Culture Magazine Monday  02/07/2007 G Issue 205
الملف
الأثنين 17 ,جمادى الثانية 1428   العدد  205
 
الخطراوي في مقام النقد!
عمر الرحيلي

 

 

وقتَ أن كثُر الحديثُ أمامي عن برنامج (شاعرٌ من أرض عبقر) وازدحمتِ الإشاراتُ إليه، وقفتُ أسألُ عن طبيعة البرنامج وعلاته التي بني عليها ومنها اشتهر، كعادةِ الذكرى تأتي محرَّفةً؛ جاءني الجوابُ على اختلافاتٍ عدة، منها أنّه برنامجٌ عارضٌ للشعرِ، أو هو مترجمٌ للشعراءِ في اختزالٍ غير مخلّ، وآخرها أنه حلقاتٌ شتّى يصطفي منها المعدُّ والقائل، نفسه هاهنا، شعراءَ من أرضِ عبقر ويقضي وقتاً مع شعرهم عرضاً وتحليلاً.

ولأنَّ العهدَ قد تقادمَ بيني والبرنامج المذكور، فلذلك عزَّ عليَّ الحصول على حلقات البرنامج بصوتِ د.محمد العيد الخطراوي كاتب حلقات البرنامج وملقيها، وفي هذا فقدٌ لحميمية الاستماع وما فيه من شعورٍ بأنَّ الخطابَ مُرسلٌ بلا وسائل مُبعِدة، بين د.محمد الخطراوي ومستمعه، أنا. حتى اهتديتُ إلى الحلقاتِ مفرّغةً في كتابٍ من جزأين، التزمَ فيها د.الخطراوي بنصِّ الحلقاتِ دون حذفٍ أو إضافةٍ بداعيَ الأمانة التاريخية، وبهذا الداعي، توقّفت خسائري على فقدِ ميزةِ الاستماعِ وإبدالها بالقراءة.. وسيطة المعرفة الأكثر تخليداً لها.

وعلى سبيل الحكاية، أحدثكم بغايتي من الكتاب، فقد اتخذتهُ - حسبَ إجاباتهم عليّ! - مصدراً للبحثِ عن شعراء من هنا، من أرضِ عبقر، وإيجاد شيءٍ من شعرهم وسيرتهم، فقد قلَّ الحديث عنهم باستقلالٍ نقديِّ، وكثرَ بسردهم معَدَّدينَ بوصفهم شعراء لمراحلهم، لا أكثر، لكنَّما منطق القراءة يحكم ألا أقفزَ التسلسلَ (الفهرسيّ) للكتاب وأتجه صوبَ غايتي في بحثي عن شاعرٍ باسمه، واحتكاماً لذاتِ المنطق (الشائع لمنطقيته!)، وجدتُني أقفُ عند المقدمةَ لأبدأ، والمفارقةُ تحضرُ جليّةً أن تكونَ المقدمة - عادةً - آخر ما يُكتبُ في الكتبِ وأوّل ما يُقرأُ منه. ليس ذي بالٍ كلّ هذا، إنّما جاءَ على سبيل الحكاية.

مقدّمةُ كتاب (شعراء من أرض عبقر (هي أصولٌ نقديةٌ في ذاتها، نستخلصها من بين عباراتٍ مهّد بها د.الخطراوي للكتاب وبسط فيها فكرته، ومن هذه الأصول ومادةِ الكتاب، لا يمكن إلا وصفَ د.محمد الخطراوي ناقداً، فالشاعرُ - طبعاً واكتساباً - يسكنهُ حسَّ النقدِ تبعاً للذاتِ الشاعرة فيه، فأقربُ مقابلةٍ تخبرُ أن المعماريَّ القادر المتمكن، يستطيع (تقييمَ) أي بناءٍ شيّده غيره وهو في مثل حكمه : معماريٌ أيضاً.

الأصلُ النقدي الذي يحركُ النقدَ من الفكرة إلى الفعل في همَّةِ د.الخطراوي هو الشعور بالواجب العملي لما وراء النقد من فائدةٍ تباشرُ (المستمع - القارئ لاحقاً) دونَ تعسّفٍ نقديٍ وقصديةٍ نقديةٍ ملحة تسعى خلف الإجراء النقدي وتجعلها غايته!

فالخطراوي، بوصفهِ ناقداً، يبيّنُ بأثرٍ لاحقٍ لبرنامجه (سمو غايته وشرف منزعه) إذ يذكر داعيهِ إلى هذا البرنامج- الكتاب وقد انتهج فيهِ أسلوب (التعريض والتنويه وذكر المحاسن أكثر من ذكر المعايب والمآخذ) وهذا أصلٌ نقديٌ يكثر فيه القول والكتابة، يذكر أنَّ داعيهِ - واجبه المملى عليه هو : (إحساسي بأن الشعرَ والشعراء في هذه البلاد لم تتح لهم الفرصة التي أتيحت لنظرائهم في البلاد العربية الأخرى من الشهرة والذيوع، ولم تتهيّأ لهم الظروف التي تحسن تقديمهم إلى جمهور القراء تقديماً يقربهم من نفوسهم ويجلي محاسنهم، مع أن إنتاجهم في الحقيقة قد لا تقل قيمته الفنية عن مستوى أولئك النظراء) ص6.

ثمّ استجابةً لمثل هذه الحاجة الملحة تجاه القراء وتجارب الشعراء أنفسهم : (فرأيت من واجبي أن أنهضَ بجزء من هذه المهمّة في محاولة لتغطية هذا النقص)!

فلو استجاب كلّ من فيه همّة، للنقدِ - العَرضِ - الترويج الرصين للأدبِ (شعراً ونثراً)، لمثل هذا الداعي لاختلفت حساباتٌ كثيرة، ولعرفنا أننا (مركزٌ) بدلاً من الهامس المتردد في صميم ثقافتنا، المتشكلة عبر إخفاقات متراكمة بثبات، أننا أطرافٌ معرفية تعيش على انتظار الإمداد من مراكز الثقل المعرفي ّ!

وأجزمُ أن هذا الأصل النقدي - العمل بنيّة الواجب، هو الذي يفسّر وظيفة النقد في وجهٍ من وجوهه، هو ما يعوزنا لتغيير الخارطة الثقافية وتهميش كثير من سائد قناعاتنا (ذات الطبع المنتصر لغيره!)، وتسييدِ الاعتراف بالمنجز على حقيقته الأصيلة والمتصاعدة لا على ما نحكم عليه ارتهاناً على الشعور برداءة الحيّ وزامره.

القارئ لمقدمة كتاب (شعراء من أرض عبقر) يستشعر موقفاً جليلاً للدكتور محمد الخطراوي، إذ يصرُّ على هدفه المعرفيّ وأهمية الداعي في داخله، حيث يسردُ موقفاً مع شاعرٍ - ولا يسمّيه! - استشعرَ (وهو الخبير) جودتهُ وأنّه لابدّ من الحديث عنه، فراسله طالباً دواوينَ له لقلّة ما وقع عليه من شعره، لكنَّ الشاعرَ رفضَ منحه الدواوينَ وأوصاه، كحلٍ بديل، بشرائها من الأسواق!

هذا (الموقف - الصدمة) لو كان حصيلة السعي في سبيلٍ غير القصد الشريف وفي غير ذي واجبٍ يلزمه نفسه، لكانَ محطَّ النهاية للفكرة من أساسها، إنّما د.الخطراوي برغم ما وصفه بسحابة الانكماش النفسي جرّاءَ الموقف، عمل بوصيته وبحث عنه، ويبدو أن الأسواقَ (كشّت) رفوفها، تواطؤاً مع الأدبِ والذوقِ، عن دواوين الشاعر ولم يكتب عنه. وانصرفت همّةُ المؤلفِ إلى شاعرٍ غيره.

هذا الموقف يستدعي ما يفسره، إن كانَ هناك من لا يستسيغَ إلحاح د. الخطراوي على الشاعرِ ودواوينه حتى بعد ما جرى، فتفسيره يأتي في المقدمةِ وصفاً لنيّةِ تأليفِ (البرنامج - الكتاب) : (حسبي أنها محاولة سامية الغاية شريفة المنزع) ص6

في نهاية المقدمة لكتابه يبرر د.محمد الخطراوي خروج البرنامج الإذاعي في صيغته الورقية في جزأين مطبوعين : (ليسهل تناولها وتخف قراءتها على الناس، لأنني رأيتُ الأكثرين في عصر السرعة الذي نعيشه يميلون في اقتناء الكتبِ إلى ما خف حمله وصغر حجمه، وليس لهم صبر على ما كبر أو طال) ص7، لا أعجبُ من كونِ هذه المقدمة قد كتبت في 12-3-1398 هـ ووصفَ عصرها بالسرعة ونعت قرّاؤها بالكسل وضعف الجلدِ على القراءة، فهذه الصفة لازمتِ القرّاءَ منذ عهدْ، فالجاحظ في عصره، الذي قد يوصف بغيرِ وصفٍ إلا وصفه عصراً للسرعة، كتبَ يوماً في وصفِ حالِ الناس مع القراءة : (من شأنِ الناس ملالة الكثير واستثقال الطويل ؛ وإن كثرت محاسنه، وجُمِعت فوائده).

هذا بعض ما يُمكن استشرافه من مقدّمة الكتاب الماتعِ في مادّته الفريد في طريقة عرضهِ، وفي ثناياه مناهجٌ للنقدِ تحتاجُ إلى منقبٍ يجمعُ أصولها من بين تطبيقاتها، لهذا.. يثبتُ عندي، بما لا يدع لخرقِ القولِ منفذاً، أن انصرافَ د.محمد العيد الخطراوي إلى الشعرِ وشأنَ كتابته، أشغلَ عنَّا ناقداً له خبيراً به من قبيلِ تعاطيه، وليس التنظير عن بعدٍ يصنع الفجوة بين الشعرِ والتطبيق النقدي عليه!

- المدينة المنورة


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة