الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الجزيرة
Monday 2nd August,2004 العدد : 70

الأثنين 16 ,جمادى الثانية 1425

عاش سنوات نضجه الثقافي والمعرفي في مصر
الروائي السوري خيري الذهبي:
تعلمت القراءة على يد «ألف ليلة وليلة» و«أغاني الأصفهاني»
* عمان الثقافية خاص:
الروائي خيري الذهبي يحتل مكانة بارزة، ودوراً مهماً في الساحة الروائية العربية، قدم للساحة الثقافية العديد من الروايات، كان أولها «ملكوت البسطاء» في عام 1973م وآخرها رواية «هشام» أو الدوران في المكان، والتي هي واحدة من ثلاث روايات إلى جانب «حسيبة» و«فياض» نشرها الذهبي تحت اسم «التحولات».
عن الرواية العربية بشكل عام، وعن تجربته في «التحولات» الثلاثة، وطغيان المكان وخصوصيته لديه زائداً مفهومه الخاص للزمان والتلاعب في «تحولاته» وأمور أخرى كان معه هذا الحوار..
* ما المغزى من إدراج رواياتك الثلاث الأخيرة «حسيبة» و«فياض» و«هشام» أو الدوران في المكان تحت عنوان واحد هو «التحولات».. ماذا تقصد بهذه الكلمة؟
حين وضعت لها اسم «التحولات» كان في ذهني الكلمة الإغريقية اللاتينية «ميتامورفوزيس» التي تعني بالاضافة إلى التحولات التناسخات، وأنا أنظر إلى الحضارة العربية التي كفت عن العطاء الحضاري منذ قرابة ألف سنة، في هذه الألف سنة التي طرد العرب فيها من الحقل العام، طردهم المأمون من ديوان الكتابة وطردهم المعتصم من ديوان الجند، فعادوا مرة ثانية تجاراً وسقائين، في حين برز إلى السطح الطورانيون الذين قدموا من عمق آسيا غير متأثرين، بل ورافضون التأثير بالحضارات الكلاسيكية التي صنعت في امتزاجها مع الحضارة العربية ذلك الشيء الرائع الذي سمي في حينه بالحضارة العربية الإسلامية.
بعد أن احتل الترك واجهة الفعل فقضوا على المحاولات الأولى لصنع البرجوازية العربية وصنع التعددية الفكرية تلك التي كان الخلفاء العباسيون يحرصون على أن يجعلوا المتناظرين يتناظرون أمامهم في حرية تامة حتى لا يجرؤ المعتزلة ما يقول للأشعري: لنضع كتاب الله جنباً ولتبدأ الجدال، هذا الجدال الذي ضم بالإضافة إلى الفرق الإسلامية جدالاً بين الأديان الإسلامية وغير الإسلامية والبوذية والمتعلمين والفلاسفة، كان عصراً يحاول أن يحكي عنه نفسه، لكن العصر التركي الذي بدأ بالسلاجقة وانتهى بآخر الخلفاء العثمانيين، فرض الحزب الواحد والحاكم الواحد والعقيدة الواحدة وألغى التعددية وأعاد المجتمع إلى عصر المقاطعجية (وليس الإقطاع) أولئك العسكريون الذين كانوا يوهبون الأراضي باقتنائها فيديرونها من العواصم من دون ارتباط بالأرض أو الفلاحين، على عكس الإقطاع الأوروبي، ولست أدري من الذي ترجم كلمة (فوضاليزم) الأوروبية إلى الاقطاع الشرقي، والغرب لا صلة فيه بين النظامين.
حصاد :
* وماذا كان حصاد هذه الألف سنة التي توقفت فيها الحضارة، كما أوردت؟
في هذه الفترة التي توقفت فيها الحضارة عن العطاء والإنجاز، توقفت الحضارات الكلاسيكية من إغريقية وسورية وبابلية وفارسية، وقبطية، وتوقفت بينهم جميعاَ الحضارة العربية الإسلامية، عن العطاء، تحولت هذه الأمة إلى أمة لا تفعل سوى أن تنسخ نفسها ببلادة، ليس من إنجاز فكري، ويكفي للدلالة على هذا أن ابن خلدون الذي نطنطن له لم يؤثر في حضارتنا على الإطلاق، ولولا عالم الاجتماع الفرنسي «لاكوست» الذي قدمه لنا ثانية لنتبناه ولنصرخ فرحين لقد بدأ جدنا عالم الاجتماع في مقدمته الشهيرة، ابن خلدون نفسه هذا العالم الكبير مر بمصر والتقى بالمقريزي، فاكتفى المقريزي بأن يقول عنه في «خططه»: «ومر بمصر مغربي تياه يدعى ولي الدين ابن خلدون» فكان هذا كل ما عرفه المقريزي عن ابن خلدون.
* ولكننا نعرف غير ذلك، أو ربما نقول عكس ذلك؟
طبعاً نحن نصرخ ونقول بأننا نقلنا فلسفة الإغريقي إلى أوروبا عبر ابن رشد، ولكن هل ترك ابن رشد مدرسة، هل ترك تلامذة أو سلسلة معرفية انتقلت إلى الأجيال التالية؟ بالطبع لا. لقد كان جزيرة منعزلة في الزمان والمكان.
باختصار، حاولت في «التحولات» أن أقرأ كيف عاش هؤلاء الناس عبر هذه الألف سنة من دون تجدد، من دون إضافة، فكأنك حين صادفتهم في بداية القرن العشرين، صادفت أهل الكهف وقد خرجوا من دون أن يعرفوا بأن التاريخ قد مرت فيه شموس ألف سنة قبل أن يفيقوا.
* يبدو ذلك بوضوح أكثر من رواية «حسيبة» (التحولات 1) أليس كذلك؟
صحيح، ففي «حسيبة» حاولت أن اقرأ مدن الواحات الشامية وكيف رضيت بهذا النوم الطويل منتظرة مجيء المخلّص، ولا تنسى أن الشام مَنْ «اخترع» فكرة المسيح المنتظر، والمهدي المنتظر ذلك الذي سيأتي في آخر الزمان حاملاً إلى الناس العدل والسلام اللذين لن يعيشهما جيل واحد من أجيال سكان مدن الواحات البائسة هذه، والتي تمتد من ديار بكر إلى عسقلان، رأيت أن هؤلاء الناس لم يصنعوا ثورة واحدة في تاريخهم، بل كانوا دائماً يتأثرون وينفعلون بثورات الآخرين، لم يعرفوا قصة حب واحدة كبيرة، ولا ننسى أن كل قصص الحب المتداولة في بلاد الشام، تتحدث عن أخرين يعيشون في بلاد أخرى، عن (قيس وليلى) وعن (يوسف وزليخة)، ولكن ليس من قصة حب واحدة شامية، فقصص الحب الكبيرة تعني المغامرة الكبيرة، أن تضع كل عمرك وكل أحلامك مرة واحدة، على الطاولة وتقول «صولد» فإما أن تربح الحب وكل شيء وإما أن تخسر الحب وكل شيء لكن «الدكانجي» لا يحسبها بهذه الطريقة.
ثلاثة وجوه :
* تقول رواية «التحولات» وكأنك تتفق مع الرأي القائل بأن روايات «حسيبة» و«فياض» و«هشام» هي ثلاثة أجزاء من رواية واحدة هي «التحولات»؟
هي ثلاثة وجوه لوجه واحد، بعد أن نشرت روايتي الأخيرة «هشام» عقدت ندوة حول تجربتي في الرواية شاركني فيها الروائي المصري جمال الغيطاني، وقتها تفتقت أمامي فكرة، أو لنقل رؤية جديدة لهذه الروايات الثلاث التي لم أفكر فيها من قبل، وهي أنني لاحظت البيت الشامي مسرح الروايات الثلاث كان مقسماً لدي إلى مستويات ثلاثة، فهناك الفرنكة «الغرفة العلوية» والتي أقام فيها أصحاب المثل والذين لم يتخلوا عن مثلهم وهما (صياح وفياض)، وهناك مستوى البيت بباحته وغرفة معيشته وإيوانه، والذي عاش فيه «حسيبة وسعدية وزينة وحمدان»، إنهم الناس الذين يعيشون حياتهم العادية من دون مُثُل تطبق على ظهورهم وتمنعهم من الحياة إلا وفق مُثُلهم، وفي رواية «هشام» كان البطل الرئيسي فيها هو الكهف «بيت المونة».
إذا ما نظرنا إلى المستويات الثلاثة وقارناها بالمفهوم الفرويدي لتقسيم النفس الإنسانية، لاكتشفنا أنه من دون إرادة مسبقة جعلت «فياض وصياح» يعيشان في الجزء المسمى ب«الأنا الأعلى» جزء القيم والمثل، بينما حسيبة وحمدان وبقية الشخوص في الجزء الوسط من النفس الإنسانية «الأنا العادية» بحسب فرويد، أما «هشام» وهو الذي عاد من الغرب مهزوماً، فقد انفتح على الهواة أو بحسب فرويد إلى عالم الغرائز والوعي الغائب والمونولوجات الداخلية.. عالم الأشباح الذين يستخرجون إلى 5 حاملين أحزان الأجداد وأحلامهم المحبطة التي جيروها للأحفاد طالبين منهم إنجاز ما لم يستطيعوا إنجازه. طبعاً حين كتبت رواياتي هذه، لم أكن أفكر بهذا التقسيم ولا بانعكاساتها على الشخصيات، ولكن حينما أنجزتها اكتشفت أنها كانت تفعل في من دون رغبة مني.
المكان :
* يتبدى المكان طاغياً في تحولاتك الأمر الذي لم يُؤلَف في الرواية السورية، ما تفسيرك لذلك؟
الملاحظ أن الشاميين الذي فرض عليهم التقسيم عبر ما سمي باتفاقية سايكس بيكو لم يقبلوا في أعماقهم بهذا التقسيم، والسوريون، وهم الأكثر شامية، رفضوا هذا التقسيم رفضاً كاملاً، وعبر خمسين سنة هي تاريخ استقلال سورية وحتى الآن، لم يوجد حزب سياسي سوري واحد قال إن سورية هي وطني النهائي، فكل الأحزاب كانت دائماً (عينها لبرا)، إلى وطن أكثر جمالاً وعدلاً وأكثر صدقية مع تاريخها، لذلك لاحظنا أن السوريين حاولوا استماتة اقامة أي شكل من أشكال الوحدة مع كل الأقطار العربية البعيدة والقريبة، كانوا ينظرون إلى سوريا باعتبارها وطناً معبراً، أو محطة إلى طريق تحقيق الوطن الآخر، لذلك رأوا إذا ما كتبوا عن المكان، فكأن هذه الكتابة هي خيانة للحلم، فرأينا من يكتب عن بغداد، وعن مدينة بلا هوية هرباً من الالتصاق الحقيقي بالمكان، مع الثمانينيات، ومع التأكد والوصول إلى قناعة بأن الحلم بعيد بدأوا ينظرون من حولهم، وبدأوا في اكتشاف المكان والحديث عن أسراره، فظهر «الوباء» لهاني الراهب، و«التحولات» لخيري الذهبي، و«أطياف العرش» لنبيل سليمان، لم نعد نخاف المكان وبدأنا نكتب عنه من دون أن تكون كتابتنا عن خيانة للحلم.
* ولكن هنالك خصوصية في كتابتك عن المكان، عن البيت الشامي، الذي كان مفاجأة لقراء الرواية السورية، فكيف اكتشفته؟
الحقيقة أنني لم اكتشفه، بل كنت أحياه، فأنا عشت سنوات نضجي الثقافي والمعرفي في مصر، لذلك لم أتأثر كثيراً بالجو العام المسيطر على الحركة الثقافية في سوريا، فحين نشرت روايتي الأولى «ملكوت البسطاء» شكلت مفاجأة للقارئ السوري الذي لم يألف الكتابة عن المكان، وكانت رواية حداثية بمقاييس تلك الفترة، 1973م على كل المستويات، ولكني لم ألبث أن اختلطت بالوسط الثقافي السوري حتى أصبت بالمرض السوري في الكتابة: السجال السياسي والإيمان بأنك برواية واحدة ستغير مصير أمة، فكتبت روايات عدة حين أقرأها الآن لا أحبها كثيراً!!
في منتصف الثمانينيات وقفت مع نفسي اتساءل، وماذا بعد؟ ثم قررت أن أكمل مسيرتي الأولى وأن أعود إلى خيري الذهبي مديراً ظهري للمرض الثقافي السوري. أدب الالتزام والسجال السياسي، فعدت إلى دمشق، إلى حي القنوات، إلى البيت الشامي، وأخذت أكشف عن جماله الأستار، فأنت إن مررت في حارة من الحارات الشامية الملتوية الكابية، لن تعرف أن وراء هذه النوافذ الصادة والأبواب الشاحبة جناناً، لا تستطيع الوصول إليها إلا إذا سمح لك أصحاب هذه الجنان، فهذه الجنان «لي أنا» وليست للغير (!) لكن جرب مرة أخرى تخترق هذه الحواجز، حباً، وتدخل إلى الدهليز المعتم لتصدمك الباحة المشرقة بالنور الصارخ والخضرة اليافعة والهجرة الدافقة، والنوافير الهاشة واليمام الهادلة، فجأة تنتقل من قشرة الحارة الكابية إلى لب الرمانة والزاهية، هذا التناقض ما بين القشرة واللبة هو ما سحرني وأيقظ في الطفولة التي عشتها في حي القنوات، فقررت الكتابة عنها مخلصاً للمكان غير خائف من اتهامي بخيانة الحلم، أو من التباهي بأنني أملك هذه الذاكرة الرائعة، فكانت رواية «التحولات» بكتبها الثلاثة «حسيبة»، «فياض»، «هشام» أو الدوران في المكان.
* هل تعتبر أن كتاباتك تنتمي إلى الأدب الواقعي أم الفنتازي؟
من الغريب أن السرد العربي الذي كان يدور دائماً في فلك الفنتازيا عبر «ألف ليلة وليلة»، وعبر السير الشخصية وكتب العجائب والغرائب، هذا السرد الذي رفع فيه العرب لمئات السنين، ما أن دقت الحضارة الغربية أبوابنا في منتصف القرن قبل الماضي، وقرر العرب أن يترجموا شيئاً من فن القصص الأوروبي حتى وجدوا أنفسهم يتخلون عن الفنتازي ويترجمون الأدب الواقعي والسجالي، فرأينا الطهطاوي وهو يترجم «مأساة تليماك» وليس بحثاً عن جمالية الأدب، بل عن العبرة والدرس الذي يمكن استخلاصه من الأدب، إذ ترجمها ليحذر الخديوي من مغبة الطغيان وظلم الشعب حتى إذا ما كثر العارفون باللغات الأوروبية الفرنسية تحديداً، حتى كثرت الترجمة عن الأدب الواقعي، وما أن اختلط العرب بالسوفيات وتأثروا بالاشتراكية حتى باشروا بترجمة الواقعية الاشتراكية والأدب الملتزم إلى أن ظن بعضهم أن الرواية هي، فقط الرواية الواقعية، ناسين جذر الرواية العربية في الفنتازيا وناسين أدب الخيال العلمي الغربي وناسين أدب اليوتوبيا السوداء.. وكان علينا أن ننتظر حتى نرى الغرب الذي قدم إلينا مرة ابن خلدون، ابن رشد، أن يقدم إلينا «ألف ليلة وليلة» مرة ثانية حتى يعرف مثقفونا قيمتها بعد أن أداروا ظهورهم لها طويلاً.
للحقيقة أنا تعلمت القراءة على يد «ألف ليلة وليلة» وعلى يد «أغاني» الأصفهاني وعلى يد السير الشخصية كما تعلمتها على يد موريس لويلان وشخصيته الشهيرة «أرسين لوبين».
من هذا المزيج ما بين الفنتازيا العربية وفن المغامرة الأوروبية، نشأت نشأتي الأولى، وكان علي أن انتظر حتى أقف بين يدي ديستوفيسكي وبلزاك وفوكنر حتى ألتمس خطواتي الأولى لكتابة الرواية. أنا ابن كل هؤلاء العظماء، ابن ذلك الفنان العجيب صاحب «ألف ليلة وليلة» وابن الكاتب السوري الكبير الذي نتنكر له الآن لوقيانوس السيمسطائي، كما أنا ابن سرفاتنس وديستوفيسكي، من كل هذا المزيج ها نحن الآن كتّاب الرواية باللغة العربية نحاول أن نضيف شيئاً إلى هذا الفن الذي احتل مكان معظم الفنون في اللغة العربية.
الصفحة الرئيسة
أقواس
فضاءات
نصوص
قضايا
حوار
تشكيل
ذاكرة
الثالثة
منابر
مراجعات
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved