Culture Magazine Monday  02/07/2007 G Issue 205
فضاءات
الأثنين 17 ,جمادى الثانية 1428   العدد  205
 

العرب على الجانب الآخر من البحر: نحن وهم في الرواية الغربية «1»
د. لمياء باعشن

 

 

يتفق الناس الطيبون...

وكل الناس الطيبين يقولون،

كل الناس الأفاضل مثلنا،

هم في الأصل: (نحن)،

والآخرون غيرنا.......... (هم)!

لكنكم إن انتقلتم إلى الجانب الآخر

من البحر

بدلاً من الجانب الآخر من الطريق

قد ينتهي بكم الأمر

(فكروا جيداً)

إلى النظر من هناك إلى (نحن)

وقد تحولت إلى الآخر.. إلى (هم)!

روديار كيبلينج (نحن وهم)

تتعالق نشأة الرواية الغربية مع الشأن العربي بشكل أو آخر، فكل المداخل التي تحاول رصد بداياتها تصل إلى أن البذرة العربية هي أصل الجذور. يعتبر مؤرخو الأدب أن أول رواية كُتبت في اللغات الأوروبية هي الرواية الإسبانية الشهيرة (دون كيخوته من لا مانشا) Don Quijote de La Mancha للأديب ميغيل دو سيرفانتيس Miguel de Cervante. ويُجمع النقاد على أن هذه الرواية هي أروع ما أنتجته اللغة الإسبانية، وتبقى هي الأفضل لأنها تحدد ولادة الرواية الحديثة من رحم النثريات الحكائية بسخريتها من النوع الشعبي المعروف برومانسيات الفروسية

(Chivalry Romances).

سرفانتيس والمؤلف العربي:

وتتكون الرواية من قسمين ظهر الأول منها في عام 1605 ويحكي قصة مطولة لسجين يتمثل تجربة سيرفانتيس الخاصة في سجون الجزائر، حيث قضى خمس سنوات حتى تم إطلاق سراحه بكفالة في 1580، وصدر الثاني في عام 1615، أي قبل عام من وفاة المؤلف. وبين الجزءين ظهر جزء ادّعى به شخص اسمه ألونسو فيرنانديز دي أفيلاندا Alonso Fern?ndez de Avellaneda أنه مؤلف الرواية؛ لذا ضمّن سيرفانتيس القسم الثاني من روايته نفياً لافتراءات هذا المدّعي وتصريحاً بنسبة الرواية لمؤلف ثالث يأتي اسمه مفاجأة للقراء.

يبدأ الفصل التاسع من الجزء الثاني بانقطاع الحكي وإبلاغ سيرفانتيس قراءه معتذراً أن المخطوطة القديمة قد انتهت إلى هذا الحد، ولكنه يستدرك قائلاً إن الحظ كان يحالفه إذ إنه وجد مخطوطة أخرى متهالكة في محل بيع كتب مستعملة واكتشف أنها هي قصة دونكيشوت باللغة العربية وأن كاتبها هو مؤرخ عربي اسمه سيدي حميد بن عنقيلي Cide Hamet Benengili. يكرر سيرفانتيس أن هذا الكاتب العربي هو المؤلف الحقيقي ويأتي على ذكره في الجزء الثاني 33 مرة، ثم يُظهر صوت سيدي حميد نفسه ليصرح مؤكداً في نهاية الرواية أن: دون كيشوت وُلد لي أنا وحدي كما أنا له، نحن الاثنان وحدة لا تنفصل (II:74, p. 746).

وقد يبدو في ظاهر الأمر أن ارتباط (دون كيشوت) بالعرب هو ارتباط سردي تقني لا يمس صورتهم، لكن هنالك لمحات من التعصب ضد العرب تتضح مثلاً عندما يكتشف السارد سيرفانتيس الجزء الثاني من الرواية في مخطوطة عربية فيشكك في صحتها كون كاتبها عربيا، ويتخوف من تشويه الحقائق على يد الشاب المغربي (Morisco) الذي أوكل إليه مهمة ترجمتها إلى الإسبانية، ذلك أن: من الطبيعي لهؤلاء المنحدرين من الجنس العربي أن يكونوا كذابين I:9, p. 95. وهذا خوف عبّر عنه دون كيشوت كبطل داخل النص قائلاً: (الحقيقة ببساطة لا يمكن توقعها من المغاربة لأنهم جميعاً غشاشون ومخادعون ومثيرون للمتاعب). (II: 3, p 37) هذا التنميط المبكّر أضّر بالشخصية العربية حتى وإن تم التأكيد في الرواية أن شرعية التأليف محفوظة للمؤلف الأصلي سيدي حميد (زهرة المؤرخين) (II: 61, p. 686)، وأن الإسباني ألونزو فيرنانديز هو الكاذب المخادع.1

توفي سيرفانتيس في العام الذي توفي فيه ويليام شكسبير، والرابط بين هذين الكاتبين الكبيرين ليس فقط يوم April 23, 1616، لكن الدراسات النقدية ربطت بينهما لأن لشكسبير مسرحية مفقودة في الحريق الذي أشعل مسرحه المسمى بالجلوب، بعنوان كاردينيو Cardenio تحتوي على مواقف من دونكيشوت التي ترجمها للإنجليزية جون شيلتون في 1612، وقد وصلت الشكوك إلى أن شكسبير هو كاتب هذه الرواية. لكن وقوفنا عند شكسبير ليس من أجل دون كيشوت، بل من أجل مسرحيته الشهيرة (أوثيللو) Othello. في ذلك الوقت كانت بريطانيا منفصلة عن الامبراطورية العثمانية جغرافياً لكن النصوص العربية كانت تترجم والعناصر البشرية كانت تتنقل بين القارات مازجة بين الثقافات، لذا فقد وجد (أوثيللو) طريقه إلى بطولة تراجيديا عظيمة رغم كونه آخر غير انجليزي وغير مسيحي، بل له ملامح إفريقية، وقد تمت الإشارة إلى شفتيه الغليظتين وجلدته السوداء في أكثر من موضع، لكنه كان في كل الأحوال Moor، مغربيا وبالتالي عربيا.2

شكسبير والبطل العربي:

لم ينبهر العالم العربي بعمل لشكسبير مثل انبهارهم بمأساة أوثيللو، فقد تغلغلت في الوعي الأدبي العربي بشكل ملحوظ وهي أول مسرحية تُرجمت وعُرضت على المسرح المصري في عام 1884، فقد ترجمها خليل مطران من الفرنسية وأصبحت هي المرجع المعتمد للمسرحية طوال عقود تلت، وبها تم تعريب اسم البطل إلى عطيل: من عاطل وهو الذي جُرّد من مجوهرات الزينة، وإن كان مطران قد اقترح في مقدمته أن الاسم قد يكون تحريفاً لاسم عطا الله.

وراح الكتاب العرب يقلّبون احتمالات تقريب هذا العمل وكاتبه من الثقافة العربية. كان مطران على قناعة بأن اسلوب شكسبير الأدبي يحمل ملامحاً عربية: (في شكسبير، هنالك شيء عربي بلا أدنى شك...) 3. بينما داعب أحمد فارس الشدياق احتمال أن يكون شكسبير نفسه عربيا اسمه الحقيقي شيخ زبير، كما تعرضت صفاء خلوصي في بحث كامل لعروبة شكسبير، وعارضها ابراهيم حمدان بجدية تامة ( بدوي، شكسبير، 182)4. ثم توالت الترجمات: ترجمة جبرا ابراهيم جبرا 1978، وترجمة نعمان عاشور 1984، ثم تعرّبت بقية الأسماء فأصبح Iago يعقوب، و Desdemona ديدمونة ثم أصبحت فطيمة. وتطور الأمر إلى ترجيح أن شكسبير اقتبس القصة من التراث العربي وخاصة من حياة الشاعر ديك الجن المسلم الذي هام بجارية مسيحية وتزوجها وانتهى به الأمر إلى قتلها ليظهر فيما بعد أنها كانت ضحية بريئة لشكوكه التي زرعها في نفسه ابن عم له.

لكن لماذا شكسبير والمسرح ونحن بصدد الرواية؟ يأتي ذكر هذه المسرحية على وجه الخصوص لأن شكسبير قد قدم لأول مرة فكرة البطل الذي لا ينحدر من سلالة الملوك والنبلاء كشخصية رئيسية لعمل عظيم، وهذه مغامرة ستضع حجر الأساس لمفهوم البطولة للرواية التي ستتخذ من أفراد من الطبقة الوسطى ثم الفقيرة أبطالاً لها. لكن العربي للأسف لن يظفر بمثل هذه الفرصة مرة أخرى، بل سيخرج من دائرة الأدب الرسمي شيئاً فشيئاً ويدفع به إلى هامش الأدب الهامشي.

أما بالنسبة إلى (عطيل) فقد دفعت متعة مشاهدة الأنا في التراث الأدبي للآخر النقاد العرب إلى التغافل عن الضرر الذي ألحقته شخصية هذا البطل بصورة العربي في الغرب، فعطيل كان نموذجاً مناسباً لشكسبير يُظهر من خلاله حماقة الرجل الذي يسهل استثارته بكلمة تزرع في نفسه الشكوك فإذا به يتهور ويندفع باندفاع الدماء في عروقه دون أن يتحقق، وفي ثورة غضب طائشة يتحول إلى وحش قاتل لا يشفي غليله سوى سفك الدماء، ومَنْ من الأجناس يتناسب مع هذا المطلب العربي؟!

يجد بعض النقاد علاقة مباشرة بين عطيل وشهريار قاتل زوجته بعد خيانتها، وهذا رابط ينقلنا إلى مكانة (ألف ليلة وليلة) في الأدب الغربي. وصلت (ألف ليلة وليلة) إلى أوروبا في أوائل القرن الثامن عشر حاملة رؤى العالم الغرائبي فأحدثت تغييراً هائلاً في عقول القراء والمؤلفين وساعدت في تشكيل مواقفهم تجاه الشرق والإسلام، وتسببت في إعادة الاهتمام بالاستشراق الذي نشأ في القرن الخامس عشر حين ازداد التطلع إلى الأراضي المقدسة والحكمة المشرقية بوجهيه الإيجابي والسلبي، ثم تطور في الجزء الثاني من القرن الثامن عشر إلى حركة فكرية وحقل للدراسة. تؤكد الناقدة مارثا بايك كونانت: (إن الليالي العربية هي الأم الروحية للرواية الإنجليزية).

- جدة


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة