الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 03th January,2005 العدد : 90

الأثنين 22 ,ذو القعدة 1425

قصة قصيرة
اشتعال الماء
فهد أحمد المصبح
مدخل
من الماضي تهب الذكريات
راكضة إلى دهاليز النفس
السماء تمطر، والصباح يمد بساطه بصعوبة على جسد الأرض المنكمش.. رجلاي تبحثان عن دثار، وأنا أهذي بالصمت، وأتسلل بأذني إلى الجالسين في دارنا يرتشفون القهوة بصوت يحفزني على ممارسة شيء كنت أشتهيه قبل حلول العيد.. التمرات الباردة تعالج نواتها أصابع الرجال، ثم تلوكها ممزوجة بالقهوة المرة، كنت وقتها غير مستعد لعمل أي شيء سوى الإنصات لحديثهم الذي تأخر.. لا أسمع إلا همهمات البداية وصراع الأفواه مع برودة الطقس المفعم بالهيل، ثم جاء الكلام متقطعا ازداد وضوحا من خالي وهو يقول:
فهيد لا بد يروح العمل.
رد أبي منتشياً ودلة الرسلان تثقل يده:
فهيد عند وجهك.
كانت الطاسة مملوءة بماء بارد لم يقربه أحد في هذا الصباح الشاتي.. اكتشفت أنني لم اكن وحدي من يتنصت على حديثهم، عندما لمحت جدتي تلتصق بالباب كأنها تعانقه، وفجأة قالت:
فهيد صغير على العمل.
أجابها والدي الذي لا يرفض طلبا لخالي:
خليه يروح علشان يصير رجال.
مكان العمل بعيد.
رحيمه.. بعد الدمام بشوي.
أخاف عليه.
لا تخافي معه خاله.
ثم حضرت السيارة التي لم تكن بحاجة إلى بوق يعلن عن وصولها، كانت الأيدي تمتد إلى داخلها تضع لوازم السفر، ثم أركبت مع ثلاثة يكبرونني سنا في حوضها المسيج بالحديد يغيطه شراع، وركب خالي في المقدمة إلى جوار رجل يدعى دواس لم أره من قبل.. ملأنا خالي حديثا عنه، فقد تزاملا في مهنة الجزارة.. في الطريق والسيارة تقطع بنا المسافة بين الأحساء ورحيمة مررنا بشركة الإسمنت فبقيق فمفرق الظهران تزودنا بالوقود ثم انعطفنا يسارا إلى الدمام لم نتوقف بها بل واصلنا السير إلى سيهات فعنك فالقطيف فالقديح فالعوامية فصفوى وقرى صغيرة مررنا بها ومحرك السيارة اللوري لا يكف عن الهدير.. كنت أتصنع النوم وأراقب الطريق من خلف عيوني المغمضة، لا ادري متى اختطفني النوم، رأيت فيه وجها عليه تجاعيد كخطي على دفتر الكتابة، ثم انتبهت على مدينة ساحلية صغيرة تجمع بين الريف والبادية، تنتشر فيها الصناديق والعشش ولها رائحة الجاز، كنت مسرورا بركوب السيارة التي لم أرها بعد ذلك حيث غصت في العمل المتواصل، كل صباح وقبل بزوغ الشمس تحضر الأبقار إلى المسلخ ويطلق عليه تسمية
المقصب ويطلق على العامل فيه القصاب بعد أن تحضر الأبقار لذبحها، نوزع اللحوم على الجزارين، ثم نعود مكدودين من التعب ملطخين بالدماء والأوساخ.. نستحم ثم ننام حتى الظهر وبعد الغداء نتسلم اللحم المتبقي نضعه في ثلاجة كبيرة أو نمر به على الحوانيت البعيدة وفي المغرب نشحذ عدة الذبح ونرتبها في حرزها، ونتعشى وبعد سمر يطول نادراً ننام على أصوات البقر، في الصباح ألبس ملابس العمل وآخذ العدة والأبياش لفرشها على اللحوم المسلوخة.. كان معنا هناك صبيان غير بارعين في العمل يساعدوننا في العمل والنقل ويتعمدون عدم الاتقان كي يرتاحوا من عناء السلخ، فالجلد يحرصون عليه من الثقب، وأنا أحس بكوع خال في جنبي كلما تقاعست أو أبديت مللا.. ذات مرة هرب ثور من الحظيرة اضطررنا إلى ملاحقته حتى تم الإمساك به بعد عناء وجهد وعندما ذبحناه نفضنا جميعا وظل يهز المكان بشدة إلى أن استراح بالموت.. بعد ما اكتظت ذاكرتي بأيام الغربة وحنين يفري كبدي على الأهل والأصدقاء، دس في جيبي حصيلة العمل من النقود، كانت ملابسي النظيفة تنتظر العودة، كنت مشتاقا لرؤية الأحساء أصحابي، وصوت جدتي يأتيني من بعيد يحذرني من اللعب مع الأولاد السيئين كنت أتعارك أحياناً مع أحدهم ينوي الشجار أو يفتعله، لكن خالي دائماً يقف لهم بالمرصاد فأترك صحبتهم ولا أجد إلا البقر أبثه همومي فأجده صامتا يزيد من حزني على ما ينتظره في الغد فأبدأ بمحادثته أو ربما محادثة نفسي:
ألا يمكن أن نحصل على اللحم دون ذبح؟
لو قمت بتهريب الأبقار أين
أخبئها؟
صارت الأبقار لا تفزع مني وتسلمني جسدها طائعة فيزيد ذلك من عذابي.. كل يوم أذهب بواحدة فلا تعود مرة أخرى.. عندما يسمع خالي حديثي عن البقر يبتسم ويقول:
البقر خلق لهذا.. اترك عنك هذه الأوهام واستعد للعمل ترى المدرسة قريبة ونعود إلى الأهل.
افرح وعندما أهم بالانصراف ينادي علي قائلا:
هل وجدت بقرة تذهب إلى المدرسة؟
لا أجيبه وأنا اقلب الرد داخلي فلا أجده إلا في المسلخ ذلك المكان البارد المبتل على الدوام ورائحة الدماء تفوح منه رغم تنظيفه يوميا، بعد أن يحاصرني الهم أهرب اليهم أشاهدهم في الحوش يعتلفون البرسيم بصمت، ذات مرة سمعت صوتا ما حسبته احد الأولاد يتعقبني، زحفت بحذر نحو مصدر الحركة، ووجدت نفسي فجأة أمام فتاة طويلة يكاد شعرها يلمس الأرض، كنت مقعيا تحت أقدامها وهي تساعدني على النهوض فاستجيب ولا أصل فتنحني أكثر حتى يغمرني نعومة صدرها أتحمس وأطوق عنقها فتستريح إلى جانبي على الأرض الباردة وأنفاسنا الحارة تملؤنا دفئا.. بعد أن أتمكن منها أجد خالي قائما على رأسي مستعدا لشيء تأصل فيه، وقبل أن أبادره بالقول المتعثر في حلقي يكون قد أكب على المسكينة وسفك دمها بسكين شحذتها بنفسي قبل النوم منامي.
تقفز إلى ذهني تحذيرات جدتي من تعاطي الذبح، وقبل أن تبدأ المدرسة أكون مستعدا لدرس الرسم الذي أفرغ فيه ما لم أقوم به.. ذات مرة طلب مني المدرس التعبير عما رسمته فرويت قصة رحيمة دون أن اذكر الفتاة التي لم أقطع بعد هل كانت في المنام أم في اليقظة، وحتى خالي الذي أصبح مسنا غير قادر على الحركة لم يفدني بشيء وذيلت الصورة في مخيلتي أمام العمر الذي كان يسير بسرعة دون أن اعرف وجهته وعندما أتصنع النوم أشاهد الحقيقة كاملة مع شعيرات بيض أخذت تزحف بي نحو الغروب وقدماي تتعثران في المقبرة.. بعد قراءة الفاتحة على الأموات اسمع حركة غريبة كانت تناديني أتقدم نحو الصوت اجدها هي كما رأيتها قبل ثلاثين سنة لم يتغير فيها شيء كانت تردد:
اليوم فقط رأيت الراحة التي اطلبها.
وقبل ان تلتصق بي فررت هاربا من قبضتها صرت اعدو وأنا أبسمل حتى خرجت من المقبرة لاصطدم بشخص فولاذي يحمل سكينا ويغيب في المقبرة كان ينادي على بقرة ضالة.. يشبه خالي في شبابه.. رجعت إلى العربة فلم أجد خالي فيها.
مخرج:
وهكذا كانت الحياة معنا
وهي تقابل تفتحنا الشقي باخذر
الصفحة الرئيسة
شعر
فضاءات
نصوص
تشكيل
كتب
مداخلات
الملف
الثالثة
اوراق
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved