الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 03th January,2005 العدد : 90

الأثنين 22 ,ذو القعدة 1425

تأملات في كتاب (حكاية الحداثة) للغذامي
عندما يتحول المشروع الثقافي إلى أزمة «2»
سهام القحطاني

لماذا رفض المجتمع السعودي الحداثة ك(فكر)؟
وهل كل تعديل في البنية التحتية يرتب تعديلات في البنية الفوقية؟ وفق المبدأ الماركسي، طوال فترة قراءة كتاب حكاية الحداثة كنت أبحث عن إجابة السؤال الأول من خلال إجابة السؤال الثاني، وهذا يجل لنا أسباب المشكلة، إذا أخذنا في الاعتبار أن من خصائص البنية، وجود وعي بشري سابق.
التجديد مجموعة أفكار والقديم مجموعة أفكار، فالصراع هنا بين الأفكار، لكن الأفكار لا تتحرك مجردة من علاقاتها التي تمنحها طاقة المقاومة (الأشخاص والأشياء) مكون النسق ومنفذها، أي مجموعة النظم التي تتكون من خلال الحراك الرأسي أي حركة المستوى الاجتماعي والاقتصادي للأفراد.
في الجزء السابق من هذا الموضوع أشرت إلى أهمية تحويل ظواهر المجتمع إلى أفكار ثم مناقشتها كونها أفكار تندمج مع علائق مختلفة هي التي تكون مقاييس الأنسقة المختلفة فسلطة الايديولوجية والمنطق والعلم والتقنية والاقتصاد وخصوصية المجتمع جميعها علاقات تتصل بالأفكار المكونة للنسق، وهذا ما أشار اليه أستاذنا الغذامي عند تحليل تراجع كل من الدكتور باقادر والشيباني وتنباك بقوله (.. سندرك أن الإحجام هنا يعود إلى قراءة كل واحد من هؤلاء للظاهرة الاجتماعية، واعتقاده بعدم استيعابها لقبول أسئلة بحثية يرى كل واحد هنا أنها أسئلة شائكة ومحرجة، وبما أنها شائكة فإن ضررها الشخصي والاجتماعي أكبر من نفعها، وستكون الحكمة هنا هي في ترك ما يريبنا إلى ما لا يريبنا) 20
إن الظاهرة الاجتماعية تمارس إلزامية على المجتمع ورغم إلزاميتها فهي تتصف بالجاذبية وفق رؤية دوركايم ، لذا تستطيع أن تمارس سلطة السيطرة على أفعال الإنسان وقراراته بطريقة غير شعورية من خلال النماذج المختزلة التي تتهيكل داخلنا بواسطة (الاستدخال) كتقنية تربوية في عملية تنشئته الاجتماعية، لكل معطيات المجتمع ومعاييره التي تتحول إلى جزء من تهيكله التربوي, وهكذا يصبح عاجزا عن استقبال ما يخالف معايير ذلك ويصبح الاستدخال آلة تنفيذ لما يحتويه من معطيات مختزنة، وهنا يجعل عملية التغير تبدو صعبة، لأنك سوف تمارس تعديلا واعيا مقصودا لمنهجية الاستدخال كتقنية تربوية، أي أن التعامل مع أي ظاهرة اجتماعية كتثبيت أو طرد، هو أمر يحتاج إلى تعديل في أنظمة الاستدخال ذاتها التي تهيكل التنشئة الاجتماعية لأفراد المجتمع.
لذا كلما اقتربت علاقات الفكرة الجديدة بالأفكار القديمة وبالخارطة الإدراكية للأشخاص كونهم منفذي السلطة، والاشياء كونها فعل مساعد، نجح المشروع النهضوي أو هكذا أظن .
إن الأزمة الحقيقية للمشروع الحدثوي الذي تزعمه أستاذنا الغذامي كما أعتقد إضافة إلى طبيعة المجتمع السعودي، هي تقاطع الرؤى بين الخطاب الديني الذي يمثل المجتمع والخطاب الثقافي الذي مثلته الحداثة، من خلال الخلط بين الثوابت والمتحولات، وهذا الخلط يتحمل نتيجته أستاذنا الدكتور الغذامي في المقام الأول.
لأنه أراد أن يزرع نموذج التجديد في الثقافة السعودية، وفق مفهومه الخاص مع عدم مراعاة للخارطة الإدراكية للمجتمع وخصوصية النموذج المختزل الذي يفهم أن التجديد الفكري هو إلغاء لخصوصية الثابت الراسخ.
فضبط توقعات العقل الاجتماعي لا يتم إلا من خلال فهم العقل التاريخي له، وهذا خطأ، أقصد إغفال عملية الضبط عادة ما يقع فيه المصلحون الذين يسعون إلى زراعة النموذج الفكري الجديد بمنحى عن تفكيك النموذج الاختزالي، فنموذج الحداثة الذي أراد أن يزرعه الغذامي في البيئة السعودية بمنحى أو تجاهل عن رسوخية النموذج المختزل، تصادم أول الأمر من حيث النسق اللغوي لمصطلح الحداثة، فهناك تقاطع بين مفهوم الفرد (الغذامي) والغيرية (المعارض)، فالغذامي يقطع المصطلح عن مسقط رأسه بكل أبعاده الإيديولوجية الذي تخصب في رحمها وولد وترعرع أقصد البيئة العلمانية والليبرالية والوجودية الغربية،( فما أعتقده أنا وأفهمه.. ليس بالضرورة أن يعتقده غيري ويفهمه) تلكم هي فرضية أزمة أي مشروع ثقافي فالحداثة كما يفهمها المعارض للمشروع الثقافي للغذامي تعني (.. نتيجة لانعدام اليقين والتحديد المطلق، الفن الوحيد الذي يصلح لانهيار العقل ولما أصاب المدنية من دمار إبان الحرب العالمية الأولى، الفن الوحيد الذي يلائم هذا العالم الذي غيّر، وفسره تفسيرا جديدا كل من داروين وماركس وفرويد، إنه فن الرأسمالية.. هو فن تعرض الوجود للامعقول ولانعدام المعنى.. الفن الذي جاء بعد القضاء على الحقائق العامة المشتركة وعلى أفكارنا التقليدية عن العلية.. وبعد ظهور الفوضى التي حلت إثر تكذيب المفاهيم العامة للغة وإثر تحول الحقائق الموضوعة جميعا إلى مجرد تخيلات شخصية) الوهم ومحاور الرؤية د. منصور الحازمي وهذا ما جعل الدكتور الحازمي ينعت المناهج النقدية الحدثوية بأنها (خيانة وطنية) 37
إذن هكذا فهم المعارض للحداثة، فهم أنها انعدام اليقين والمطلق، فهم أنها محصول العبثية والماركسية والوجودية، فهم أنها تكسير لكل الثوابت من دين ولغة وتراث، وهذا التكسير يعني تفكيك للحقائق الرسوخية، وهذا يعني إلغاء القاعدة الكلاسيكية للحقيقية كونها قاعدة رسوخية، وتحويلها لتجريب ثم صياغة ظرفية غير مستقرة وهذا يتعارض مع الفكر الأصولي.
أما الغذامي فتعني له (التجديد الواعي) أي الإبداع كما فهمها كثير من رواد الحداثة في الوطن العربي، وهذا التقاطع المصطلحي أول أسباب الأزمة ليس بين الحداثيين والمعارضين، بل بين أصحاب المعسكر الحداثي أنفسهم.
إن ما يقصده الغذامي من تعريف الحداثة أنها (تجديد للوعي) يعني أن جوهر التطور هو إيجاد اتفاقية فاعلة بين المتغير والثابت نحو خطية خاصة للإبداع، وليس إلغاء للثابت. وهذا ما لم يفهمه معارضو الغذامي.
إن الغذامي عندما أراد أن يزرع مفهومه للحداثة في المجتمع، لم يحاول أحد من معارضيه استيعاب تجاوزه للمفهوم الأصلي للحداثة، لو عملية الاستيعاب تلك قد حدثت، لكفت الغذامي الكثير من الصراعات، ولأثمرت محصولا نهضويا ملموسا.
إن مقاومة الحداثة (كدلالة فكرية غربية) مركزة، من قبل السلطة الدينية للمجتمع السعودي أيضا لها مبرراتها التي تستند على رفض ما تسعى إليه الحداثة، من إلغاء الثوابت من دين ولغة وتراث وإعلان لموت الإله وفق الفكرة الأصلية لها وظروف نشأتها، فالفكر الأوروبي الحديث (يظل مركزيا أوروبيا إلى حد بعيد، بمعنى أنه موجه نحو توسعة المستمر باتجاه الهيمنة، ولا يهتم إطلاقا بالشروط الإنسانية لاندماجه داخل الأوساط الثقافية والتاريخية الأخرى التي تستحق أن تؤخذ بعين الاعتبار من حيث قيمها وإيقاع تطورها،) محمد أركون / ترجمة هاشم صالح هذا الأمر قد يقدم لنا تفسيرا للمعارضة التي اعتمدها الدكتور عوض القرني في كتابه (الحداثة في ميزان الإسلام) المعارضة التي تنطلق من مفهومها الغربي المركز، لا المفهوم المعدل الذي نظر إليه أستاذنا الغذامي (كتجديد للوعي)، لكنه لا يشفع لجدلية الرفض.
إن المفهوم الخاص الذي سنه الغذامي لنفسه وسار على منهجه كون (الحداثة هي التجديد الواعي) ص 38 وهو الذي فرضه كنموذج تجديد بعيدا عن تفكيك البنية الذهنية الفوقية للعقل الاجتماعي (الفكر)، والبنية السوسيولوجية التحتية للمجتمع السعودي (الواقع)، وهذا يعني أنه لم يراع خصوصية الفكر الراديكالي والبدوي والمحافظ للمجتمع السعودي، وهذه نقطة أولية هامة أقصد التقاطع المصطلحي لمفهوم الحداثة ما بين الغذامي والطرف المضاد،( العقل الجمعي) المصدر الأول لكل ما هو في المجتمع من ظواهر اجتماعية وقيم وقوانين، يتمسك بها الأفراد وهو المسيطر على الإنتاج الفعلي والفكري لمواقفهم وقراراتهم كما يذهب دوركايم
وخطورة (نتاج) العقل الجمعي تحوله إلى تصور جمعي وهو في أصله (عاطفة) أي أنه لا يستند إلى عقلانية الاختيار، وهذه العاطفة يشترك فيها أفراد الجماعة، وهكذا يخرج الحكم من عقلانيته، ومن ثم يصبح تغيره أمرا غير يسير، كما أن التمسك بالتصور الجمعي الموجود يمنح المرء إحساسا بالأمان والطمأنينة، أو كما قال أستاذنا الغذامي (.. على أن الصفة الجذرية في الثقافات المحافظة هي في تغليب السكون وإيثاره، والسكون يعطي راحة واستقرارا وتسليما فطريا، يجعل المجتمع أكثر إحساسا بالطمأنينة، وهي طمأنينة ليس من السهل التفريط بها) ص 30
فالإنسان الفرد هنا مساهم في التفكير فيما فكر فيه الآخرون من قبله وهو بذلك يرث طرزا من الفكر تتلاءم مع المواقف الاجتماعية كما حدث (للدكتور الضبيب) في عدم تكرار ظاهرة (طه حسين)، فالنموذج الاختزالي هنا وإن بدا لنا نموذجا سكونيا إلا أنه يعبر عن رفض الكامن والاكتفاء برصد القائم، وبذلك (فهو يسقط في مزاج سكوني رجعي) كما يقول الدكتور عبدالوهاب المسيري، وكما يقول أستاذنا الغذامي (فقراءته لردة فعل المجتمع كانت قراءة صحيحة وإحالته إلى مجتمعنا كانت عن إدراك لحقائق هذا المجتمع) حكاية الحداثة ص 24 أي التوافق حسب الخارطة الإدراكية للتصور الجمعي، وهي نتاج بنية التصور التي ينظمها العقل الجمعي من خلال العلاقات والتفاصيل والأحداث والوقائع، وهو أثناء هذا التنظيم يحذف ما تتنافى معه ويبقى ما يتفق معه، مرتبا إياها وفق أنسقة مخصوصة مترابطة ومتماثلة بين الموجود وعناصر الواقع، وكل ذلك يتم بطريقة غير واعية، وهي بذلك تحدد للمرء معاييره ومعطياته ومقاييسه العقلية والوجدانية التي من خلالها قبوله أو رفضه. باعتبار أن المعرفة تؤدلج أي النظرة الكلية الإجمالية إلى الأشياء في عصر من العصور وفق الأوضاع الاجتماعية لكل جماعة إنسانية تعيش داخل منظومة خاصة من الأفكار والآراء، يسميها كارل مانهايم (طرز التفكير).
إلا أن هذه الطرز لها قدرة التطوير والتعميق من خلال التجربة الحياتية الخاصة للأفراد هذا في حالة المجتمع المستقر، أما إذا انتقلت صفة الاستقرار كما كان هو الأمر في المجتمع السعودي، نتيجة الحراك الاجتماعي، بناء على فعل التوطين ثم الهجرة وأخيرا الطفرة، في هذه الحالة تتداخل مفاهيم الأفكار وتتصارع طرز تفكيرها، (وهذا الأمر سأتطرق له في جزء آخر).
وقد تكون الخارطة الإدراكية للفرد، سطحية وأفقية الرؤية إذا اعتمد الفرد على (موقف موضوعي مادي) تلقي المعلومات وفق النظام الاتباعي، أي دون تفكيك مضمونها وإعادة تفسيرها وهكذا يعتقل الفرد بقيود المفاهيم الاختزالية السابقة التي تدعمها السلطة (القوة) بمؤسساتها المختلفة، وقد تكون الخارطة الإدراكية مركبة فيعمد الفرد على (موقف تفسيري) د. عبدالوهاب المسيري وهو بذلك يستوعب كل المتناقضات والمستجدات متمردا على مفاهيمها الاختزالية.
تظل كل النظريات والحركات الفكرية ذات بعد منظور، باعتبار أن ما نؤمن به من نسب هي عبارة عن تأويلات أسقطناها على معرفة الأشياء وهكذا تظل الدلالات رهينة السلطة الدين فالسلطة هي من تخلق التأويلات، وهكذا نجد أن المعرفة أو الحقيقة هي نتاج السلطة، والتغير يجب أن يبدأ من تفكيك بنية هذه السلطة حتى الغذامي يعترف بذلك في قوله (.. إن التغير لا يمكن له أن ينشأ من فراغ، بل هو ناتج عن وعي بالأصول، وهو تجديد واع والتجديد لا يتم من دون وعي الأصل والعرف) حكاية الحداثة ص 77
وهذا يعني أن أي مشروع حدثوي يجب ألا ينفصل في تركيبه كخطاب نهضوي عن سالفه إلا بقدر الممكن الذي لا يزعزع أو يكسر البنية في كلياتها، فعملية الطرد ها هنا للمتغير لا الثابت، مع إيماننا أن الفكر (كبنية متكاملة توجد في سياق أفكار أخرى وفي سياق الممارسات التي يقوم بها حاملو هذا الفكر، وهي بنية مماثلة لبنى اجتماعية واقتصادية وأخلاقية سائدة في المجتمع) د. عبدالوهاب المسيري .
إن الرؤية نحو الأشياء تظل مسورة بسقفية إنتاج معلومة الكمية، التي تسيطر عليها الثقافة السائدة، ويحددها المستقر الثابت من تآلفنا مع الأشياء المتعارفة، فوعي الأفراد يظل عادة أقصر من استيعاب عمق لذة الأثر الرجعي للتجربة الجديدة وأقرب إلى العادة المألوفة.. إذا لم تثقف بالوعي اللازم للتطوير، وهذه الثقافة تظل هي القادرة على منح الأفراد الإدراك الكافي لاستيعاب ضرورة التغير وتأسيس الاستجابات الملائمة للاستفادة من فعل التغير.
إن الرؤية العامة للتطور يعني أن ترى الأشياء من خلال وجوهها وأبعادها وأشكالها وأنساقها المختلفة من جهات وانعكاسات مختلفة، ودون ذلك سيظل المرء معلقا بقدسية النص النقلي محاربا التجديد الفكري الذي قد يتعرض لتلك القدسية.
لأن الجماعة الإنسانية عادة تميل نحو رغبة فهم الأشياء البسيطة ذات البعد الأحادي المسيج المساحة، البعيد عن التجريد، لذا فتنفيذ الأفكار التطويرية العظيمة يظل أمرا شاقا.
الصفحة الرئيسة
شعر
فضاءات
نصوص
تشكيل
كتب
مداخلات
الملف
الثالثة
اوراق
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved