الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 02th May,2005 العدد : 104

الأثنين 23 ,ربيع الاول 1426

قصة قصيرة
طرق لا تؤدي إلى روما
أحمد البشري
الحجارة لا تكفي لردم سيل الخطوط البيضاء والصفراء في بصره، لا الذهاب يشبه البحر ولا باب الرجوع ممسكاً بالأرصفة، بين شارع وآخر يتعلق الركاب بمرتبة الريح حتى ضفتي مسعود بن مطلق، وحين لا يتكاثرون ولا يتشابهون مع (الاسفلت) تكون أكتاف الطريق قد ابتعدت بما يكفي لأن يبدأوا رحلة العودة مشياً وتبدأ حكايا أخرى بالتمدد في الجسد!!
***
يعترف بأن الطرق التي تحمله لا تبتسم، وإن فعلت فإنها تظهر وعثاءها بجلاء كل حين، طريق كهذه ممتدة بلا توقف تعني له متعة خاصة، وتعمق لديه احساسا السفر، نشأ على هذا الطريق طريق الموت كما يحلو لمن يعرفهم تسميته وكما تشهد بذلك سجلات الوفاة في المستشفيات الرديئة القريبة ذاكرة الملح وطفولته مزيج من بكاء ينتج من رفض والده اصطحابه معه او بكاء فرحه في حال موافقته.
يقولون انه نشأ وعلى خديه شامتان من أثر الدموع لذا فهو مضرب مثل للأمهات اللائي يعاقبن اطفالهن ويصادرن منهم فريضة البكاء، كان يصحبه والده مرتين يومياً كعربون ثقة مبكرة وشهادة له يحملها بين أقرانه، غالباً ما يجلس في صندوق السيارة الخلفي لا يبالي من يجاوره ان كان بشراً أو ماعزاً، كل ذلك أتاح له معرفة الطريق والتعرف على وجوه تحضر كثيراً ووجوه لا تظهر إلا في المناسبات، وجد نفسه يكبر على حب هذا الطريق ويحلم به كثيراً وتدريجياً حل مكان والده.
تراه لا يمل الخروج حين تداعب الشمس ستارته يزيح نعاسه بالماء ويعصب شماغه على رأسه ويخرج، صوته المميز هو صاحبه الذي لا يخونه، يحفظ أغاني (حجاب بن نحيت) جميعها، يشدو بها كل ما أتاح له الطريق فرصة، أو كلما داعب الركاب جراحه، يحمل العمال المتعبين الذاهبين إلى شمسهم التي تحرقهم أو العائدين لزوجاتهم محملين بشهوة الطعام ومملوئين بأقداح النعاس، وأن اضمحلت جيوبهم في الدين أجل لهم الدفع بفائدة يسيرة، هو لا يعلم ما الربا ولا يعرف كيف يصلّي لكنه ممتلىء بالدين، ودينه قناعة، لا تفنى تماماً كالكنز!! كزبائنه وطريقه الطويل.
***
هذه القرية تآلفت مع شح المطر ومع قطعان المواشي التي لا تعود وتختفي باتجاه البادية القريبة ثم لا يجدون حرجا من سؤال مسعود ان يبحث عنها، ليخرج يتساقط من كل الأبواب ووجهه إلى الله يبحث عن آثار لأقدام صغيرة أو عن روث رطب يستدل به إليها، ثم يعود ورائحة الغنم تملأ جيوبه، وجيوبه فارغة!!
***
(هذال) المنارة التي يهتدي بها كل أبناء هذه البقعة المنصوبة على خريطة النسيان، وصاحب ارتداد المشاعر الظاهر بين الجميع، فقط هو من يجاهر بحبه ولا يخشى القطيعة ويغالي في التبجح بأن مسعود وكيل في هذه الأرض لمجرد أنه الوحيد الذي امتلك سيارة، الوحيد الذي يأخذه بجانبه مجاناً كلما انتفضت فيه رغبة التنقل. في أشباه القرى لا يعرفون تاريخا محددا لشؤونهم الصغيرة يفلسفونها بطرقهم المبسطة وتنتشر على هذا النحو حتى تصل أطراف المدن قبل ان تقتلها الأوراق.
***
يقول هذال ولد مسعود في زمن (أبو ذيل) ويؤكد على مقولته بأنه حين صرخت والدته خرج من السماء نجم كبير له مؤخرة من لهب كذيل الفرس إلى مكان نجهله، ول(اظهار مقدرته على التذكر) يقول: انه سقط في بلاد بعيدة ويساوره شك في أن تكون الهند، وقال: لقد ظننت أنا وخليل (المطوع) ان مسعود مُسخ وأننا سنهلك وتحل بنا لعنة موقوتة ويدعم ظنه بأن جده وجدته صعدا إلى السماء في الأسابيع القليلة التي سبقت ولادته.
بينما الخالة لولوة لديها رؤية أخرى معارضة تماماً لما يقول هذال، تقول: إنها ارضعته مع ابنتها مزنة تحديداً قبل فطامها بشهرين، وتستدرك الخالة لولوة لتقول: ولدت مزنة ووالدها في القافلة التي نفقت في الشام وعرف فيما بعد بعام الموتى، كما ان الجدة نورة توافق لولوة بل وتزيد على انه ولد في العام الذي دهست فيه ناقتها حوارها الذي وافق موت ابنها (حمود) مع القافلة.
***
(الغمارتين الونيت أم عزيز الدستن العراوي) كما يفعل الجميع يفعل مسعود فيبرز مواهبه في التسمية وتدليل محبوبته، ويقال انه صاحب كل هذه التسميات لسيارته الشامخة في رأيه، ويضيف الذين ركبوا معه بعد (سيل الحنف) انه اظهر مهارات في الشعر وأنشد قصيدة انتشرت لاحقاً لدى العامة إلا أنه أنكر انتسابها له، ويتمادى بعضهم ليحلف بأنه سمع مسعوداً يعدد جميع أفراد القرى التي تقع على طريقه بل ويعرف انسابهم حتى الجد الخامس.
في الوقت الذي يجهد مسعود الطريق ل(مشاويره) ويظهر في ذلك بأسا وجلدا، كان الطريق دائماً يظهر له عداء واضحاً ممزوجاً بغلظة جلية، ففي كل رواح له يرى الشارع يتزلزل ويذهب باتجاهات جديدة إلى جهات غير معبدة وهو يأبى ان يخونه فيتبعه إلى حيث لا يدري، يخرج غالباً بأضرار جسدية في سيارته وفي جسمه النحيل أيضاً الا أنه كان يزيد رهانه على الطريق كل يوم وهو لا يبالي.
يقولون: انه انفق ما ادخره في آخر سنواته على (أم عزيز) في احدى خيانات الطريق، وكأن شيئا لم يكن عاد إلى الطريق في اليوم التالي لاصلاحها متصالحاً مع كل المخارج وكل الأرصفة وكل الزبائن الذين لا يدفعون!!.. مسعود الفقير والمعدم ليس الا حليف للسفر، فدائماً تراه شارداً يفكر هل سيجد غداً على الطريق من يطلب منه توصيله إلى مكان بعيد، ام سيكون مصير غده كباقي أيامه في الجوار مع نفس الوجوه تقريباً.
فهو يقرأ دعاء السفر حين يخرج كل صباح بصوت جهوري كاستعداد وكفأل جيد ليومه الجديد، وفي أحيان كثيرة تصيبه وسوسة فيعيده أكثر من مرة، أيضاً لا يعرف ولا يهتم ان كان للسفر سبع فوائد أو مائة يكفيه من السفر ان يمتد به الطريق ليواصل غناءه ويقلب أمانيه لوحده بعيداً عن قريته، لذا تجده صامتاً في الذهاب اجابته محددة ومختصرة لا يغني وملتزماً بالطريق واضعاً كل تفكيره في القيادة، يراهن على رحلة العودة، فلا يقف للركاب المنتظرين على أطراف الطريق أو حتى ينظر إليهم ويتسلح جيداً بأحلام مطمئنة تناسب شظف عيشة.
الطريق الذي أظهر عداوته في الفترة الأخيرة كف عن أذاه وكأنه توصل إلى صلح معه وعاد يحمله على ظهره لا يمله ولا يلقيه إلا في المساء وبالقرب من بيته، لتعود أسهمه في الارتفاع وعاد هذال يجاهر بحبه بعد أن توقف عن ذلك في فترة العداء، قيل انه ابتاع لنفسه مسجلاً بينما يؤكد الذين ركبوا معه مؤخراً انه (راديو) فقط، لذا حرص الجميع على زيارته والتأكد من ذلك، الا ان ذلك لم يتحقق للجميع.
ففي صباح اليوم التالي، تحديداً مع أول رغيف في أول فرن يشتعل، وحين بدأت الشمس تحرق فلول الليل وتطردها باتجاه النائمين المتأخرين عن أعمالهم، خرج مسعود إلى الطريق وكما هو معتاد حمل معه سلطان التلميذ الوحيد في القرية والشاب الذي قرنت به كل الأماني وكسب حب كل الفتيات، ليوصله إلى المدرسة في القرية التي تلي القرية.
يقول سلطان: كان مسجلاً ورأيت معه شريطين، كنت منصتا وكأني انتظر ان ينطق باسمي او على الاقل يسألني عن (حصة بنت سليمان) بينما مسعود لا يلقي بالا وكأنه مشغول بشيء آخر، كان متحداً مع الصمت بطريقة متقنة ولم يمازحني كعادته أو حتى يسبني ويلعن حظي كما في أيامه البائسة، ويتابع: رأيت شيخا بثياب بيضاء ولحية كثة مغطى بالغبرة ويتكىء على عصا من خيزران ويحمل معه زوادة سفر مملوءة عن آخرها، ويؤشر باتجاه السماء تارة وإلى الشرق تارة أخرى، توقف بالقرب منه وحمله معه دون أن يسأله عن وجهته وكأنهما على اتفاق مسبق لرحلة طويلة ظننت بأنه سيحمله معه إلى الميقات الأقرب إلينا، وأنا اترقب ان يلتفت احدهما إلى الآخر أو على الأقل يسأله إلى أين يريد الذهاب!!
***
عاد سلطان مشياً على الأقدام في المساء، وأمر هذال بفرق استكشاف تجوب المنطقة بعد أن غاب مسعود ثلاثة أيام متتالية، تقول الخالة لولوة بأن مسعود مل القرية ومل الركاب الذين لا يوفون ديونهم، ومل هذا الطريق لذا رحل بعيداً، بينما يعارضها هذال كالعادة ويراهن على ان الشيخ الذي ركب معه هو الموت في صورة بشر كما حدث لجده مطلق وأنه أخذه معه الى السماء.


الرياض مارس 2004

الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
تشكيل
مسرح
ذاكرة
مداخلات
الثالثة
مراجعات
سرد
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved