الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السياراتالجزيرة
Monday 03th April,2006 العدد : 147

الأثنين 5 ,ربيع الاول 1427

الرواية والسياسة

*أحمد الدويحي:
هرب عبد الرحمن منيف في نهاية الستينيات، بعد ما احتشدت في رأسه كثير من الأسئلة، والاحتمالات، ومازالت هناك مياه كثيرة، تعبرُ من تحت الجسر فكانت الرواية، وفي المدى كان الشاعران الكبيران م/ الثبيتي وع/ الصيخان وأنا، نقرأ العناوين والوجوه، والعيون والأيدي تتخطف الكتب في الممرات، ومن جندوا أنفسهم في هذا الحشد حراسا للفضيلة، ولو كانت فضيلة منع المعرفة، يجعلك تصرخ بحدة في وجه أحدهم، وقد تقول أكثر وتسمع ما هو أعنف، كان/ عبد الله ثابتاً هناك يوقع كتابه الجديد، وكأنه معبأ بالريح، فصرخت برفيقي في هذا الزحام مازحاً:
- الإرهابي.. أهوه!
فأخذنا نضم بعضنا بعضا، ووجوه كثيرة ألمحها في ممرات الرُواد المعلقة أسماؤهم فوق الرؤوس، وهذا الجنوبي الكبير مجرد من كل شيء/ علي الدميني/ هكذا إلا من البهاء، ووجوه أخرى القشعمي ومعجب وعلي العمري وعواض العصيمي، وهذا الوجه العسيري ما زال يواصل الأسئلة، فسألته بلا سبب، هل قرأت: (داغستان بلدي) ل(رسول حمزة دوف)؟.، فقال: أحبه.
ضممت إلى صدري (الإرهابي20)، الجنين صاحب الغرة البيضاء، وغاية احتمالاتي معه متعة ما لا أعرف، وأن لا يأتي ما أعرف فجاً جاهزاً ومعلباً، ليحضر في ذاكرتي (أولفر تويست) طفل المجتمع الديني المسيحي لتشالز ديكنز، والطفل التركي (ميميدو الناحل) ليشار كمال، وتحلم النفس بحميمية عالم الراحل المبدع عبد العزيز مشري، وحساسية الفنان عنده، تجاه ثقافة غابات الأسمنت المسلح، حينما نبتت في (البلاد) ومسخت ثقافة الوطن وفي الجنوب يسمون القرية بالوطن، كنت في الوطن، التقيت أهل الوطن، أتيت من الوطن، ذاهبٌ إلى الوطن،. وأخذني النص إلى توصيف وسمات، تسمُ تراث وعادات وطبيعة إنسان الجنوب من كل الوجوه بحركة سردية، اقتضت التقديم والتدرج والتأخير والاستدراك لسيرة ذاتية لواقع معبأ اجتماعياً بالعنف والإرهاب، يعترف نيابة عنهم بتطرفهم الشعوري، فخشيت مطب (جعلوني مجرماً!) على طريقة أفلام السينما المصرية القديمة، وواصلت الأسئلة من قبل ومن بعد..
تضفي محطات التاريخ بعدا جديدا، ومعنى آخر لطفل موهوب، حركي وسري (زاهي الجبالي)، أنشق عن تلك الجماعة الناجية الوحيدة بعد (غزوة) المردان، فكان فكاكا صعبا مؤلما، ليتناهى بين ثنائية ثقافية ضدية حد البكاء، لا يدرك كنه لذتها وشقائها، إلا من وقع في أتون تجربة الإقصاء، وخيارات قاسية مست شبابا كثراً، نراهم في الواقع، ونعرف وجوها كثيرة منهم داخل النص، وأخرى حركية رمزية، لا تخطئ العين أفعالهم، لتمثل الصورة السردية نميمة الرمز، فيتصاعد معه الفعل والبناء، وزخرفة المكان باللغة الباذخة، وتواشيح لإرث جنوبي مفعم بالجمال والفن، ولنرى بتلك الثنائية الضدية، حدية الثنائية الثقافية والضدية المجتمعية، تفرز في غياب الحوار والشفافية، حالات من القلق والتوتر والاستلاب: (وبعد، كيف ستكون حياتهم، حياة أناسٍ يتآمر عليهم الفقر والكبرياء، الحب والعار، الطيبة والنقمة، اللين والقسوة، الريح والنسيم، الجبل والوادي، العصافير والصقور، الكرامة والمغامرة، تتآمر عليهم كل الأضداد في اليوم والليلة مرات ومرات)! ص18
وإذ لابد أن يحدث التصادم في داخل شخصية زاهي ويحدث في الواقع، يخرج من عباءة ثقافة الإقصاء والحشو والتلقين، فليس له من غير ذلك سبيل، والانحياز لحياة الجمال والموسيقى والأصدقاء، ليبكي من جديد بين يدي الأب الأكبر لجيل الحداثيين القدامى شعراء ونقاد ومفكرين، لم ينصف نفسه ولم ينصفه الآخرون، طويل بروح كلها جمال وميل للمرح والموسيقى، هذا الرمز الأسمر (ع. ن) هو عبد الله نور، وأسماء ثقافية محلية وعربية أخرى صريحة.
سيرة (زاهي الجبالي) هذه الشخصية المتناقضة والمليئة بالمتضادات، لا تشبه طفل الروائي الفلسطيني/ إبراهيم نصر الله، الطفل الذي يخرج من رحم أمه، ويعود إليه متى أراد (الطيور الجارحة)!. لكنها سيرة لا تختلف كثيراً في تفاصيل حالات الإقصاء والاستلاب عن سيرة: (رحلتي إلى النور - مالك الرحبي)، بطل لرواية من أدبيات تلك الجماعة، تعرف بقراءتها كيف يتخطف مثل هؤلاء الأطفال من أرحام أمهاتهم، قبل أن تتخطفهم السيارات والموت في الشوارع، وقد وقع في غواية، جعلته يرحل من مدينة إلى مدينة، ومن معسكر إلى آخر ويد لأخرى، هاربا من بيت أهله، ليستقر به المقام نهائيا في عنيزة، وليكتب تجربة ثمانية عشر عاما مذهلة، وبالأسماء الصريحة قبل أن يموت، ويبدو أن المشهد الروائي المحلي، ينبئ عن وعد بكثير من هوية هذه الأعمال الإبداعية المنتظرة، ونرى كثيرا من نماذجه، تثري جمود الواقع، وتضيء زوايا غموضه، وتحيك نسيجها الروائي من ثنائية هذا المشهد المتأزم/ أنا والآخر..!
تجربة (الإرهابي20)، يتحدث (زاهي الجبالي) عن نفسه، ويضفي نضجا وبعدا جديدا، لنص أدبي صادق ومجتهد بسلبياته وإيجابياته لم يسمّ، يكتب زاهي الشاعر والروائي الحالم، عن جمال الموسيقى والشعر وبلاهة القيود، ويراوح مسافة ما بين السياسة والفن، ويصبح سيرة على كل شفاه وكاتبا عالميا، يترجم إلى لغات حية عدة، وتأتي محررة مجلة النيويورك تايمز الأمريكية، تركب معه في جولة، تأخرت كثيرا حول المنطقة، فقد غابت المرآة قسرا من جسد الرواية، واختفت الفتاة العسيرية من جبال عسير ووديانها، فلو كان هناك بنات في مدارسها، لما انضم زاهي في البدء إلى تلك الجماعة الناجية، وحينها ينتفض جنوبيا قحا وفضا في داخلي، يستشعر الفن ولا يقر بالسياسة، فلا حاجة بي لزيادة إرهابي واحد، فأصدح في أذني زاهي بالشعر الذي أحبه، وجدف به هواءه يمنة ويسرى، وأقول له ما قال أمل دنقل في الجنوبي:
- لا
- فالجنوبي يا سيدي يشتهي أن يكون الذي لم يكنّه يشتهي أن يلاقي اثنتين.
الحقيقة - والأوجه الغائبة.


Aldwi7y1000@yahoo.com

الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
قضايا
تشكيل
ذاكرة
مداخلات
الثالثة
مراجعات
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved