الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 2nd June,2003 العدد : 14

الأثنين 2 ,ربيع الثاني 1424

الذاكرة الازدواجية
قراءة في رواية "خاتم" (2-2)
حسين المناصرة
"أخرجت كومة من ثياب الصبيان: ثوب وعمامة وجبة سوداء من جيب العلماء وحزم قصب عريض، مالت للصفة الملحقة بالمقعد، ونضت احرام المصطكا، فكت أزرار الذهب وألقت بصديرية القطن الرهيف، وألحقتها بالسروال الحلبي المزنر بكروم أبي نواس، بسلاسة اكتست ثياب الذكر، وحين دخلت المقعد قام الشيخ نصيب فأحكم على خاصرتها حزام القصب، صارت خاتم في هيئة صبي مليح، وعندها أشرع الشيخ نصيب شرفته، رفع قلاليب الروشن، فاتحا الذِّكر ومشهده على الطريق".
تتشكل المأساة في بيت الشيخ نصيبا من خلال موت الذكور، حيث وضعت زوجه سكينة خمسة بطون، في كل بطن توأم "ذكر وأنثى"، لا يلبث أن يموت الذكر بسبب الحرب أو الوباء، وتعيش الأنثى، بحيث خلا البيت من الذكور الخمسة التوائم الذين يعدون الأساس في بناء النظام الأسري القبلي وتواصله، فصار موت الذكور "كية عزرائيل" في قلب الشيخ نصيب" (ص25".
ولما لم ينجب الشيخ نصيب ابنا من صلبه فإنه بذلك غدا بلا سند، ثم كانت ولادة السيدة سكينة المولود السادس والأخير، حيث أنجبت بنتا، أو ربما بنتا خنثى، فهي لم تعد تنجب التوائم، لذلك كانت هذه البنت خاتمة المطاف.. ثم عاشت هذه البنت بين أخواتها بوصفها بنتا، الى أن بلغت الثانية عشرة من عمرها، فانتقلت الى مرحلة جديدة؛ مرحلة التداخل بين الذكورة والأنوثة، فهي كما يبدو من الناحية الجسدية أنثى، لكنه من ناحية التصرفات ذكر، خاصة فيما تلبسه من ملابس الذكور كما يتضح في فقرة الترويسة من هذه المقالة، لذلك تعيش هذه البنت دور الذكورة خارج بيتها في حارات مكة وأسواقها وحلقة الشيخ مستور، ودور الأنثى في بيتها، والى حد ما في بيت الشيخة تحفة، حيث تتقن تعلم الضرب على العود، فتصبح جنية في علاقتها بالموسيقى.
لم يقتنع الشيخ نصيب بأبوته لربيبه سند ابن الجارية "شارة" وزوجها العبد "فرج"، رغم محاولاته ان يلحقه بنسب الأشراف عن طريق حمله في القافلة لزيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم، أو عن طريق ارضاعه من لبن أخت الشيخ نصيب/ السيدة زين، أو عن طريق محاولاته اليائسة ان يرضعه من حليب سكينة لما ولدت "خاتم"، رغم بلوغه الثالثة من عمره، فقد بقي سند الذي سمي بناء على رغبة دفينة لدى الشيخ نصيب بهذا الاسم، ربيبا له من الناحية الشكلية، لكنه في الباطن لا يحيي بأية حال ذكره الفعلي بين الناس، لذلك مال الشيخ نصيب الى تحويل خاتم الى ذكر يمارس حياة الذكورة، فيحقق للشيخ قوة ذكورية بين الآخرين من خلال حركية الذكر خاتم بن نصيب المولود من صلبه، ولو على الطريقة الشكلية، التي تبعد عن شبح الميل الى "ربيب" من صلب الآخرين الذين لا ينتمون الى طبقة الأشراف أو الأسياد.. رغم اعلانه عن سند بين الناس سيدا من نسل الأشراف بعد ان شرب من لبن السيدة زين تحديدا، كما أسلفنا، فغدا من هذه الناحية سيدا، عتق من العبودية من وجهة نظر السرد!!.
كانت ولادة السيدة سكينة لخاتمة ولاداتها "خاتم" في معزل عن القابلات، كانت هي والشيخ نصيب فقط، حيث لوعة البحث عن الذكر، والنية المبطنة لجعل الأنثى ذكراً بطريقة أو بأخرى، على الأقل أمام أعين الغرباء عن البيت الكبير، ومع ذلك كانت الولادة مخيفة للزوجين، فلا نعرف هل كانت الولادة أنثى أم ذكراً أم خنثى، فقط كانت الولادة رعبا للزوجين.
منذ ان وعت خاتم على حياتها وحياة أسرتها، وهي تتمرد على أنثويتها، وتميل الى التعلق بتصرفات الذكور.. فهي تحسد الذكور على سلطتهم وحركتهم، كما يبدو من خلال حواراتها مع سند وهلال، بل إنها عندما تحضر عرس بنت جارتهم، ترتعب من حفل الزواج، فتتصور ابنة الجيران تقاد الى الزوج النهم بطريقة الذبيحة، لذلك تقسم أمام الأخريات أنها لن تصير ذبيحة في يوم من الأيام؛ تقول للنسوة الفرحات بالعرس:"لن أدع رجلا يذبحني على ريكة.." (ص125".
من هنا غدت تصرفاتها أمام الآخرين تصرفات الخنثى، أي تصرفات "البنت الولد" ف"دخلت في قطيعة مع صوتها، مع جسدها، مع ظاهر لغة الصوت والجسد، صارت تفتش عن صوت أو ثوب أعمق من هذا الصوت والجسد القابلين للتحريف بثياب أنثى أو ذكر" (ص126).
ولا تقف هذه الثنائية التضادية "الذكورة والأنوثة الخنثى" عند علاقات خاتم الخارجية بالآخرين، بل إنها تتجاوز هذا الاطار الخارجي لتصبح حالة تضاد نفسية عميقة في ذاتها، حيث ينتابها خوف من فقدان ثوب الذكورة الذي يعطيها حرية الحركة خارج البيت، وتخاف من ثوب الأنوثة الذي سيحشرها في جحر البيت فلا تستطيع الحركة خارجه، لذلك كانت تهرب من جسدها الأنثوي الداخلي، فتتعلق بثوب الذكورة الخارجي، مما جسد شخصية الخنثى في شكلها وتصرفاتها، وأدخل المتلقي في سياق غموض الرواية بخصوص هذه الشخصية!!.
لنتأمل النص التالي في توضيح حالة التضاد هذه المشكلة للغموض:
"وفي ليال كانت تقضي ساهرة، تأمر جسدها بالتمسك كليا بصفة الأنثى، تأمره بخلع كل ذاكرة الذكورة، وتبعاتها، تغوص في تلك الرغبة، ثم لا تلبث ان تطوف بذعر: ماذا لو فقدت الطريق للذكر كلية؟ حينها لا يعود من باب ينفتح لها على الطريق وما يخبئه من مفاجآت ومنحدرات وتحف الدحديرة. ذعر يتحول لكابوس من فقدان تلك السلطة التي تلبسها في ثوب الذكر، وتطلقها مثل طاووس على دروب الجبل، قوة لا يستهان بها في ذاك الثوب تخولها أن تفتح ما شاءت من أبواب وتغلق، تفتح ما شاءت من الأجساد وتطوي، قوة أدمنتها وصار خلعها مثل اخصاء نهائي ولا رجعة فيه، لقدرتها على الوجود بحرية" (ص176).
إنها في هذا السياق تصبح مثل أرض مشوهة، غدت تنبت أجزاء غريبة في جسدها وتبتر أجزاء أخرى، تستنبت عضوا مؤنثا في الليل وتسترجع عضوا مذكرا في النهار، فصارت على هذا النحو بلا جنس، تتنوع ايقاعات جسدها بتنوع تحولاتها المشوهة، وتتأكد ليونة التحول هذه من خلال الموسيقى التي صارت تحاكي الجسد وتشكله،وهنا تصير الذكورة شكلا من أشكال الالتباس في شخصية خاتم على نحو:"لكأن جسد ذكر يلتحم بجسد خاتم كلما نظرت في تلك العيون "عيون النساء من حولها" أو لبست ثوب الرجال وخرجت بوجهها عاريا للطريق، تحتد أطرافها وتخلع ليونتها لتدخل في هيئة آدم، شبه يقين من كونها ثنائية الجنس يتملكها" "ص194".
وفي المحصلة النهائية، كأن في جسد خاتم ذكراً من الجان، هذا ما تشعرنا به الساردة في نهاية الرواية، حيث عندما تدب فتنة الحرب في مكة بين الأميرين الهاشميين غالب وأحمد، يحرق الشيخ نصيب ملابس الذكور التي كانت تلبسها خاتم، فتلبس ملابس النساء، ولكن ما أن يجمع الجنود النساء للتأكد من أنوثتهن، حتى تبدو حالة خاتم غرائبية، كما كانت حالة ولادتها، فبينما كانت يد الجندي تمتد الى ما بين الساقين لتتحقق من الهوية الأنثوية، وما أن مست اليد فرج خاتم حتى تهاوت الأيدي الغليظة تجردها من ثيابها، لتسقط بعد ذلك صريعة اطلاق النار عليها مع هلال، وكأن الجنود والحاضرين كلهم تأكدوا من أنها تملك عضوا ذكريا، وكأنهم جميعا خدعوا بهذه الذكورة أو الأنوثة المستعارة: "ظلت دهشة الخديعة محفورة على وجه هلال في موته، محفورة في عيون الأخوات والجواري وتلك المتلصصة من وراء الرواشن والعيون وشهوة الحكايا لا يستره غير ظل هلال، نظرة هي مزيج من دهشة على ذعر وغيظ وغدر ذاك الاكتشاف. وحده سند قضى دون أن يعرف تلك الحقيقة المباحة على الطريق". (ص254). وهذه الحقيقة بكل تأكيد تبقى غير معروفة للقارئ: فلا تعرف إن تأكد هؤلاء الناظرون من جنسها؛ من أنها أنثى، أم ذكر؟ لا نعرف!! لأن الساردة "رجاء عالم" كما يبدو لا تريدنا أن نعرف حقيقة الخنثى "خاتم" على وجه التحديد.
لكن على ما يبدو كان هناك ابليس يتلبس "خاتم" ربما هو من صرخ صرخة مرعبة، هي كلمة "يلعنك".."، وهذا ما شاهده الشيخ نصيب عندما صفق الباب بآخر الدهليز، ورأى حفرة بحجم رأس تبقر جوف الباب، ورأى خيالا كان منقوشاً هناك وزال.. إنها ذاكرة الرعب، على أية حال، ابتداء من الولادة وانتهاء بالموت فيما يخص شخصية خاتم "الخنثى" أو يخص سندا ربيب الشيخ نصيب أو يخص هلال الجن.. فهؤلاء الثلاثة الذين قتلوا معا في المكان نفسه الذي ولدوا فيه، جعلوا البيت الكبير في نهاية الرواية عملاقا مخصيا!!
كأن موت الذكور في هذا البيت هو العقاب الذي يعاقب به الله أعمال الشيخ نصيب، إذ كان بيته يمثل مكانا لبيع اللحم الحي، كما يرى هلال الذي يقول ل"خاتم":"بيتكم دوما تغرف الأجساد والأرواح من هذا الصوب من الجبل وتبيع لذاك الصوب، وتعلو وتتطاول، فيها يربى أبناء هذا الجحيم "الأحياء الفقيرة"، ليصبحوا صالحين للبيع بذاك الصوب "الأحياء الثرية" (ص79).
ربما يكون إبليس هو قرين هلال، وان شخصية "خاتم" هي شخصية ذكر منذ ولادتها، وأنه ربما جعله والداه في لباس الاناث من أجل أن يبعدا عنه الموت الذي أخذ إخوته، لذلك كانت هذه الفكرة أسطورية بحد ذاتها إن كانت خاتم ذكرا، ووضعت في بداية حياتها بثوب الأنثى، ثم أدخلت بطريقة خرافية في ثوب الذكورة. طبعا هذا البعد الذكوري لا نشعر به من خلال الرواية، حيث تشعرنا الرواية دوما أننا أمام أنثى استلبت منها أنثويتها لتكون ذكرا خارج البيت في سياق من سياقات اللعبية السردية التي احتفت بها روايات رجاء عالم على وجه العموم!!.
والمسألة في نهاية المطاف كما يبدو هي البحث النسوي عن الحرية في التصرفات، بحيث تنشد "خاتم" الى الحرية، التي يوفرها لها ثوبا الذكورة والأنوثة معا، فتغدو حياتها على هذا النحو مهمة من وجهة نظرها في سياق هذه الازدواجية المتكاملة، تقول لسند عن حياتها هذه:"إنها تمنحني مكانا أوسع للحركة، أنا لا أطيق البقاء مع أخواتي في المبيتات ووراء البراقع، أحب نظر الناس في عيني ونظري في عيون الناس على الطريق، لا أطيق خروج الحمارة دون أن أكون على ظهرها ".." أحب النقلة بين الشيء وما بعده وقبله أو وراءه أو نقيضه، أحب مراقبة النساء، الدخول في مجالسهن وأسرارهن، لكن لا أريد ان أكون سراً محبوسا هناك، لا أريد أن أخبأ، وفي الوقت نفسه لا أريد ان أنكشف" (60).
إن الرؤية التي انطلقت منها هذه المقاربة هي رؤية انشغال الرواية بثنائية الذكورة والأنوثة في شخصية خاتم بوصفها الأساس في تكوين الرؤية النسوية عند رجاء عالم، فبينما تغيب شخصيات أخوات خاتم، بسبب أنثويتهن، عن البنية السردية، تسير شخصية خاتم في سياق فاعل؛ لأنها تخلصت من ثوب الأنوثة، ولبست مكانه ثوب الذكورة، فاستحقت من خلال هذا التشوه الملازم لشخصيتها دور البطولة، ابتداء من ولادتها الغرائبية، مروراً بتناقضات شخصيتها وجسدها، وانتهاء بموتها الغريب.. بحيث تغدو هذه الشخصية في البنية السردية المحرك الأول والأخير لحركية السرد.. من هنا وصفنا ذاكرة هذه الرواية بأنها ذاكرة الخنثى!!.
وتلعب الموسيقى دورا فاعلا في تغيير الأجساد في تطورالسرد، هذا ما اقتنعت به خاتم، تقول في هذا السياق:"الموسيقى هي عجينة أجسادنا، هي الآلة التي تسبك أجسادنا/ تناسقها وتشوهاتها، كما أن أجسادنا بالمقابل حين تصفو ويكتمل بهاؤها، تصيرآلة لطلوع هذه الموسيقى الكونية، كمالنا يتم بطلوع الأغنية المضمرة فينا" (ص188). من هذه الرؤية بامكاننا ان نعيد قراءة الرواية بوصفها ذاكرة للموسيقى. وبكل تأكيد سنصل من هذه الذاكرة الى نتيجة بناء ذاكرة الخنثى، لأن الموسيقى ومن وجهة نظر السرد هي الأخرى مثل "خاتم" خنثى!.
الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
قضايا
حوار
تشكيل
كتب
مسرح
وراقيات
ذاكرة
مداخلات
المحررون
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved