الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 2nd June,2003 العدد : 14

الأثنين 2 ,ربيع الثاني 1424

كسر لتراتبية الحكي وإدماج للوثائق والرسائل
عبده خال "يمرّغ" أنف السرد التقليدي في "الطين"
عبدالله السمطي
15jpg
الحيرة الدلالية، والتساؤل الأبدي عن يقين ما، والركض في براري "الغرائبية" والافتتان الحديثي هو ما يضرب هواجس قارئ "طين" عبده خال الذي يصيب بالصدمة كل التأويلات التي قد تنجم بعد عملية القراءة، التي تحطم في الآن ذاته خاصية الوعي وبؤرة التوقع. فلا وعي كاملاً يتسرب إزاء نص الرواية لكي يباشر القول انها تتحدث عن كذا، او تعني كذا وكذا كما ستنجرّ الى ذلك مقولات النقاد، ولا توقّع بأفق قانوني دلالي يومئ اليه الخطاب الروائي في رواية خال الجديدة.
رواية "الطين" الصادرة عن دار الساقي بلندن، هي احدث إصدارات عبده خال لكنها ليست آخر ما كتب، كما قال لي، فهي تأتي في المرتبة الثالثة في توقيت كتابتها بعد روايتي "الموت يمر من هنا" و"مدن تأكل العشب" وقبل روايته الرابعة "الأيام لا تخبئ أحداً".
بدءاً يمكن إيراد ثلاث نقاط على درجة من الأهمية قبل ان نتأمل "طين" عبده خال:
النقطة الأولى: إن الروايات الاربع تمت كتابتها ونشرها خلال الأعوام العشرة الماضية وبالتحديد صدرت الرواية الأولى في العام 1995م.
النقطة الثانية: صدرت الروايات ما بين بيروت، ولندن، وألمانيا.
النقطة الثالثة: تتمثل في ان خال بدأ حياته قاصّاً منهمكاً في القصة القصيرة وترك بصمة واضحة في نطاقيها السردي والدلالي.
إن التأمل في هذه النقاط الجوهرية قد يعطي جملة من الدلالات التي يمكن اطلاقها في الخلفية التأويلية عند مكاشفة نصوص خال الروائية، وتكوين وعي اولي يشاقق أية احكام جاهزة أو مسبقة على تجربة عبده خال السردية بوجه عام لقد اصبح الهاجس الروائي مهيمناً على عبده خال طيلة العقد الماضي، هذه الهيمنة التي تخرج به من الأفق القصصي الذي يعنى بحادثة ما، او بشخصية ما الى افق بولوفوني، تتعدد فيه الاصوات والشخصيات والحوادث، وتتنوع فيه الافكار والرؤى والأساليب، مغزى ذلك ان "خال" يعيش في حالة سردية مطلقة اذا صح التعبير حالة تنفتح على الإنسان والكون والوجود.
إن عالم الرواية ثري، متعدد، منفتح، هضام لكل الخطابات القولية، والروائي حينئذ في محل اختيار صعب، ما بين التكثيف والاستطراد، وما بين انتقاء التقنيات التي تكون مفتوحة في مطلقها الجمالي، وبين الوقوع على عالم فني متشابك، متداخل يفضي به الى صنع خطاب هارموني متناسق، وهذا مكمن الصعوبة والمتعة معاً. ولعل هذا الهاجس المهيمن سوف يخرج "عفاريت" السرد من قماقمها "الخالية" المكنوزة بحكايات ومواقف غرائبية سحرية.
خاصة ان انحياز خال الدلالي وانجازه حقيقة يتبدى في تأمل عالم المهمشين والبسطاء والولوج الى الاماكن القصية غير المأهولة فنياً انها عوالم بكر ينقلها خال بالقوة والفعل الى حالة روائية، وما يزال ينهل منها حتى الآن، ولعل في اصدار رواياته خارج السعودية ما يدل على أن بوح الكتابة لديه لا يتوخى الوقوف عند حظر ما لعبارة او جملة. فالكتابة أفق خصوصي بين الكاتب المبدع وورقة الكتابة، وحده الرقيب الداخلي، وضمير المؤلف هو المهيمن. إن نظرة واحدة وهو أمر ليس ببعيد من موضوعنا هنا على أغلب الروايات السعودية الصادرة مؤخراً تأخذنا الى ان أماكن صدورها هو: بيروت، والقاهرة، ولندن، وألمانيا، وسورية. صدور الروايات من الخارج له مؤشراته الدلالية، التي قد تتحفز في مقالة أخرى.
"الطين" وطينة السرد
عبده خال ليس أول من صنع من الطين، من صلصال الفطرة عالماً روائياً او قصصياً على المستوى العام لا يمكن نسيان "أرض" عبدالرحمن الشرقاوي، او "حرام" يوسف ادريس، او حتى "يوميات" توفيق الحكيم متبوعة بكتابات يحيى الطاهر عبدالله في "الطوق والأسورة" مثلاً، او عبدالحكيم قاسم وسعيد الكفراوي، وفي بعض روايات حنامنية والطاهر وطار.
وعلى مستوى الداخل بعض روايات ابراهيم الناصر الحميدان، وعبدالعزيز مشري، هذا من وجهة أولية، فالقرية العربية عالم ثري مكنوز، يستطيع الروائي ان يغترف منه متى شاء وأنَّى شاء. والجانب الأبرز الذي يميز القرية دلالياً هي انها موضوع روائي مفتوح بامتياز، فالغرائبية، وأحاديث الناس البسطاء، والبعد عن مركزية المدينة، والشخوص المهمشون، والوقائع الصغيرة، والقبح الجمالي، والفطرة الإنسانية، والبرادة المؤسطرة كلها دلالات مركزية في أفق العالم القروي، وتتخاصر مع ذلك كله النظرة التسليمية للوجود، وغياب السؤال، ودهشة القادم وغرابته. كل هذه الملامح طالعناها في الروايات العربية التي كانت القرية فضاءها.
في رواية عبده خال "الطين" لا تنأى هذه القيم الفنية كثيراً عن الفضاء الدلالي، بل انها تنغرس كشفرات حادة في سطح الخطاب الروائي وفي أبنيته العميقة. فالبطل السارد الذي يتخيل أو لا يتخيل أنه عاد من موته في التو يسرد لطبيبه المعالج حكايته منذ مولده في قرية بالقرب من جازان وحتى اليوم، والطبيب المعالج د. حسين مشرف، أستاذ الطب النفسي وعلم النفس هو أيضاً سارد آخر وجوهري في الرواية فهو ايضاً يسرد حكاية بطله الذي جاءه لتشخيص حالته. ربما للآن تستقيم الحالة السردية لكن ما يسمها هو "التطابق الغرائبي" بين المريض وطبيبه، حيث يتوهم الطبيب نهاية الأمر أنه هو المريض. الرواية تنسج من هذه الطينة السردية صلصالها الغني. وتستعين بعد كسرها لآليات السرد التقليدي الرتيب بالوثائق والرسائل والخطابات من أشخاص متخيلين احياناً، ومن علماء نفس واجتماع وتاريخ وفيزياء ومن شعراء وسحرة ودجالين وايضا فقهاء. الرواية بهذه الاستعانة تدمج بين المتخيل والواقع الحقيقي، كأنهما وجهان للحياة، الحياة التي تكتمل ايضا بدائرة الموت. هنا خال يريد ان يوحِّد بين جميع الأزمنة التي يشعر بها الإنسان وتلك التي يتأملها، ويحدق في اسئلتها، انه يعبّر عن الواقع ويتجاوزه الى قراءة ميتافيزيقاه من هنا حملت الرواية كثيراً من الأسئلة عن الزمن، والمكان، والإنسان، والوجود والكون، اسئلة محيرة لا تبحث عن يقين قدر ما تبحث عن كنه الإنسان، وتبقي شفراتها مصوبة حيال القارئ باستمرار.
شخوص وأحداث
الفضاء المكاني الذي تنهمر فيه الأحداث وهو القرية، صنع من قبل شخصيات بسيطة، فهي قرية نائية معزولة على هامش الزمن في النصف الثاني من القرن العشرين، لا تصيبها تحولات أو احداث اللهم زواج هذا، وطلاق تلك، والانشغال بمولود جاء وشيخ رحل، كأية قرية عربية لم تصبها جرثومة التطور. لذا فالفلاحون هم صانعو الاحداث هنا. تنقل هذه القرية من خلال حديث ابن صالح التركي لطبيبه المعالج "حسين مشرف" عبر هذا النقل الذي يتم بلغة متسائلة مكثفة، مشحونة بالغرائبية،وطقوس السحر، وحوادث الجن والعفاريت، وسذاجة الأفكار وعمقها معاً. عبر هذا النقل نلمح تقاسيم القرية وشخوصها: صالح التركي، حسن العجمي، سلمى بنت عبده هادي، المشقدف، الخالة مسعدة، الشيخ يحيى بن عبدالله شيخ شمل قرى الوادي وغيرهم من الشخصيات.
لا المكان ولا الشخوص في الجملة التأويلية النهائية هم من يعنون عبده خال. بل طرح السؤال الذي يعالج صراع الإنسان الميتافيزيقي، وصراعه مع الموت والزمن. في التحليل الأخير نحن حيال قراءة لهذا الغياب ان البطل السارد يكرر:
"أذكر أنني مت الآن أذكر هذا جيدا.. لستُ واهماً البتة"
لقد أفزعه ان ظله لا ينعكس في ضوء الشمس، وأنه ربما تحول الى كائن آخر، رغم انه إنسان يحيا ويتنفس كباقي البشر، لذا فإنه يعود للماضي الزمكاني الشخوصي الحدثي "القرية" لكن هذا الماضي لا يسعفه ولا يسعف طبيبه المعالج الذي يلجأ الى الآخرين لحل معضلة مريضه.
أحلام "صالح التركي" والد البطل لا تنقطع ولا تنتهي عند حد، هو شخصية انتهازية متعالية تعيش في تخيلاتها التي تريد ان تكون نهاية الأمر على رأس القرية، بل على رأس الوادي الذي يضم قرية ابي ميسم" والقرى المجاورة. لكن أحلامه تنتهي بالموت، فهو يقول: أنا أشبه بحبة قمح أينما جرفتني الريح أنبت". مع ذلك تجرفه أحلامه الى الوقوع في أخطاء تنتهي بقطع لسانه وهو الأكثر استنارة في القرية ثم موته، وهو يترك ابنه عرضة لجميع النساء وأولهم "الخالة مسعدة".. فينحرف ويلاحقه الانحراف حتى المدينة، ثم توهمه بأنه "عاد من الموت للتو".
لن أحكي الرواية. لكن أحداثها وشخوصها تنقلنا عبر سرد متقن الى اسئلة الكون والحياة والإنسان، الى التأمل في مسلماتنا التي نحياها. ويسعى عبده خال الى بسط هذه المسلمات لا لقبضها تارة اخرى، بل لمعايشتها وابتكار الواقع والمتخيل من جديد.
تنقلنا رواية عبده خالد الى افق الروايات النفسية والفلسفية رغم ان اجواءها قروية، ويدخلنا الى افق سردي يستثمر فيه العلاقات اللغوية، وقيم النص المفارق، وقيم الاسطوري والغرائبي والعلمي ايضاً.
وهو يكسر وربما يمرغ أنف حدة السرد التقليدي الى سرد أكثر توهجا ودلالة.. ولكن يبقى سؤال المستوى الفكري لشخصية صالح التركي وابنه محل سؤال تقني.
عبده خالد نسيج وحده في الرواية السعودية، وأعتقد ان روايته "الطين" ورواياته الأخرى تستحق الكثير من العمل النقدي عليها لبيان خواصها الفنية وتشكلاتها السردية الرهيفة.
الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
قضايا
حوار
تشكيل
كتب
مسرح
وراقيات
ذاكرة
مداخلات
المحررون
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved