Culture Magazine Monday  02/07/2007 G Issue 205
الملف
الأثنين 17 ,جمادى الثانية 1428   العدد  205
 

ذاك البسّام الضحوك (الخطر.. أوي)
محمود تراوري

 

 

اثنان فقط، من أساتذة أساتذتنا في الساحة الثقافية المحلية، وجدت النكتة حاضرة فيهما، تشع من محياهما الطلق طيعة وتلقائية، غير جارحة أو فجة. أولهما الأستاذ الدكتور منصور الحازمي (شيخ النقاد السعوديين)، إذ لا أذكر أني قابلته أو جالسته إلا وحفنا الأنس والضحكات. فكم من مرة حضرت له ندوات وأمسيات، فما وجدته وهو على المنبر إلا محطما جهامة المنبر، مفتتا زيف وقار المثقفين ليغرق القاعة في ضحكات جميلة، بقفشاته التي تظهر عفو الخاطر بلا تصنع. وأتذكره مرة في برنامج إذاعي على الهواء ومعه الدكتوران الفاضلان عزت خطاب وسعد البازعي وهم يناقشون رواية ميمونة، فخرج عن ذلك الوقار الزائف الذي غالبا ما يسم أحاديث غالبية المثقفين وسكب مزيدا من دعاباته التي يندر أن تصدر عن إذاعة رسمية يراد لها دائما أن تبدو رصينة حد التجهم. والنكتة فن تعبيري أخاذ، لا يتعاطاه إلا من أوتي ظرفا ربانيا، وسرعة بديهة مثلما أوتي أستاذنا الدكتور محمد العيد الخطراوي، الذي شاعت في الوسط الثقافي تسميته ب(الخطرقوي) منطوقة باللسان المصري العامي تنويعا على لقبه العائلي، ولشدة تواضعه ولطفه الجم لا أتحرج وأنا في سن ابن من أبنائه في مناداته دائما هكذا (أيها الخطر. .أوي)، فتنهل من فيه ضحكات عذبات، تشف عن مكنون جمال روحه وما يسكنه من فرح يعبر عنه دائما بالنكتة وتعبيرات ساخرة لا تملك حيالها إلا أن تضحك. فهو فكه ضحوك في تعبيراته وتعليقاته، وكثيرا ما يثير في الجلسات بهجة وسحرا وجمالا، خاصة عندما يغرف من بحر التراث العربي المليء بالأبيات الشعرية الساخرة والممعنة في السخرية، خاصة تلك ذات حمولات المحجوب أو المسكوت عنه.

ولربما ابتسم الوقور من الأذى وضميره من حره يتأوه

الدكتور الخطرواي عفا الله عنه ورفع عنه البأس، بما يثيره بظرفه الأخاذ يبدو دائما كمن يسير على خطى قول أنيس فريحة (إن عالما لا ضحك فيه عالم عبوس متجهم. وحياة لا مرح فيها ولا ضحك، حياة جديبة. . نكهة العيش في الضحك، وأطيب أوقات العمر نقضيها في الضحك والمرح).

ولو كان الخطراوي معايشا معاصرا لأبي حيان التوحيدي لما تردد في جعله مادة في كتابه (الإمتاع والمؤانسة) الذي كان يقول فيه (إن النفس تمل، كما أن البدن يكل، وكما أن البدن إذا كل طلب الراحة، كذلك النفس إذا ملت طلبت الرّوح). وعن سيكولوجية الضحك يرى رولان بارت المفارقة فيه، أن الغضب الانفعالي والحصار الضيق يولدان فكاهات من النوع العدواني، والنوادر التهكمية، والدعابات الساخرة. ويرى آخر أن الضحك في حالات الوسيلة الوحيدة لمجابهة المواقف الصعبة.

الضحك صنفان: ضحك إيجابي وآخر سلبي، الأول حقيقي ومنعش والسلبي حزين، متجهم، كما ضحك الازدراء والاحتقار والانتقام والتشفي. وكل الضحك.. كل البسمات التي رصدتها من لدن هذا الجميل كانت من ذلك النوع الإيجابي المنعش.

ولعلي هنا أتذكر شيخ الوراقين في ثقافتنا المحلية الحديثة الأستاذ محمد القشعمي لأتمنى عليه أن يضيف إلى مشاريعه الجميلة فكرة التنقيب عن طرائف وظرف أدبائنا وتدوينها على غرار ما فعل في تجميعه لطرائف الأخطاء الصحفية. فجمهورنا لا يعرف عن جل أدبائنا إلا وجها عبوسا قمطريرا. بينما يعرف عن أدباء مصر مثلا العديد من الظرفاء كحافظ إبراهيم والمازني.

أختم هذه الإشارة إلى فكاهة وظرف (الدكاترة) الخطراوي، بتذكر مقاطع فاقعة الإضحاك أوقعني فيها ذات مرة في الرياض وقد حولت غرفتي الصغيرة بالفندق إلى استديو تصوير تلفزيوني من اجل تصوير برنامج حواري لإحدى الفضائيات، وعندما حان دور الخطراوي، التقى عند الباب الأستاذ عبد الله بن إدريس خارج، فقال تعليقا جعل زميلي المصور ( يفطس) من الضحك، وظلت حالة الضحك تتلبسنا طوال التسجيل، مما يضطرنا لإيقاف التسجيل حتى نستعيد تماسكنا.

الظرف وخفة الظل حالة ثقافية إذا ما خلت من الابتذال والفجاجة، وذلك حقل كان الخطراوي ينثر فيه زهورا تنبت من جمال روحه، فيسد فجوات الاكتئاب التي قد يتركها عمق التفكير وصرامة التأمل أحيانا. ولعل فرادة شخصية الخطراوي جديرة بالتأمل فيها من جوانبها كافة.. كي نعي ماذا يعني أن يكون المثقف بسّاما ضحوكا، دون أن يهدد جدية الفكر أو يشكل خطرا على مفاهيم الثقافة، وذلك ما كان يحسنه الدكتور الخطراوي غفر الله له.

- جدة


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة