الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 03th January,2005 العدد : 90

الأثنين 22 ,ذو القعدة 1425

ثقافة التغيير في فكر عبدالله عبدالجبار
د. أميرة كشغري
من المفارقات الجميلة أنني أكتب هذه القراءة في كتاب (التيارات الأدبية في قلب الجزيرة العربية) للأستاذ عبدالله عبدالجبار أطال الله في عمره بعد اختتام أعمال المؤتمر الثالث لمؤسسة الفكر العربي والذي ناقش موضوع (العرب بين ثقافة التغيير وتغيير الثقافة)، وأجدني من خلال قراءتي لهذا الكتاب، وعلى وجه الخصوص في الفصل الذي تحدث فيه الكاتب عن العوامل المؤثرة في الأدب، أرى بذور هذه الثقافة (أي ثقافة التغيير) واضحة جلية من خلال الرؤى التنويرية التي حملها الكتاب وزرعها فكر الأستاذ عبدالجبار منذ منتصف القرن السابق وهو يتأمل التحولات العميقة التي شهدها الواقع الاجتماعي والسياسي في قلب الجزيرة العربية.
وبالرغم من أن عنوان الكتاب يحيلنا إلى دائرة النقد ودائرة الأدب وتياراته عبر محاضرات أكاديمية ألقيت على طلاب قسم الدراسات الأدبية واللغوية (كما ورد في عنوان الكتاب)، إلا أن الفصول الأولى من الكتاب تأخذنا إلى دائرة أوسع وأرحب، ألا وهي دائرة الفكر والثقافة والمجتمع والتاريخ، لقد اتسمت الثقافة الشعبية السائدة كما رآها الأستاذ عبدالله عبدالجبار في تلك الفترة الزمنية (خمسينيات القرن العشرين) بالجمود والانغلاق الذي فرضته الظروف الموضوعية في الجزيرة العربية، وما ينتقيه الأستاذ عبدالله عبدالجبار من مواضيع حول الثقافة والأدب، والجدل حول العلاقة بينهما يشي بمحاولاته تلمس سبل الخروج بالثقافة من مأزق الجمود والركود إلى أفق أكثر انفتاحاً وتفاعلاً مع ما يستجد في المجتمع، وفي هذا الاختيار تكمن في نظري شرارة التنوير التي يمكن أن تضيء الجوانب المعتمة من جسد الثقافة السائدة وتأخذ بها إلى رحاب التنوير والتغيير حتى وإن جاء الطرح العام للأستاذ عبدالله عبدالجبار يحمل قسمات أيديولوجية محددة، لم تكن على أي حال منفصلة عن الروح السائدة في ذلك الوقت. السؤال المطروح هنا هو: ما هي مكونات العمل التنويري الذي يمكن تلمسه في فكر الأستاذ عبدالله عبدالجبار؟ والسؤال الذي يتبع ذلك هو: هل كان عبدالله عبدالجبار رائداً يقدم آليات ومنهجاً لثقافة التغيير؟ وإلى أي مدى نجح في ذلك المشروع؟
سأركز في قراءتي كما ذكرت سلفاً على جانب واحد وهو في اعتقادي جانب حري بالبحث والتحليل والنقد وإن جاء في الكتاب توطئة للموضوع الرئيسي هذا الجانب هو المتعلق بالعوامل التي يرى الأستاذ عبدالله عبدالجبار أنها (المؤثرة في الأدب) وهي الصحافة والإذاعة والطباعة والتعليم والمكتبات، ثم الرقابة والمنتديات.
بالنسبة للصحافة وأثرها على الأدب:
يستعرض عبدالجبار في جدول زمني تطور الصحافة ويعدد الصحف في العهد العثماني، ثم العهد الهاشمي الى العهد السعودي وكيف أن هذه الصحف جميعها تعكس واقعاً يقول عنه عبدالجبار انه عجيب بين صحافة العالم، فهي ليست صحافة خبر، وهي ليست كذلك صحافة رأي، فالخبر يمنعه الرقيب الصغير، الرأي يقتله الرقيب الكبير.. أما الأخبار الداخلية فقليلة جداً.. كأن بيئتنا جامدة ساكنة لا تضطرب بأحداث الحياة، كما تضطرب أي بقعة في العالم بأحداث الحياة (ص171)، وهنا نرى الفكر النقدي عند عبدالجبار لما كان يراه من قصور في دور الصحافة وجمود فيما تقدمه وكأنه يدعو إلى تغيير ذلك بطريقة واعية وان كانت غير مباشرة.
ثم يستعرض دور الصحافة العربية في التأثير على الأدب ويستشهد بالأثر البارز للصحافة المصرية على أدباء الجزيرة الذي تجلى في تفاعل الأدباء في قلب الجزيرة مع ما كان يطرحه الأدباء والمفكرين المصريين المؤثرين في الخمسينيات أمثال طه حسين والعقاد والرافعي والزيات، فكان هناك من يتبنى فكر العقاد في معاركه الأدبية مع الزيات مثلاً، كما كان هناك من يناصر الزيات ضد العقاد، كانت تلك جذوة الحياة الثقافية والأدبية التي اشعلت الفكر وجددت النظرة إلى أمور لم يكن بالإمكان الحديث عنها أو الخوض في تداعياتها خاصة ما كان يصطدم منها بالواقع الجامد والتفكير المنغلق على الذات بعيداً عن منطق النقد والمساءلة وينطبق على الاذاعة إلى حد كبير ما ينطبق على الصحافة.
وإذا انتقلنا إلى مجال التعليم والمكتبات نجد أن أهم ما أضافه فكر الأستاذ عبدالله عبدالجبار هو حديثه حول ما دار من تعنت ومعوقات وممانعة تصل إلى حد التكفير والعقوبة لفكرة تعليم البنات، يقول الأستاذ عبدالله عبدالجبار في هذا الخصوص: (ما أشبه تعليم البنات في الحجاز وسائر الأقاليم بعملية تهريب المخدرات) ص (181)، إلا أنه وبالرغم من كل تلك العراقيل نجح العديد من قادة الحياة الفكرية والاجتماعية في الحجاز في تعليم بناتهم، بل نجحوا أيضاً في افتتاح مدارس خاصة لتعليم البنات في مكة والمدينة وجدة، وواصل آخرون المسيرة بإرسال بناتهم إلى المدارس المصرية حتى يتمكن من اكمال تعليمهن، أما النقلة النوعية الكبرى للتغيير فهي إنشاء أول مدرسة ابتدائية للبنات في عنيزة وبريدة، والتي كان لجهود السيد طاهر الدباغ مدير المعارف السعودية الفضل الكبير فيها.
أما بالنسبة لتعليم البنين فإن مدرسة تحضير البعثات والتي كانت على غرار المدارس الثانوية في مصر فقد كان لها أثر كبير في الحياة التعليمية في الجزيرة إذ إنها أتاحت الفرصة لاعداد أفواج من المتعلمين أكملت تعليمها الجامعي في مصر والدول الأوروبية وكانت نواة لإدارة الجهاز الحكومي مكنته من الاضطلاع بالاحتياجات الادارية للدول الناشئة.
المكتبات هي العنصر الرابع من عناصر تقييم الحركة الأدبية في نظر الأستاذ عبدالله عبدالجبار، وفي هذا المجال يسرد تاريخ المكتبات في الحجاز بدءاً من أول مكتبة استطاع رصدها وهي مكتبة قايتباي والتي أنشئت في مكة عام 882هـ (أي في القرن الخامس عشر الميلادي)، ومن الأمثلة التي أوردها الأستاذ عبدالله عبدالجبار المكتبات العامة التي أنشئت في مكة في القرن الثالث عشر الهجري مثل مكتبة الشيخ عبدالستار دهلوي ومكتبة الشيخ حسين الشكور أحد مشايخ الجاوة ومكتبة الماجدية ومكتبة الشيخ عبدالله غازي وأمثلة أخرى عديدة، وكأن الأستاذ عبدالله عبدالجبار يحاول أن يعقد مقاربة بين الأمس واليوم ويحفز على الاهتمام بالمكتبات واحياء ذلك التراث العريق.
ولعلنا عندما ننطلق إلى دور الرقيب الذي تحدث عنه الأستاذ عبدالله عبدالجبار فإننا نلامس حقيقة الداء الذي اكتوت به المجتمعات العربية من ممارسة الحجر على الانتاج الثقافي والأدبي والذي ما برحت المجتمعات العربية قاطبة تعيش في ظله، يقول الأستاذ عبدالله عبدالجبار: (لا أقصد بالرقيب هنا ذلك الموظف الرسمي الذي تعينه الحكومية ليشرف على المطبوعات يمنع ما يمنع ويجيز ما يجيز، لا أقصد هذا الموظف وحده، وإنما أقصد سلطان الجمود وسلطان العسف وسلطان الرجعية الذي يعتبر ذلك الموظف مثالاً بسيطاً لها، بل كثيراً ما كان هو الآخر ضحية لها (ص 199).
لعل اختيار العوامل المؤثرة في الأدب كما رآها الأستاذ عبدالجبار تؤكد شرارة التنوير الكامنة في فكر الكاتب، إذ إنه في كل محور من هذه المحاور يدفعنا دفعاً إلى التأمل في ظرفنا الراهن ويحاول أن يستحثنا إلى الارتقاء على كل محور من هذه المحاور، ولئن بدا أن جل ما قدمه الأستاذ عبدالجبار عبارة عن سرد لوقائع وأحداث تاريخية فإن قيمة الكتاب تكمن في كونه مصدراً مهما من مصادر التاريخ الثقافي والاجتماعي في بلادنا.
وبالاضافة الى هذه القيمة التوثيقية لمرحلة مهمة في عمر الجزيرة العربية فإن الكتاب يستحثنا أيضاً على التأمل والتدبر والنقد والتحول من التقليدي إلى الحديث ومن الجامد إلى المتحرك وفي ذلك تكمن بذور ثقافة التغيير في فكر الأستاذ عبدالله عبدالجبار وما أشبه الأمس باليوم!!
الصفحة الرئيسة
شعر
فضاءات
نصوص
تشكيل
كتب
مداخلات
الملف
الثالثة
اوراق
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved