الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 02th May,2005 العدد : 104

الأثنين 23 ,ربيع الاول 1426

السطو على البحوث العلمية والصعود إلى أسفل
محمد عبيد
غريب جداً ما أتكلم عنه، بل كان عندي شيئاً مستحيلاً، ولكن هذا المستحيل أصبح حقيقة واقعة ملموسة لا نستطيع أن نغض الطرف عنها، بل إن هذا المستحيل قد أصبح أصلاً لظاهرة السرقة للبحوث العلمية والتقدم للترقية في المجال الأكاديمي.
وكنتُ قد كتبتُ قبل ذلك عن السرقات العلمية وأتيتُ ببعض النماذج التي كانت في حوزتي في ذلك الوقت، وكتبتْ أيضاً جريدة الرياض عن أستاذ جامعي سرق جهداً لطالب ماجستير ناسباً إياه لنفسه، بل إنه طبعه في نفس البلد التي تجمعهما دون مراعاة للشعور أو الأعراف التي تقوم على النزاهة والأمانة العلمية.
وبدأ هذا الأمر يشغلني كثيراً.. أستاذ يكتب ويتقدم للترقية ويترقى، ثم يأتي أستاذ آخر بعد عام أو عامين ليأخذ نفس البحث ويتقدم به أيضاً للترقية، والغريب الذي يضحك ويبكي أنه يترقى ويواصل بذلك صعوده في الدرجات العلمية، ولكن هذا الصعود عندي صعود إلى أسفل، صعود تجاه القاع.
ثم تتبَّعْتُ شيئاً من ذلك السطو الماكر على بحوث الأساتذة، فوجدت أن الأمر ولله الحمد والمنة منتشر جداً، والأمر فيه مألوف، والشاطر الذي يسارع بالسطو على البحث قبل أن يأخذه زميل آخر ويضيع عليه الفرصة، حينئذٍ يضطر إلى البحث عن سطو آخر، وهذا عمل شاق ومجهد وثقيل على نفوس هؤلاء.
وتجمعتْ لديَّ بحوث كثيرة ساعدني في الحصول عليها أساتذة أمناء أسماؤها ومادتها واحدة، لكنها تحمل اسمين، وكل اسم قبله (د.) كبيرة تدل على أن المكتوب موثوق به وصادر عن أهل ثقة.
ونكشف اليوم عن حلقة من حلقات هذا المسلسل الفاضح لسرقات البحوث العلمية، فقد أهداني الأستاذ الدكتور أحمد صبرة بحثين قد نُشرا في مجلتين محكمتين، وكان الأخ الأستاذ الدكتور عبد الله الفيفي قد كتب في ثقافية (الجزيرة) مقالاً رائعاً عن هذا الموضوع بعنوان: اللص الذي أصبح أستاذاً، وأصاب موطن الجرح بشدة وحَيْدة وموضوعية، انتهى مع نهاية مقاله إلى أن الوضع أصبح خطيراً وحرجاً ومؤلماً للغاية.
وقد شافهني في هذه الأوقات الأخ الأديب الأستاذ إبراهيم التركي وأسرَّ إليَّ في حديث دار بيني وبينه حول هذا الموضوع بأن هذه الأعمال لا تعتبر خيانة للنفس فقط، بل تتعدى هذه الخيانة لتصل إلى أمة كاملة، والحق فيما قال.
وأعود إلى هذين العملين فأقول: إن البحثين عبارة عن أصل وصورة (مكربنة)، اللهم إلا في القليل النادر عندما أراد الباحث المنتحل أن يخدع نفسه، فما زاد الأمر إلا وضوحاً ودليلاً على جريمته، وأصبح عندنا بلغة أهل القضاء الجاني والمجني عليه. أما المجني عليه فهو الأستاذ الدكتور محمد الهدلق بجامعة الملك سعود، وكان قد كتب بحثاً بعنوان: (النقد الأدبي في مقامات الحريري)، ونشرته مجلة البحث العلمي والتراث الإسلامي في عددها الخامس عام 1402هـ.
وأما الجاني فهو الأستاذ الدكتور عبد الصبور ضيف محمد بجامعة الأزهر الشريف، ليأخذ بحث الرجل كما هو ويتقدم به للترقية بعد خمس سنوات من نشر بحث الدكتور الهدلق، وقد قُبل بحثه وترقى به ونشرته مجلة كلية البنات الإسلامية بأسيوط في عددها السادس عام 1407هـ.
وكنتُ قبل قراءة البحثين معتقداً أن الأمر لا يعدو إلا أن يكون تشابهاً في فكرة أو فكرتين، أو انتحال صفحة أو صفحتين، فإن هذا يعدُّ في هذه الأيام شيئاً يسيراً لا يُلام عليه السارق، بل لعله يُحمد على هذا الأمر.
وأزعجني ما رأيتُ وما قرأتُ، حتى أُصبتُ بالهم والغم والحيرة من سوء ما شاهدتُ؛ فالبحث نفس البحث، والموضوع نفس الموضوع، والعنوان تقريباً هو هو، ومما زاد الأمر خيبة أن الأستاذ الجاني لم يتبع الأعراف السائدة عند الذين يسرقون، فهم يمتازون بمهارة الحرفة وخفة اليد، ولكن هذا الأستاذ العظيم غفر الله لي وله صاحب يد ثقيلة، فعندما أراد أن يغير في بعض العبارات أعطى للقارئ دليلاً على جمود فكره وتحجُّر قلمه، فالعنوان عند الدكتور الهدلق (النقد الأدبي في مقامات الحريري)، فغيَّره الدكتور عبد الصبور إلى (مقامات الحريري والنقد الأدبي)، ولطش البحث بعدها ونسي أن عين الله ترى كل شيء وأن البعرة تدل على البعير.
ثم شرع يغيِّر في بعض العبارات، يريد أن يشوه ملامح البحث الأصلي لعل أحداً لا يهتدي إليه، ولكن الجناة دائماً يتركون أدلة كثيرة ضدهم هي من صنع أيديهم.
والمحاور التي سار عليها الدكتور عبد الصبور لإخفاء معالم جريمته كانت على النحو التالي:
أولاً: تغيير الضمائر من الجمع إلى المفرد، فالدكتور الهدلق يقول: لن نتحدث (ص 261) ويقول الدكتور عبد الصبور: لن أتحدث (ص 188)، وطبعاً هذا تغيير كبير جداً.
ثانياً: زيادة بعض حروف العطف؛ كالواو مثلاً، انظر بحث الدكتور عبد الصبور أستغفر الله أقصد الذي سرقه الدكتور عبد الصبور (ص 214،209،194،191).
ثالثاً: إسقاط بعض الكلمات والحروف، انظر مثلاً كلمة: ونحن (ص 191)، ومرجع من الحاشية (ص 193)، ويقابله المرجع رقم 14 عند الدكتور الهدلق، والواو في (وقد) ص 196، والعلامة التي تدل على التدوير في الشعر ص 201، والواو في (والانتحال) ص 269.
رابعاً: نقل الإحالة من كلمة إلى أخرى، ففي ص 272 من بحث الدكتور الهدلق نجد الإحالة عند كلمة (واختلاف الأهواء)، فغيَّر ذلك الدكتور عبد الصبور ونقل الإحالة إلى كلمة (الفصحاء) في السطر الذي قبلها مباشرة ص 213 (شكراً له على هذا المجهود الكبير فنقل الإحالات ليس سهلاً الآن).
خامساً: وهذا مهم جداً، أجرى الدكتور الهدلق على بحثه بعد طباعته بعض التعديلات، فأضاف بعض الكلمات التي سقطت أثناء الطباعة، وهذه الكلمات التي أضافها الدكتور الهدلق تجعل الكلام واضحاً والنص مستقيماً.
وبالطبع لم يطلع الأستاذ الدكتور عبد الصبور على هذه التعديلات؛ لأن الدكتور الهدلق أجراها بخط يده في نسخته التي في حوزته، فبقيت نسخة الدكتور عبد الصبور خالية من هذه التصحيحات التي كانت دليلاً دامغاً على أن هناك سرقة وقعت مع سبق الإصرار والترصد.
وهذا بيان بالتعديل عند الدكتور الهدلق وما يقابله عند الدكتور عبد الصبور:
1 صوَّب الدكتور الهدلق ص 264: وبعد فترة قصيرة من التفكير شرع في إملاء الرسالة المطلوبة التي (يقول) في أولها...
فأضاف كلمة (يقول) بخط يده، وليست عند الدكتور عبد الصبور ص 296.
2 أضاف الدكتور الهدلق كلمة (آخر) في قوله آلى آخر الشروط ص 266، وليست عند الدكتور عبد الصبور ص 200.
3 أضاف الدكتور الهدلق كلمة (من مقامة) ص 296، وليست عند الدكتور عبد الصبور ص 207.
4 هناك بعض الكلمات التي كان فيها خطأ طباعي وصححه الدكتور الهدلق وبقيت كما هي بخطئها عند الدكتور ضيف؛ لأنه أخذ البحث كما هو، ومن ذلك:
* غيات، والصواب: غايات، انظر الدكتور الهدلق ص 262، والدكتور عبد الصبور ص 191.
* نضالته، والصواب: فضالته، انظر الدكتور الهدلق ص 262، والدكتور عبد الصبور ص 191.
* أعرني سمعك، والصواب: ارعني سمعك، انظر الدكتور الهدلق ص 276، والدكتور عبد الصبور ص 201.
* قول الشاعر: وأرضى إشفاع الهجر خشية هجره (عبد الصبور ص 202)، والصواب: وأرضى استماع الهجر خشية هجره (الهدلق ص 267). وكلمة إشفاع تكسر الوزن؛ لأنه من بحر الطويل يا صاحب اليد...!!
* ويستغني بوجوه عمن سواي، والصواب: عمن سواه (انظر الدكتور الهدلق ص 267، والدكتور عبد الصبور ص 202).
* واستغزوا، والصواب: واستغزروا (انظر الدكتور الهدلق ص 271، والدكتور عبد الصبور ص 211).
* قد ثبت عن جميع الحكام، والصواب: عند جميع الحكام (انظر الدكتور الهدلق ص 273، والدكتور عبد الصبور ص 215).
* فدرسه نصب وخزنه مصب، والصواب: وخزنه حصب (انظر الدكتور الهدلق ص 274، والدكتور عبد الصبور217).
* أما عن إجمالي السطور التي حذفها الدكتور عبد الصبور من بحث الدكتور الهدلق فكان مجموعها 14 سطراً من إجمالي البحث (يا راجل حرام عليك 14 بس)، سطر في أول البحث، والباقي في النهاية.
وقد زاد الدكتور عبد الصبور 7 أسطر في الصفحة الثالثة من بحثه، ولكن هذه الزيادة ولله الحمد كانت أيضاً من كلام الدكتور الهدلق في هوامشه في نهاية بحثه أخذها الدكتور عبد الصبور ووضعها في المتن (طبعاً حاجة كبيرة جداً).
{وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ}


* دكتوراه في دار العلوم جامعة القاهرة
abeed1974@hotmail.com

الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
تشكيل
مسرح
ذاكرة
مداخلات
الثالثة
مراجعات
سرد
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved