الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 03th January,2005 العدد : 90

الأثنين 22 ,ذو القعدة 1425

النقد والاعتداء
د. أحمد برقاوي

النقد معرفة؛ فنقد الواقع معرفة به، وأمل في واقع آخر. ونقد المعرفة إما امتحان أو دفع وإغناء لها.
لا شيء خارج النقد؛ الأفكار والوقائع. والمعرفة التي لا تخضع للنقد ليست هي كذلك. المفكر الذي يرى نفسه خارج عملية النقد مفكر استبدادي.
بل قل: إن حرية النقد هي الآن من أهم المعايير التي نقيس بها درجة حضور الحرية في المجتمع، ومستوى حضارة الإنسان.
وليست وظيفة النقد محصورة في هذه الجوانب التي ذكرت، إنما تستطيل لتشمل الكشف عن الثراء في نص ما، وتقويم درجة الإبداع فيه. وهذه واحدة من مهمات النقد الأدبي. وأرقى أشكال النقد هي تلك التي تنطلق من الاختلاف المؤسس على نظرة إلى العالم، أو على منهج يُعتقد بسلامته في الوصول إلى المعرفة.
فما زلنا نعيش على ثراء نقد الغزالي للفلسفة، ونقد ابن رشد للغزالي، وكم هي غنية أعمال ماركس في نقد هيغل، وليرجع القارئ إلى الاختلاف بين الوجودية والماركسية (راجع مثلاً كتاب نقد العقل الجدلي لسارتر، وكتاب وجودية أم ماركسية للوكاتش).
فالنقد إذن يتخذ هذا النمط من المعرفة، فإنه يحول الاختلاف إلى إثراء للمعرفة الإنسانية.
غير أن بعض الكتبة في عالمنا العربي لا يميزون بين النقد والاعتداء؛ إذ تنتشر في الآونة الأخيرة ظاهرة الاعتداء على المفكرين والأدباء والشعراء الكبار، سواء على صفحات الجرائد والمجلات أو من على شاشات التلفزيونات.
اعتداء يأتي من قِبَل عقول متوسطة الذكاء، تملك قدراً كبيراً من التهور، وتطلق كماً هائلاً من الشتائم.
وإنك لتندهش دهشة كبيرة وأنت تقرأ في بعض المجلات الليبرالية زوايا مذيَّلة بأسماء تحتاج إلى مجهر كي تراها في الواقع.
وإنني لأتفهم حجم الفرح الذي ينتاب هؤلاء متوسطي العقول وهم يرون أسماءهم في ذيل ما يكتبون، وأدرك دوافعهم الساذجة فيما يقدمون عليه من اعتداء على رموز الثقافة العربية، وأعرف حمق القلم المأجور أو التابع.
وعلى أية حال، ليست هذه الظاهرة بجديدة في عالم الثقافة عموماً، ولكنها إذ تغدو بهذا الاتساع والانتشار الكبيرين فإن الأمر يُؤخذ بوصفه معلماً من معالم انحطاط العقل المتوسط.
ترى ألا من تفسير لهذه الظاهرة؟
أعتقد أولاً أن الاعتداء على المبدعين نزوع أصيل لدى صنف من المثقفين تعوزهم القدرة على احتلال مكانة ما في عالم الفكر والأدب، فتراهم يتوسلون الشهرة عبر الاعتداء الساذج على هذا الروائي أو ذاك المفكر.
إنهم يشعرون بعدم انتمائهم إلى العامة من الناس من جهة، ويعرفون أن ليس بمقدورهم الارتفاع إلى مستوى النخبة المبدعة من جهة أخرى. وهم بهذا يعيشون قلقاً غير أصيل؛ إذ ذاك يتوهمون أن تحررهم من قلق كهذا لا يتم إلا عبر الاعتداء لا على نص المفكر أو الأديب فحسب، وإنما على الشخص بالذات، فيشهرون سيفاً خشبياً، ويعملون ضرباً عشوائياً، فيظهرون نفوساً قُدَّت من حقد دفين، وغَيرة قروية، وحسد قاتل، ناهيك عن جهلهم الفاقع.
إنهم يرتمون غرقى فيما سماه هيدجر (عالم اللغو)، متمردين على عالمهم الخاص والفردي. فليست اعتداءاتهم إذن إلا الاحتجاج على وضعهم الأدنى، وتزداد عدوانيتهم عندما لا ينالون من منقودهم رداً؛ إذ ليس من شيمة المفكر والأديب الانخراط في عالم اللغو، لكنهم سرعان ما يحولون الترفع عن الرد من قِبَل المنقود نرجسية منه، متناسين أو غير مدركين أن الرد هو موقف من قضية، من فكرة، من منهج، وعندما يخلو النقد الموجه من قِبَلهم من كل هذه الأمور فلن يعثر المنقود على موضوع يشغله.
فإن هاجم ناقد أدبي (عالم في الأدب) الشعر الحر انطلاقاً من انحيازه إلى الشعر القديم أو الشعر المقيد ببحور الشعر الكلاسيكية، مظهراً ما يراه من غرابة، ويعتقد خلو الموسيقى في الشعر الحر، فإن ناقداً آخر انطلاقاً من تقديره لقيمة الشعر الحر قادر على أن يقدم نصاً نقدياً مضاداً. نحن هنا أمام موقفين مختلفين من موضوع واحد هو الشعر.
ما الذي تقوله لشخص ينهال على روائي أو مفكر بالضرب والشتم بلغة سوقية، وأنت لا تدري أصلاًً لماذا؟
وبعدُ، لا يحسبنَّ أحد من القراء أنَّا نطالب هذا الصنف من المعتدين بالكف عن الكتابة واللغو، فليس هذا من حقنا أبداً، كما أنا لا نرجو من الصحف والمجلات أن تغلق الباب أمامهم وتلغي بريد القراء؛ لأننا في حالة كهذه نزيد من بؤسهم وشعورهم بالإحباط والاغتراب، والشفقة بهم لا تسمح لنا بمثل هذا المطلب. ومن غير المعقول أن نخضع مثلهم للتسفيه؛ لأن ذلك يشغلنا عما هو جدير بالجهد. بل إني لأعتقد صادقاً أن وجود كتَّاب اللغو والاعتداء أمر مرغوب فيه أحياناً؛ ذلك أنهم يقدمون للمثقفين مادة للتسلية وتعاطي المزاح والفكاهة والنكتة، وهي حالات تحرِّرهم من حالة الجد المرهق، وخاصة في جلساتهم الخاصة، أو في المقاهي العامة، أو حول مائدة الطعام.
الصفحة الرئيسة
شعر
فضاءات
نصوص
تشكيل
كتب
مداخلات
الملف
الثالثة
اوراق
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved