الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 02th May,2005 العدد : 104

الأثنين 23 ,ربيع الاول 1426

كيف نجعل الفصحى ملَكة وسليقة؟ 2ـ 2
د.عوض بن حمد القوزي *
إن الذي ندعو له من الفصاحة هو تجنب العامية المرذولة، الملوثة ببعض الألفاظ الأجنبية، ولسنا من دعاة التقعر والتفاصح، ولكنا ندعو للغة وسط، تشمّ الإعراب، وتبتعد عن حوشي اللفظ ولا تعمد إلى الغريب، وتكون وسطاً في الرقي بالذوق، والاقتراب من الفصاحة المحببة إلى النفوس، لا إلى تلك التي تجعل أصحابها محطَّ التندر والسخرية، وتسلخهم من أمَّتهم فيشعرون بالغربة وهم في أوطانهم، ويحسون بالعزلة وهم بين ذويهم. نريد ألا تطغى اللهجات المحلية على اللغة الموحِّدة للأمة، ونحب أن ننشئ أبناءنا على لغة تجمعهم من الخليج إلى المحيط، وألا يحسوا بتفاوت الأفهام إذا التقوا في مضمار الثقافة، نريد لناشئتنا مستوى لغوياً يقرب المشارقة من المغاربة، ولا يشعر أحد منهم بفارق الإقصاء عن الآخرين، نريد أن نصل إلى ذلك المستوى الموحّد لأمة المستقبل العربية، وهذا المستوى لن نبلغه بجهود فردية أو إقليمية محدودة، وإنما نبلغه إن شاء الله إذا تضافرت جهود الأمة العربية شعوباً وحكومات وجعلت الهدف العام لها تنشئة بنيها تنشئة لغوية سليمة، واتبعت في ذلك المنهج المتكامل في نقل اللسان الطري من لكنة العجمة واللهجة إلى لغة القرآن الندية، التي تلذ للسمع، وتأسر الألباب.
إن المنهج التكاملي الذي نراه ألا تتخلى وحدات المجتمع عن دورها التربوي التعليمي، ونقصد بالوحدات المجتمعية (الأُسرة) و(المدرسة) و(المجتمع) العام المتمثل في الحياة العامة ومرافقها المتعددة، فالأُسرة مسؤولة عن وضع اللبنات الأولى للفصاحة، وبذرها في التربة الفكرية الطاهرة لدى الطفل، ورعايتها حتى تصل إلى (المدرسة) نقيَّة فتيَّة، وتظل في متابعتها وتغذيتها بالمفيد من المحفوظ والمسموع، وتأخذ على يد الصغير تارة بالتشجيع، وأخرى بالإغراء والتحبيب، ولا نلجأ إلى الإكراه فينفر من تلك النصوص ومن استخدامها، وينظر إليها وكأنَّها شبح يكره القرب منه، ثم تلتمس طريقاً غير طريق الفصاحة، ولن يجد مشقة في ذلك، فقد (حُفَّت الجنة بالمكاره، وحُفَّت النار بالشهوات).
إن المدرسة هي الجهة الأولى التي تمتد إليها خطوات الطفل خارج المنزل، فهي المحضن الثاني له، فيها الأبوة والرعاية والتدرب على جميع شؤون الحياة المنتظرة، فيها الرفاق والمناهج، وفيها تعديل السلوك وتوجيه القدرات، فيها يسمع الطفل ما لا يتهيأ له سماعه في البيت، وفيها يبدأ الاحتكاك بالآخرين سلباً وإيجاباً، في المدرسة يبدأ الانتقاء والاكتساب، فهو يسمع أستاذه وزميله وصديقه، وتتفتح عيناه على القراءة والكتابة، وينطلق لسانه مردداً ما يسمعه من القرآن الكريم، أو مقطوعات الشعر الخفيفة، أو الجُمل التي تأخذ بناصيته نحو مكارم الأخلاق، وفي المدرسة تبدأ الخطوات الأولى نحو الانضباط في السلوك، وفيها تنطلق المسيرة اللغوية الموجهة، والنمو الثقافي المدروس، فيها التعلُّم المنهجي لقابل الحياة، فالقراءة والكتابة والتعلُّم بشكل عام كلها لا تستطيع مؤسسة اجتماعية اخرى القيام بها غير المدرسة، لما توفر للمدرسة من خبرات وإمكانات توضع لمتابعة مستمرة ورعاية عليا تراكمية، تبدأ من المدرس، وهو المسؤول الميداني عن رعاية الطفل وتوجيهه تعليمياً وسلوكياً، ولا تقف عند الوزير المسؤول عن الشؤون الثقافية والتعليمية، بل ترقى إلى قمة الهرم في الدولة، كل هذه الأجهزة سخرت لرعاية الناشئة وتهيئتهم للحياة الصالحة النافعة، ومن أجل ذلك كان لها أن ترسم إستراتيجية واعية للتنشئة والرعاية، وتوظف إمكاناتها وخبراتها في الاستثمار الحقيقي لمستقبل الأوطان ألا وهو رعاية شباب الأمة فكرياً ولغوياً، وبناؤهم نفسياً وأخلاقياً، وإعدادهم قومياً ودينياً، والوصول في نهاية التحصيل إلى بناء شخصية سوية لا في الجسم والخلق فحسب، بل شخصية تعتز بهويتها وعروبتها، ودينها، لا تشعر بالانهزام والنقص، ولا بالانطوائية والذُّل، شخصية بنَّاءة غير عدوانية ولا متسلطة، شخصية معتدلة تقوم على المحبة والقدرة على المشاركة في تحمُّل المسؤولية، شخصية تدرك موقعها بين أمم الأرض وتعي رسالتها الكونية فتسعى للنهوض بها، لا تضع زمام أمرها في يد الآخرين يوجهونها كيفما يشاءون، ولا تكون إمعة تابعة مستهلكة ما ينتجه غيرهم من أمم الأرض، تعتز بمبادئها وتراثها الحضاري، وتقدمه للناس عملياً، لا تتباكى على الماضي دون أن تفعل للحاضر فعلاً موجباً، ولا تغفل عن المستقبل وما يتطلبه من آلة للبناء والتنافس، وتعيش حاضرها بمعطياته غير منفصلة عن الآخرين، ولا منقطعة عن الركب المتسارع الذي لا ينظر إلى الوراء إلا بعد أن يصل القمة، فيدرك أن قوماً آخرين توزعوا المسافة بين القمة والقاع.
واللغة تعد من أهم مقومات الشخصية، ولذلك فإن المدرسة مسؤولة عنها باعتبارها مسؤولة عن بناء الشخصية السوية، ولذا كان على المدرسة أن تخطط لسياستها اللغوية كما خططت لمناهجها الثقافية بشكل عام، وترعى الجانب اللغوي وتخصه بمزيد عنايتها، لأن اللغة هي النافذة إلى الفكر، وهي الوعاء للثقافة، وبها تتميز الهوية، وعن طريقها تزرع في الناشئة عزة النفس وإباءها، ولكي تنهض المدرسة بهذا الجانب فإن عليها تقديم اللغة إلى الطفل بصورة تحببها إليه لا تنفره منها، فتبتعد عن القوالب المحفوظة التي تنمحي آثارها بُعيد سماعها أو قراءتها، بل تنتقي النصوص من تراثها المنظوم أو المنثور، المشتملة على بعض المآثر والمفاخر، المتمثلة في الأخلاق والقيم، تلك النصوص التي تحمل النفس على العزة، وتغرس في الذاكرة حب هذه الأمة وتراثها، تختار الصور المشرقة من تاريخنا الثقافي، فتقدمها للناشئة لتغرس فيهم حب جذورهم العربية، لأنهم إذا أحبوا تلك الأصول أحبوا لغتها، وإذا أحبوا لغتها سهل عليهم استخدامها وفهمها، تنتقي النصوص المضيئة عن ماضي الأمة فتطرحها على الشبيبة ليتمثلوها ويترسموا خطاها إن في الأخلاق أو الديانة أو الآداب بصفة عامة، تختار آثاراً يسهل فهمها ولا يعسر حفظها، تتمثَّل فيها فصاحة الكلمة وجودة التركيب وسلامة المؤدَّى وغنى الفكر، والمضمون الحسن. إن تاريخ هذه الأمة الثقافي غني لا يضاهى، فينبغي أن نربط الناشئة به، ونحسن اختيار ذلك الربط، لئلا ننفرهم منه فيتركوه إلى غيره ظانين بأدبنا وتراثنا سوءاً.
وليست وظيفة المدرسة إعطاء الأولوية لاستظهار النصوص وترديدها دون وعي، ولكنها جهاز رسمت له سياسة أبعد، وأُنيطت به مسؤوليات كبيرة، فبناء الشخصية السوية مسؤولية هذا الجهاز، كما أن التكوين اللغوي لدى الطفل والمعرفي بصفة عامة مسؤوليته الأولى، ومن أجل ذلك كان على المدرس أن يعي مسؤوليته الشاملة، وأن ينهض المنهج التعليمي بما يتطلع إليه الوطن من تنشئة أجيال صالحة سوية تعي مسؤوليتها، وتعتز بهويتها ولغتها.
واستخدام الفصحى في المدارس تدريساً وتطبيقاً ربما كان من أكثر الأمور صعوبة، فالخلفيات الثقافية للأطفال ليست على درجة واحدة، كما أن إسهام المنازل في تحمل العبء التعليمي للطفل يتفاوت بين أسرة وأخرى، فضلاً عن استعداد المعلم وقدرته على التخلص من اللهجة المحلية التي ربما قدَّمها بعضهم على الفصحى، في ادعاء تزيّنه له نفسه، ويصدقه فكره المحدود وأفقه الضيق.
وسوف لن نبحث عناصر المناهج التعليمية في بحث قصير كهذا، ولكنا نودّ لها أن تتخلَّص من شوائب العشوائية، وتقترب من الجذور التراثية لتكوِّن للدارس محفوظاً تراثياً يشده نحو أصوله، ويحببه في لغة قومه، ويسمو به في آفاقها حيث الجمال والإبداع والإعجاز.
الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
تشكيل
مسرح
ذاكرة
مداخلات
الثالثة
مراجعات
سرد
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved