الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 03th January,2005 العدد : 90

الأثنين 22 ,ذو القعدة 1425

عبد الجبار .. الرمز .. والمعنى ؟!
أمل زاهد
يحق لنا أن نعتبر الأستاذ عبد الله عبد الجبار أحد القمم التنويرية التي تشرئب إليها الأعناق وترنو إليها الأعين ، لعلو هامتها ، وارتفاع قدرها ، وشموخ تكوينها ، وقوة بنيانها ، وجزالة عطائها ، ورسوخ جذورها ، وامتداد فروعها المتشعبة والمعشوشبة في تربة الجزيرة العربية ، والمحملة بعبق تاريخ حجازها المعطرة بشذى ثراه والمضمخة بأريج أرضه ، ويحق له أن يتبوأ صدور المجلات الثقافية ، وأن يعتلي منابرها وأن يتربع بفخر وشموخ على ساحة المشهد الثقافي السعودي ، وأن يحتفي به جموع المثقفين .. يمطرونه بزخات حبهم ونفحات تقديرهم ووفائهم ، يحملونه على ظهور أقلامهم ويغدقون عليه من فيض كلماتهم وعبير حروفهم ، محاولين تأطير صورته وإيضاح تقاسيمها وإبراز ملامحها ، بكل ما تملكه أقلامهم من قوة على ضخ مداد الحقيقة ونشر تفاصيلها وإظهار معالمها ، وبكل ما تحمله جعبة حبرهم من قدرة على جلو الصدأ ونفض الغبار وتحديد الملامح لواحد من أهم الرموز الثقافية السعودية ، يجمعهم عظم الوفاء ووافر التقدير والعرفان ، ويزفهم صدق الرغبة ويكللهم إخلاص النية ، على إيفاء هذا الرمز القدير حقه ، ومحاولة وضعه في المكان اللائق بفيض عطائه وجزيل منحه وأصالة وعمق ثقافته وغنى وثراء مكوناتها ، فهو من دون شك أحد الذين ساهموا في وضع حجر الأساس في هيكل الثقافة السعودية.
ونحن إذ نرقبه وهو يحمل مشعل التنوير ويحاول به إضاءة الطرق المعتمة وتعبيد الطرق الوعرة ، محاولاً اجتثاث أعشاب الجهالة واقتلاع جذور التخلف التي تقف حجر عثرة في وجه التقدم والتنوير .. نلمح عينيه وهي تلمع ببريق الأصالة وترنو إلى تلك الجبال العتيقة المكللة بكنوز التراث ، والراسخة اقدامها في جذور الماضي
المجيد ، فيستظل بأشجاره الوارفة الظلال ليقطف من هناك زهرة ويجني من تلك الحقول ثمرة تساهم في تمزيق حجب الظلام وتبديد عتمة الجهل ، فهو يمزج ما بين أصالة القديم ومواكبة الحديث ، في توليفة جميلة يحاول فيها أن يحصل على تعويذة سحرية ، يروم بها كسر كل ما يعيق المسيرة في الطريق المحتم علينا خوضه في سبيل الحرية والتنوير والتجديد.
وقد أدرك أهمية التعليم وأنه المارد القادر على هزيمة جحافل الجهل والتخلف والخرافة ، فانطلق ليلفت الأنظار إلى حاجة مجتمعنا إلى نشره بين جميع شرائحه ، وكان ينتشي طرباً إبان تدشين أية مؤسسة تعليمية جديدة ، كما كان من المشجعين لتعليم المرأة ومن المنافحين عن حقها المشروع في أخذ حظها منه ، الذي كانت تقف الممانعة الاجتماعية التي تلبس قناع الدين في وجهه ، كيف لا وهو ذلك المثقف المهموم المأزوم الذي يحتقن وجدانه بالرغبة في التغيير ، والذي يضع تاريخه ومجتمعه وبيئته تحت مجهر البحث والتمحيص ، ويقلبها في أنابيب الاختبار عله يصل إلى العلاج الناجع الذي يكسر به قيودها ويحررها من أصفادها ، ويطلق عقالها في سماوات رحبة الاتساع فسيحة الأرجاء.
وهو إذ ينطلق راصداً مسيرة التاريخ وأحوال المجتمع والحركة الأدبية الثقافية في الجزيرة العربية ، يحاول وضع يديه على أسباب التخلف وما يعرقل المسيرة ويشدها إلى الوراء ، وذلك لأنه يمتلك عيناً ناقدة ميكروسكوبية قادرة على القبض على أصغر الإشكاليات ووضعها فوق بساط البحث والتقصي ، فيشخص الأمراض ويوصف العلل ويسلط الضوء على ما يؤرق مضجعه كمثقف تناقحت أفكاره وتلاقحت مع أفكار
أقطاب الثقافة في الأقطار العربية الأخرى ، وخاصة مصر في تلك المرحلة التي اشتعلت فيها الساحة الثقافية المصرية بالسجالات الفكرية والمناظرات الثقافية ، وهطلت زخماً راقياً على الساحة الثقافية العربية برمتها ، تستمد عطاءها من أولئك الفطاحل أمثال العقاد وطه حسين والمازني والرافعي وغيرهم .. وبعين طامحة ونفس تتوق دائماً إلى كل ما يحسن من مستوى الثقافة على أرضه ، يسعى عبد الجبار حثيثاً هو ورفاق دربه إلى إثراء المشهد السعودي ، متأثرين ومتفاعلين بما يتأجج في البوتقة العربية من أفكار ورؤى وأيدلوجيات ، محاولين بدورهم التأثير وإثبات وجودهم وتميز حضورهم ، وهم المسكونون أبداً بذلك الوجع العربي حتى النخاع ، التواقون إلى الحرية والعدالة والمساواة والرغبة في الوصول إلى كل ما يساعد وطنهم على التقدم والرقي.
ونحن إذ نقرأ محاضراته التي ألقاها على طلاب قسم الدراسات الأدبية واللغوية في الجامعة العربية في أواخر الخمسينيات من القرن الماضي ، لا يسعنا إلا أن نلاحظ ذلك الوجع الذي يسكنه وتأزم نفسه وقلقها إزاء ظواهر لا يزال يعاني منها المثقف العربي حتى الآن في وقتنا الحالي ، كالحجر على الحرية الفكرية والخوف من سوء الفهم والاتهام في الدين ، ومقص الرقيب الذي يلاحقه ليقصقص أطراف كتاباته ، فيتحايل هو عليه تارة بالرمز وأخرى بمحاولة تضمين أفكاره التي يبغي إيصالها بين دفتي سطوره ، وكأني به وهو يتحدث عن صحافتنا إبان ذلك الوقت يتحدث عنها الآن فهو يقول : (وصحافتنا اليوم أمرها عجب بين صحافة العالم ، فهي ليست صحافة خبر وهي ليست كذلك صحافة رأي ، فالخبر يمنعه الرقيب الصغير والرأي يقتله من هو أكبر منه ، إلا أخباراً تتلقفها الصحف عن دور الإذاعات العربية والإفرنجية) ، فلا تزال الصحافة العربية تراوح مكانها منذ ذلك الزمن ، غير قادرة على الارتقاء إلى أن تكون كما يتحتم عليها أن تكون : السلطة الرابعة.
وهو أيضاً ذلك المثقف الثائر على القولبة الذي يرفض الركون إلى القوالب النمطية والأشكال التقليدية ، ويتمرد على الجمود بكافة صوره ويسعى إلى التجديد الذي لا يتعرى من أصالة الماضي أو يتجرد من عبق رائحته ، فهو يرفض الجمود والانحباس داخل أسر المحسنات البديعية ، والقوالب الإنشائية المجردة من المعنى والخالية من المضمون ، تشتعل نفسه بالرغبة في التطوير والتجديد ، محاولاً رصد الحركة الثقافية والأدبية في العالم عامة والعربي خاصة ، ومحاولة التفاعل معها والاستفادة منها في أرض الجزيرة العربية.
يعرف قاموس اكسفورد الليبرالي بأنه متفتح الذهن ، غير المتعصب ، منحاز للإصلاحات الديمقراطية ، ومن منطلق هذا التعريف نستطيع أن نقول إن عبد الجبار من الرعيل الأول من الليبراليين في السعودية ، الذين لم يكتفوا فقط بتسجيل موقف فكري مستنير ينعكس فقط على كيان صاحبه ، بل تترجم موقفه الفكري إلى عمل مستنير أراد به أن تشرق شمس التنوير في سماء جزيرة العرب.


amal_zahid@hotmail.com

الصفحة الرئيسة
شعر
فضاءات
نصوص
تشكيل
كتب
مداخلات
الملف
الثالثة
اوراق
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved