الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 02th October,2006 العدد : 173

الأثنين 10 ,رمضان 1427

نقد النقد في مراحله المبكرة بعد ابن قتيبة
د. سلطان سعد القحطاني

بعد أن قدمت لهذه الدراسة ببعض الآراء التي طرحت مبكرة في قضية نقد النقد، وأردت أن تكون البداية بأول كتاب نقد خالف فيه مؤلفه ما كان سائدا في زمانه من الدراسات اللغوية والنحوية إلى دراسة النص بمعزل عن الزمان، لكنه ما زال يساير الوضع الى حين، فلم ينقلب على السائد بشكل كامل، وإني لأميل إلى ما ذهب إليه، فلو أنه نفى ذلك المنهج جملة وتفصيلا لقضى على آليته ومنهجه الذي ظهر به، ولجلب على نفسه مشكلة هو في غنى عنها، ولحوربت نظريته، كما حورب ابن جني في آرائه اللغوية الحديثة، وشيخه أبو العباس، لكنه استطاع أن يفتح الباب للدارسين من بعده، كما فتح ابن سلام والجاحظ باب الدراسات النقدية، وسنتناول واحداً من نقاد العرب في تلك الحقبة التاريخية؛ لأهمية نظريته، من ناحية، واختلاف الآليات التي قامت عليها النظرية من ناحية أخرى، وما قيل عنها في موضوع نقد النقد، من دراسات نحاول فيها الاختصار ما أمكن، ومن وجهة نظري، أن ابن سلام والجاحظ وابن قتيبة، وابن المعتز، واللغويين والنحاة قد تركوا أثراً محموداً في ظهور الدراسات العربية النقدية، حتى ظهور كتاب ابن طباطبا العلوي، الذي انطلق فيه من منطلق عربي، وبث فيه من آرائه ما يستحق الدراسات وإعادة النظر في النقد العربي، في ضوء الدراسات النقدية العالمية، ومثله كتاب قدامة بن جعفر الذي تأثر بالمنهج الآلي اليوناني في آرائه النقدية، وكلا الكتابين جدير بالدراسة والمناقشة في ضوء الدراسات النقدية التي تعرض لها في موضوع (نقد النقد) ليكون جزءا من الدراسات العالمية في زمن العولمة.
ابن طباطبا :
يتمتع محمد بن أحمد بن طباطبا (ت 322 934) بذائقة فنية عالية، فهو شاعر وناقد، مارس الحياة الأدبية بشقيها الإبداعي والنقدي وكان موقفه في ذلك العصر المضطرب بين تيارين متضادين: تيار أدب الطبقة المترفة، وتيار الشعراء (الكدية) وهم الشعراء المتكسبون بشعرهم، تحت وطأة الحاجة، ومن هذا المنطلق ظهر نوع من التقديس للحكام، حتى أن بعض الشعراء ساوى بالحاكم الإله، فقال أحدهم:
(صل يا ذا العلا لربك وانحر
كل ضد وشانئ لك أبتر
كلما خر ساجداً لك رأس
منهم قال سيفك: الله أكبر)
كما عاد بعض الناس من غير العرب إلى العادات القديمة (المجوسية) وأحيوا ذكراها في كل عام بإشعال نارها، لكن ابن طباطبا لم تهن كرامته العربية ولا دينه أن ينزلق في هذه المزالق الخطرة، بل ازداد صلاة ومقاومة للشعوبيين والمتطرفين مثل الزنادقة، ولعل هذه المبالغات قد أثرت في حياته، وجعلته يؤلف كتابه المعروف (عيار الشعر)، وكانت له منزلة عالية عند العالم الناقد، عبدالله بن المعتز، وقد ساء كلا منهما ما يدور في هذا العصر، من شعر وسياسة، وقد ضمن كتابه المعروف (البديع) بعضا من شعر ابن طباطبا، وكان به وبشعره معجباً، بالرغم من أنهما لم يلتقيا، كما تؤكد المصادر، بيد أن كلا منهما كان شغوفا بالآخر، ولا أود أن أسرف في تقديم شخصية ابن طباطبا، ولا الحياة الثقافية في عصره، كي لا تكون على حساب الهدف العام للبحث وتقسيماته الفنية عند النقاد ونقادهم.
نظرية ابن طباطبا النقدية:
قد يتساءل بعض الدارسين والمتلقين والمهتمين بالنقد الأدبي، في مراحله المبكرة عن نظرية ابن طباطبا النقدية، هل هي نظرية مبتكرة، أو نظرية مطورة، أو آراء نقدية على نقد سابق؟؟ وهل قلد أحداً ممن سبقوه في المجال النقدي؟ ومن حصيلة هذه التساؤلات نخرج بآراء متقاربة، وشبه متفقة من خلال قراءة ابن طباطبا الناقد، أما قضية التأثير والتأثر فهي ظاهرة صحية في كل العلوم، والخطأ فيها إذا أخذت مظهر التقليد، فالظروف التي أحاطت بابن طباطبا كانت متعددة الجوانب، من سياسية متردية إلى اجتماعية أردأ إلى شعر نفاق وعامية متفشية، إلى شعوبية تحاول القضاء على مقدرات العرب وحضارتهم المزدهرة، لذا ظهر بنظرية منصفة للعرب كما أنصف ابن قتيبة المحدثين إلى حد ما درسها من داخل القاموس العربي على أربعة محاور: الأول، البيئة العربية. والثاني، الثقافة العربية. الثالث، التنظير، الرابع، التطبيق، لذا جاءت نظريته عربية خالصة، فابن طباطبا يعتمد القياس معياراً له من داخل البيئة العربية، ثم يطبقه، آخذاً في الاعتبار الثقافة العربية، ولا يختلف مع ابن قتيبة، الذي تحدثنا عنه من قبل في موضوع دراسة الشعر من دون تعصب لعصر أو فئة على حساب أخرى، فالمحدثون والقدماء في ميزانه النقدي على درجة واحدة، فحكمه في التنظير الذوق، وفي التطبيق اكتمال أدوات الشاعر، بصرف النظر عن الزمان والمكان، على ما لهما من أهمية قصوى في نقده.
وبما أننا نعالج موضوع النقد المنقود، فعلينا أن نورد آراء النقد في كتابه النقدي (عيار الشعر) ومدى الصدى الذي تركه هذا الكتاب في الدارسين للنقد العربي قديماً وحديثاً.
يرى الدكتور محمد زغلول سلام (محقق عيار الشعر) أن ابن طباطبا قسم كتابه إلى قسمين أساسيين، مقدمة ومتن، ويشبه في تقديمه للكتاب بمقدمة مستفيضة بعض النقاد الذين اعتادوا ذلك، فجاءت مقدماتهم أهم بكثير من متون كتبهم، إذ أظهرت تلك المقدمات تفصيل آرائهم في النقد، ومنهم ابن قتيبة، صاحب مقدمتي (الشعر والشعراء، وأدب الكاتب) والمرزوقي صاحب مقدمة (الحماسة)، ومن الجدير بالذكر أن النقاد من بعده تأثروا به إلى حد كبير وأثنوا عليه، ما عدا قدامة بن جعفر (ت337 935) الذي لم يذكره في كتابه (نقد الشعر)، ولا غرابة أن يختلف باحث وناقد آخر مع الدكتور سلام، الذي حقق الكتاب بالاشتراك مع الدكتور طه الحاجري، سنة 1956م، ويرى الدكتور محمد الربيع أن هذه المقارنة غير صحيحة، ويقول: (وأعتقد أن هذا التشبيه وتلك المقارنة غير صحيحين، فمقدمة ابن قتيبة لكتاب الشعر والشعراء مقدمة مستقلة بنفسها وضعها كمدخل لكتابه أوضح فيها آراءه النقدية قبل أن يشرع في تراجم الشعراء، ومقدمة المرزوقي أوضح فيها آراءه النقدية والأدبية قبل أن يشرع في شرح أبيات الحماسة، أما ابن طباطبا فلا أعرف حدود المقدمة التي يعنيها الدكتور سلام، والتي قال عنها مستفيضة وأهم من الكتاب)، لاشك في أن ابن طباطبا استفاد من النقاد الذين سبقوه في هذا المجال، مثل الجاحظ وابن سلام وابن قتيبة، لكننا نقرر أنه صاحب منهج مستقل، ونود أن نضيف إلى ما قاله الدكتور الربيع قولا آخر، حيث إن المرزوقي جاء بعد ابن طباطبا واستفاد منه، بل طبق الكثير من أركان نظريته على دراسته للحماسة، فكيف يقارن الدكتور سلام بين ابن طباطبا بشخص لم يوجد بعد في زمانه؟؟ لكني أظن أنه كان يقصد المنهج في التطويل والشرح في المقدمات، وهذا ليس بعيب، ففي الزمن الحاضر نجد مقدمات الغربيين تأخذ طولا قد يكفي عن قراءة الكتاب نفسه.
وعلى أي حال، فنحن يهمنا الحراك النقدي في موضوع (نقد النقد) والآليات التي استعملت فيه، وإذا كان قد ذكر في كتابه المذكور آلية تعتبر متقدمة في الدراسات الفكرية والأدبية والنفسية، وهي مسألة تحكيم العقل، فإن ذلك لا يعني التحكيم العقلي العلمي، بل يعني قبول الحواس الخمس لتذوق الفني الأدبي، وما مجه منها واحد أو أكثر يعتبر نقصا في النص الأدبي، ولعلنا لا نبتعد كثيراً عن الدراسات النفسية للإبداع عندما نذكر أقوال العلماء في هذا الجانب، فهم يرون أن الإبداع مرتبط بالسياق النفسي والفطري والاجتماعي والحضاري والثقافي، ونجد أن للجانب النفسي أهمية في الدراسات العربية المتقدمة في التراث، فالكثير من الباحثين أكد على أهمية معرفة الأديب لطبيعة الجمهور الذي يخاطبه، وأن يوجه خطابه لمن ينصتون إليه بأسلوب يستطيعون فهمه، والقدماء من النقاد لم يهملوا الجانب النفسي، فقد كانوا يهتمون بالمعنى الموافق لنفسية المتلقي، وكان عبدالقاهر الجرجاني (ت463 1071م) يهتم بالتمثيل، ويرى أنه من عوامل تقوية النص، وهذا الرأي يتفق مع ما ذهب إليه ابن طباطبا في نقده وتحليله للنصوص والتطبيق عليها، وقد اتفق الكثير من نقاد العربية على هذا المنهج باستعمال هذه الآليات النقدية، وبإمكان الدراسات النقدية الحديثة أن تطبق هذه النظرية العربية على ما استجد عندها من فنون أدبية حديثة، مثل: الرواية والقصة القصيرة والمسرح.. مع التطوير في أسلوب الآلية نفسها، بما يتفق والدراسات الحديثة الغربية منها والعالمية، وإذا أردنا أن ندرس النقد الأدبي في مراحله المتقدمة وربطه بالنقد الأدبي العربي الحديث، الذي استمد آلياته من النقد الغربي، فعلينا أن ندرسه بآلياته (القديمة والحديثة) ومن هذه الآليات ما يتفق مع النقد الأدبي الحديث، ومنها ما يمكن أن يطور في أسلوبه، ومنها ما يمكن استبداله بآلية عالمية بعد أن تطبق على النص العربي الحديث، من حيث البيئة، فإذا أثبتت صلاحيتها أمكن استعمالها، فالمنهج النفسي، الذي اتخذه ابن طباطبا، وعبدالقاهر الجرجاني، وقدامة بن جعفر.. وغيرهم من نقاد العربية القدامى، أمر اهتم به النقد الأدبي العالمي، ويرى الدكتور سامي الدروبي أهمية الجانب النفسي في الدراسات النقدية، ويطبق ذلك على المقولات النقدية الغربية، من حيث قبول النفس البشرية للفن، وخاصة على دراسة هنري برجسون (الضحك) وفي هذا الصدد يرى أن للفن قبولا نفسيا والعكس من ذلك، فالفن (الشعر) في نظر نقادنا القدامى ذوق في البداية وتطبيق في النهاية، ولعل أول من تنبه إلى هذا الموضوع، من حيث الدرس النقدي، ابن طباطبا، بصرف النظر عن الزمان والمكان، هذا من ناحية الذوق، أما من ناحية التحليل الفني، فالزمان والمكان من أهم مقومات التحليل، أما العقل الذي نادى به البعض، ومنهم ابن طباطبا نفسه، فقد فهم عند البعض بالمعنى المجرد (للعقل) فالعقل في الفن، أو ما يسمى الواقع عند البعض، المقصود به عدم الإغراق في الخيال، وهذه معادلة صعبة لم يحكم فيها إلا من أوتي حظاً من الرؤية النقدية، وملك آلية نافذة في النقد، ولا أعتقد أن رد أبي تمام كان موفقاً، عندما صاح به أبو سعيد البصير، وأبو العميثل الأعرابي: لم لا تقول ما يفهم؟؟ فقال: ولم لا تفهمون ما أقول؟؟ وقبل أن نختم هذا الفصل من الدراسة، نورد أقوال النقاد في العصر الحديث حول نظرية ابن طباطبا، ما لها وما عليها:
يقول الدكتور محمد زغلول سلام: (لا نستطيع أن نلومه في هذا التقصير، فالدراسات الأسلوبية لا تزال في مراحلها الأولى، ولم يسبقه من حدد جوانب التشبيه وأركانه وضروبه، بل كانت كل دراسات سابقيه التي تتعرض للتشبيه تتناول جوانب منه وتغفل أخرى، وربما كان هو أكثرهم تحديداً وتعديداً).
أما الدكتور محمد غنيمي هلال، فيرى أن ابن طباطبا أصيل في دراسته: (أصالة الكاتب في تعبيره ورجوعه فيه إلى ذات نفسه لا إلى العبارات التقليدية المحفوظة، وهذا الصدق الفني أو الأصالة هو أساس تقدم الفنون جميعا)، وهذا الرأي يؤكده الدكتور أحمد بدوي، في دراسة مماثلة يؤكد فيها علمية ابن طباطبا في الصدق الفني، بين الخيال والواقع.
أما الدكتور محمود السمرة فيعترف بفضل ابن طباطبا في تخليص الشعر من تهمة (السرقات) حيث إنه خلص هذه الفئة من هذه التهمة الثقيلة على السمع، هذه التهمة السخيفة التي ألحقت بهم، ومشكلة هذا النقد أن البعض اتخذ من القصيدة بيتاً واحداً وقارنه بآخر، فحكم عليه بالسرقة، وابن طباطبا حرر هذا المفهوم بدراسة الوحدة العضوية للقصيدة.


dr_sultan1@hotmail.com

الصفحة الرئيسة
أقواس
فضاءات
نصوص
قضايا
حوار
تشكيل
مسرح
مداخلات
الملف
الثالثة
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved