Culture Magazine Monday  02/07/2007 G Issue 205
الملف
الأثنين 17 ,جمادى الثانية 1428   العدد  205
 

الخطراوي.. الموسوعية الراشدة
عبدالله الوشمي

 

 

القراءة في مناهج الكتاب والمؤلفين توفض بنا إلى حقيقة مهمة تتصل بالتفاوت الكبير بين ثقافاتهم وآلياتهم، ويمثّل الدكتور محمد الخطرواي خيطاً منهجياً مهماً في هذا السياق، وأحسب أنه بمنهجه المركّب قد تجاوز السقف المتوقع من جيله من حيث التخصص والنمط الأسلوبي المطَّرد، حتى إنَّ راصد منهجه يستعيد النمط المنهجي التراثي، وهو: (الموسوعية)، وإذا كانت الموسوعية سمة متحولة، ويصعب تصنيفها باستمرار ضمن الأنماط الأسلوبية المتميزة، فإني هنا أزعم أن موسوعية الخطرواي هي الموسوعية الراشدة، من حيث التكوين والنتائج، وهو ما سأصرف الحديث إليه مجتهداً في استنبات الملامح العامة التي تؤكد هذه الحقيقة.

تبدو أولى الخصائص المنهجية التي تؤكد هذه الفرضية أن نجد في مؤلفات الشخصية المعنيّة ما يكفل لها احتمال النهوض بهذه السمة، وإذا كانت التسميات والألقاب سهلة في إسباغها على المعنيين، فإن مساءلتها هو الأمر الذي يحتاج إلى تحفّز، وحين نُلقي نظرة متأملة في مؤلفات الدكتور الخطراوي فإننا نجد فيها من الريادة والعدد والتنوع والعمق ما يكفل لها هذا الوصف، أو ما يدفع عنها إمكانية الرفض المطلق لها.

فالموسوعية الخطراوية تتجلى - أولاً - في عدد الكتب، فهو مدرج ضمن المكثرين من التأليف، إذ تبلغ مؤلفاته قرابة الخمسين كتاباً، وهي كثرة تعكس الانصراف الكلي إلى البحث والحفر المعرفي، ويستحيل أن يؤلف إنسان - أيّاً كان - كهذا العدد من المؤلفات، بالإضافة إلى الحشد الكبير من المقالات، إلَّا وقد تحلَّل من كثير من الالتزامات الاجتماعية والشخصية غير المنحازة للعلم، خاصة إذا استصحبنا صفة الجدية في الطرح - كما سيأتي -

وحين نتحدث عن كثرة المؤلفات فإن هذا يُسلمنا إلى مساءلة التخصصات المعرفية فيها، ومدى الضبط العلمي فيها، وهو ما يكشفه التأمل في مؤلفات الخطراوي، إذ نجد تنوعاً في التخصصات، فهو مؤلف في الدراسات النقدية العامة، وفي التحقيق التراثي، وفي الشعر، وفي المسرحية، وفي الترجمة للأعلام، وفي التاريخ الأدبي، وغيرها.

ومن الثراء الذي يلمسه المتابع لمؤلفات الخطراوي أن تجد ثراءً في المجال الواحد من مجالاته التأليفية المتعددة كالأدب، فهو شاعر ومسرحي وقاص، وهو في شعره يمارس ويتعاطى الشعر بأجناسه، وتجد نمواً في طريقة البناء الفني، حتى صرتَ تجد دارسي الأدب يدرجونه حيناً ضمن التقليدين، وحيناً ضمن المجددين، ولم يعد غريباً أن تجد مَنْ يصنفه في تيار حداثيي الشكل أو الرؤية في الأدب السعودي. وهذا التأبي على التصنيف، وأن يظل المثقف حرّاً وفلَكاً يصنع دورته المستقلة، وينتظم ضمن الدائرة الكبرى، هو مقوم آخر من مقومات الموسوعية، إذ تصبح الشخصية قادرة بما توفر لها من خصائص أن يجد الجميع في آثارها وملامحها ما يرضي اشتراطاتهم الذوقية والفنية، ولئن كان هذا التأويل قد يُحسب من مقومات الضعف، أو الانفتاح غير المنطقي، فإني أحسب أنه متى توفّر له الضبط العلمي والمنهجي، فإنه سمةٌ عزيزة يندر أن يستطيعها إلا الآخذون للعلم والكتاب بقوة كما هو حال الدكتور الخطراوي.

ومما تجب الإشارة إليه في مثل هذا المجال من تعداد المقومات والسمات التي تصنع الشخصية الموسوعية هو امتداد العمر العلمي، والخطراوي واحد من الذين اخترقوا عدداً من الأجيال الثقافية والعلمية والفنية في بلادنا، فهو منتم للجميع، وآخذ بحُجز الثقافة المختلفة، ولو بُسِط رداء ليأخذه الأجدر انتماء وتمثيلاً للأجيال، وللتجمعات، والأنشطة الأدبية المختلفة في بلادنا، لوجدنا الخطراوي - هو وقلة معه - هو الأقدر على أن يحمل حجر الثقافة ليضعه في زاويته الآنق والأحلى؛ بل إن الخطراوي قد تجاوز التمثيل للمختلف والمتنوع الثقافي والفكري، ليُصبح ممثلاً للمختلف الجغرافي أيضاً، فبالإضافة إلى الانتماء إلى البقعة البعيدة التي يحملها، فإنه من الرجال الذي نهلوا وعلُّوا وزرعوا الجميل والمثمر من التلاميذ في تونس والمدينة والرياض والمجمعة - كما أعرف، وقد يكون هناك غيرها -، وهذا كفيل بتوسيع دائرة المعرفة على المستوى الثقافي والاجتماعي، وهو ما كان بالفعل في شأن الدكتور الخطراوي، فهو الذي يترك في كل مكان ينزل فيه صديقاً أو طالباً أو متشوفاً لرؤيته في قابل الأيام.

ولعل هذا النمط من الاحتراق بأتون الحياة، وصراعها في رحلة العمر، هو الذي جعل الخطراوي متوجساً من أزمة العمر، وغارقاً في تأملاتها، وحسّاساً تجاه مفرداتها، ولذا فأنت تجده يكتب عن العمر والشيب والموت بإسهاب وتفصيل، وهي كتابات المتأمل، أو المتذوق، أو المحتشد، وقد تجده يؤلف كتاباً عن أسرة الوادي المبارك لذكرى راحل طيب هو زميله الأستاذ محمد هاشم رشيد، وربما كتب المقالة التأبينية، وهو في ذلك يتناغم مع ذاته ويستجيب للنداء العميق في داخله قبل أن يستجيب لمستكتبيه، وقد أدهشني أنني في أمسية من أماسي الشعر التي شرفني بها نادي المدينة المنورة ألقيت قصيدة في رثاء والدي الدكتور صالح بن سليمان الوشمي رحمه الله، وفاجأني الدكتور أن بكى أثناء إلقائها، وكان يقول لي: أنت تتجه إلى والدك على مستوى الشبه في الملامح، فقلت: والجسد يسير حيث يسير!، ولم يكن جديداً عليّ هذا الوفاء من أستاذنا فهو الذي رأيته وعايشته في لقاء إذاعي أجريته معه، وحين سألته عن زملاء الدراسة والطفولة والمراهقة أجهش بالبكاء والترحم، وكل هذا دفعني لأن أستكتبه عن والدي حين أزمع نادي القصيم الأدبي أن يصدر كتاباً عنه، فكان الدكتور متجلياً حين استمطر ذاكرته ليكتب لا عن والدي فقط، وإنما عن الجد والأب والحفيد، فكان من أرقى الكاتبين لغة ونبلاً وصفاءً، ولعل في كتابته عن والدي شيئاً يكشفه الدكتور الخطراوي عن نفسه، وذلك شغفه بالموسوعية والموسوعيين، ومن شاء ذلك فليعد إلى ذلك في مكانه (انظر: صالح الوشمي سيرة ومسيرة: 120).

ومما يُكمل حجر الزاوية في الثراء الجغرافي والثقافي أنه خلال رحلته العلمية والأدبية قد تخلل عدداً من المناصب والمهام الثقافية، فهو نائب لرئيس نادي المدينة المنورة، وهو مشرف على النشاط الثقافي في جمعية الثقافة والفنون فيها، ولاشك أنها مهام تستلزم اتساع قاعدة الصلات العلمية والثقافية بمختلف الشرائح، وتجعله محققاً لرغباته العلمية من حيث التواصل العلمي مع الجميع.

وإذا كان بعضنا يقع في فخ الألقاب أو صناعتها، فإن رجلاً كالخطراوي أحسبه لم يُعن بها، أو لم تكن حاضرة في برنامجه الحياتي، والريادة التي يحفى بعض القوم في طلبها أو ادّعائها، إنما جاءت لتحتفي بالخطراوي، فتم الاحتفاء به بوصفه من الشعراء السعوديين الأوائل الذين أصدروا دواوين شعرية، فكان ديوانه أو ملحمته (أمجاد الرياض) الصادرة عام 1394هـ عتبة شعرية مبكرة أصدرها الخطراوي كفلت له هذا السبق، مع أنها لم تكن إلا أولى مؤلفاته الشعرية فحسب، أما مطلق مؤلفاته فأولها كتاب: (الرائد في علم الفرائض) الصادر عام 1961م، والذي كان التدشين العلمي الأول للخطراوي، وهو تدشين يدل على مغالبة العلم والدخول إليه من بوابته الأصعب، فعلم الفرائض ليس علماً ترفياً أو هامشياً، وإنما هو العلم الذي يستغرق ملكات الباحث كاملة، وهو محتاج إلى الفهم والحفظ والدقة، وهو ما كان متوفراً في الدكتور الخطراوي، بل إن مؤلَّفه الذي دخل في مكونات طلاب العلم الشرعي الحديث في بلادنا، دفع عالماً كعبدالعزيز بن صالح إمام الحرم رحمه الله أن يدعوه للتدريس في الحرم النبوي، وأن يطلب منه التعاون في المحكمة (انظر: في الأدب السعودي: 164).

ومن سمات المنهجية الموسوعية عند الخطراوي ما يتجلى في الطُّرفة، وتحويل العمل التأليفي إلى حبكة وعقدة قصصية، وطرافة الموضوعات، والدخول في بعض الخصومات والمعارك الأدبية، والكتابة في بعض المسائل الشائكة.

فأما الطرفة، فإن كتاباته التأليفية أو المقالية، وأحاديثه الشخصية أو الإذاعية مليئة بها، وهو لا يكتفي بأن يورد الطريف والنادر من حكايات التراث أو الجيل الذي سبقه، وإنما هو مستعد بسرعة بداهة، ودقة ملاحظة، واستحضار كبير، أن يصنع من الكلمات ومن المواقف حساً فكاهياً واضحاً، ومنها - للتمثيل فقط -، أنني في حواري الإذاعي معه، وبعد أن أخذ حقه من الاعتبار برحيل أصدقائه وأقرانه، أحببت مواساته، فقلت له: أنت شاب! فقال: لا. أنت الذي شاب على قلبي بالأسئلة!، وفي مهاتفة لي معه أردت أن أقرأ عليه مقالته عن والدي، وذلك للتأكد من صحة قراءتي لخطِّه الذي كتبه عن كِبَر، فقمت باستحضار شخصيتي الإذاعية الرزينة في نطق الحروف والتنغم بها، فقال لي: قراءة جيدة حتى ظننت أن المقال ليس لي ! ولا أحسب مجالساً له إلا وهو يستحضر أقصوصة أو أكثر من قصص مفاكهاته وطرائفه المفيدة.

وأمَّا طرافة الموضوعات فلا أجد من خلال رصدي واستقرائي المتواضع شبيهاً له في ثقافتنا المحلية، فهو يكتب عما لا تتوقع أن تجد كاتباً فيه ولا كتاباً، والمدهش أن موضوعاته الطريفة التي قد تشك لطرافتها أنه قادر على أن يقدم فيها الجديد تتفاجأ حين قراءتها بالجديد والمفيد والمثمر، فتجد من مقالاته ما يلي: (أسبوع مزدحم باللهو، سيارة أبي علي، المليحات داخل الألوان، حكاية الأقواس)، وكتباً له بعنوان: (الصفع بالكلمات)، و بعنوان: (الأفاشير وأضغاث أخرى من القول)، وحين تستعرض منهجه في مقالته (قول في الفشار والأفاشير) - بوصفها مثالاً -، فإنك بصدق تجد تأصيلاً علمياً يأخذك إلى أعماقه من خلال أسلوب ماتع ومونق، لأنه يستوعب الموضوع من أطرافه، حتى تسمع وأنت في آنية الزهر هذه صدى العلوم جميعاً، ولا تفتأ تخفض رأسها فائدة من علم النحو واللغة، إلا لتطلَّ عليك برأسها فائدة من علم التفسير، أو الشعر، أو.. أو.. وهكذا دواليك، مما يتقن صنعته أصحاب الموسوعية الراشدة كالخطراوي.

ويقيناً أنّ القدرة على السيطرة على القارئ في مناهج الموسوعيين متفاوتة، وإذا كان القدامى يستعينون بلفت نظر القارئ بقولهم: عود على بدء، أو رجع الحديث، فإنّه يتضح لي أنَّ الدكتور الخطراوي يسيطر على قارئه بثلاثة أمور: طرافة الموضوع، والطُرفة، وتحويل العمل العلمي إلى حبكة أو قصة، فأنت لا تقرأ أقوالاً علمية تجريدية جافة، وإنما تقرأ سير رجالاتها، وأقوالاً تختبئ وراء رواتها من رموز المقالة أو الدراسة أو الكتاب، فالخطراوي - مثلاً - في مقالته في قراءة عدد من أعداد ملحق ثقافة الرياض، نجده يستدعي كتاب المقالات والشعراء وموضوعاتهم، ويقوم بكتابة قصته مع كتاباتهم، وانطباعاته، وما وجده وتذوقه حال قراءته، وأن يمزج ببراعة بين الذاتي والموضوعي (انظر: في الأدب السعودي: 200 - 242)، وهو يفعل الشيء نفسه - تقريباً - عندما يؤلف كتبه: (محمد عالم أفغاني)، (في محاورة النص)، (مدرسة العلوم الشرعية)، ولعل هذا المنهج هو القادر أن يُسدد الخلل الناتج طبيعياً من الموسوعية، وهو المتمثل بالاستطراد، فلمُّ شتات الظفائر العلمية لا يتمُّ إلا بهذه الطريقة الراشدة من الأسلوب.

يبقى أن يقال: إن من أدلة الرشد والنضج الموسوعي في مؤلفات الدكتور محمد الخطراوي أنها قد خصصت لها مساراً علمياً دقيقاً تحفر فيه، وكان مجمل مقالاته ومؤلفاته تصبُّ في حقله أو لا تتناقض معه على أقل تقدير، أي أنه في تكوينه الثقافي وإنتاجه يتخذ مسارين ؛ عام ومتخصص، فلم تمنع الخطراوي موسوعيته من القيام على مشروع رئيس، أو أن يجعلها سلَّماً إليه، وذلك ما يتجلى بالعناية بالمدينة المنورة بالتأليف والحفر العلمي والترجمة للحركة الأدبية والثقافية فيها ولرجالاتها، وجاء على رأس ذلك سلسلته العلمية (المدينة المنورة) المكونة من أربعة أجزاء، بالإضافة إلى شعر الحرب بين الأوس والخزرج، ودراساته عن المدارس بالمدينة المنورة، ومحمد أفغاني، وعدد من الدراسات والدواوين الخاصة بالمدينة المنورة، وما زلت أجد حنينه إلى المدينة المنورة في كل لحظة من لحظاته الكتابية والتأليفية.

ولعل الحاجة ماسة الآن أن يكتب الدكتور الخطراوي سيرته في مغالبة الحياة، وهي نتيجة مهمة من نتائج الموسوعية بكل آفاقها السابقة، ولعل هذا الملحق بجمال النبلاء الذين آزروه أن يبعث في نفس أستاذنا همة الانصراف إلى الذات بالمفهوم الإيجابي العميق، خاصة وهو الرجل الذي يُتقن الصراحة ويحترفها، ويُعدُّ شاهد صدق على تاريخه وجيله الذي ينتمي إليه.

وأحسب - أخيراً - أن الدكتور محمد الخطراوي قد نهد إلى تسجيل سير كثير من الأعلام والترجمة لهم، والتعريف بإنتاجهم، وكان يقف في بوابة أحدهم لأنه لا يحب (أن يغمطه أحد حقه في المشاركة والإسهام والإغناء) (انظر: في الأدب السعودي: أ)، وهو يتوقع من خلال جهده (شيئاً من التقدير، فإن ذلك مريح للنفس، مثلج للصدر، فهلا من رفقة تسدد الخُطا، وتستر الخَطا، وتشيد بالفضل وذويه) (انظر: الأفاشير: 8)، وهو ما تكابده هذه الكتابة وتنحوه لتقول شيئاً عن جهود الدكتور محمد، ولتدعو له بالبركة في العمر والعمل.

* نائب رئيس نادي الرياض الأدبي awashmi@hotmail.com


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة