناطيسي، يغسل فيها دماغه من أفكاره القديمة فتصبح مهيأة لتقبل الأفكار الجديدة، وبهذا تكتمل عملية الهيمنة والسيطرة على فكر المتلقي، ولو تطلعنا إلى أرفف المكتبات لوجدناها تمتلئ بكتب تزعم أنها تعلم الإنسان آليات تمكنه من السيطرة على الآخرين والتحكم فيهم وقيادتهم. وإذا كان الكتاب يعرف من عنوانه فلك أن تتخيل ماذا تحوي كتب مثل: (كيف تسيطر على الآخرين؟) (وكيف تجعل الآخرين يتبنون أفكارك؟) وهلم جرا، وتعتبر من أكثر الكتب رواجاً في وقتنا الحالي.
آلية النظرة النقدية التحليلية لكل ما يدور حولنا تخرجنا من القيود الثقافية والحضارية والاجتماعية، التي تسيّرنا في دائرتها غير قادرين على تجاوزها كما تمكننا من التحرر من سيطرة الإعلام الذي بات إحدى وسائل العبودية التي تجر المتلقي وراءها مغمّم العين غير مدرك أنه لا يرى إلا ذلك الجزء الذي يريده منشئ الخطاب أن يراه.


amal_zahid@hotmail.com

الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
تشكيل
مسرح
ذاكرة
مداخلات
الثالثة
مراجعات
سرد
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved