الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السياراتالجزيرة
Monday 03th April,2006 العدد : 147

الأثنين 5 ,ربيع الاول 1427

طائر الشعر الجريح في صرخة شهادته السبعينية

* محمد حبيبي:
الشاعر: علي بن أحمد النعمي - التسامي لمن أراد التسامي - مطرٌ وردة وعود بشام:
كمن كان في إغماءة شعرية طويلة، صحا بعدها على وقع الحقيقة الجارحة، والحياة الواقعية المرة، التي اكتشف أنها ليست عابئة، لا بمردود الاحتراف الشعري، ولا بجدوى الاحتراق الإبداعي. صرخ الشاعر السبعيني - عقب، خمسة وخمسين عاماً، في رحاب الشعر، غناء للأرض والإنسان؛ عقب هذا العمر الإبداعي - مناجياً الحرف:
(فأفق يا قلب فالحرف الذي أعطيته
عمري
وأحلامي
وأحلى صبواتي
وتغنيت به
للأرض والإنسانِ
مزهواً بأشجى النغماتِ
وأرقّ الهمساتِ
لم يعد يعلم عني
بعد أن أعلنت الأهواء
ذات النظرة الجوفا كسادَه
وافق ثم افق يا قلب
فالحلم هوى والعمر شاخ...
وهل يدرك من قد جاوز السبعين
في معترك الأيام مجروحاً
مرادَه)
حينما تنطلق صرخة الشعر هكذا، شجية ذابحة من العمق، ندرك حينها أي رصاصات يطلقها الشاعر، وأي خذلان اكتشفه، وكأنما يكتشف للتو، عقب ذلك العمر الشعري، أن تلك المسيرة مع الحرف كانت وهماً.
وحينما لا يعود الشاعر يستشعر سوى (التغييب، والنكران، والإحباط والحزن والدمع)؛ فإن ذلك يوحي بألم الشاعر ضحية مفهوم: (الشعر صدى المجتمع)، قبل أن يكون صدى للذات.
كيف يحتمل هذا الكائن كل هذه العذابات:
(اعذروني بعد أن أسلمني
التغييب والنكران، والإحباط للحزن وللدمع
وغابت عن مساءات خيالاتي، وأطيافي
اللحون المستعادة)
وبعد أن استشعر في صورة غاية في تجسيد الخيبة من إنسان الزمن المتأخر:
(أتملّى في خطوط الطول والعرض
بألواحي
وشح القطر في شتى مناحينا
وما أقسى جفاف الأرض
كالأخلاق في الإنسان...)
إن هذه الصرخات لم تكن مناداة للقراء وإن كان كل مقطع يبتدئه الشاعر بعبارة:
(اعذروني أيها القراء)
إنها صرخاته لجلد ذاته بالحقيقة، التي كان يتهرب من مصادمة المجتمع بها، في رحلة طويلة من المداراة والمجاملة على حساب الذات. وضجره الذي لم يعد يحتمل شتات كتابته بين تيارين يقسمان نهره الشعري إلى جبهتين: شعر يستكتب من النعمي رغماً عنه ضريبة لمطالب قراء مجتمعه، القريبين.
وشعر أعمق هو الذي يكتب النعميَّ، ويستخرج مكنوناته، رغماً عن المجتمع، كلما خلا بذاته وصفاً لها.
إن قصيدة (صرخة الشهادة) الأخيرة، تأتي في تصوري في هرم قصائد النعمي الذاتية الثرية بوجدانها، وعواطفها، وهي مرآة يفجر بها فهم قرائه لذاته الشعرية، التي تغيب كلما جره المجتمع، بمعيارية الشاعر الغيري الذي عليه دائماً وأبداً أن يكون الانعكاس لمناسبات مجتمعه أولاً وثانياً وثالثاً. وما على هذا المجتمع أن يعبأ بذات الشاعر.
ظل علي النعمي يكتب تحت إلحاح وظيفة الشاعر في المجتمع، بأنفاس شعرية لا تجارى كماً، وحينما يقلب القارئ دواوينه الثمانية، يجد أن شعر المناسبات شغل حيزاً ليس بالبسيط، ويجد أنه الطريق الذي سلكه النعمي مضطراً، لكنه لم يستسلم له؛ فلطالما اخترق جاهزية منظوماتها بأبيات ذاتية تعكس حس الشاعر الحقيقي بداخله، وجوهرية شعريته، عندما تنفلت بها الأبيات المعبرة عن عمقه فيما يشبه الشذرات الكاوية بحكمة الذات المجربة، التي استعصت على الرضوخ لأسر قصيدة المناسبة. التي ليس نادرها ذلك البيت الذي تصدر هذه الورقة.
وخارج قصيدة المناسبة تفوح معظم أوراق دواوين الشاعر القدير علي النعمي الثمانية بذلك الشعر الذي تنبعث منه رائحة تعالق ذاته الخاصة بتراب الأرض وعطور نباتاتها، والتصاق أناسيها بحقولهم، وأغانيهم لها.
ما بين أشجار الأراكِ تناثرت
أحلام قلبي في الصباح الناعم
***
أيتها الزهرة بثي الشذا
حولي، وحول الناس في كل آن
بثيه يحيا الحب.. تحيا الرؤى
تحيا انطلاقات الهوى والحنان
تصحو عيون الشوق من نومها
تخضلّ بالنور لحاظ الحسان
بثيه ترتاح النفوس التي
أرهقها عيش الأسى والهوان
***
يا حلوة العينين مري كما
بالأمس مثل النسمة الحالية
مرّي كما كنت، وكان الهوى
يخضلّ في وجنتك الزاهية
مرّي فبي شوقّ لدفق الرؤى
وللنجاوى العذبة الحالية
عيناك - يا هيفاء - ما زلتا
أشهى إلى قلبي من العافية
زرع مجتمع التلقي المباشر من حول النعمي تصور الشعراء القدامى عن بواعث الشعر الخفية، الجني - الشيطان الشعري الملهم، لذلك هنا قد رثاه في رمزية لكل ما من شأنه سلب تقدير ذاته الشعرية، فندب غيابه في هذه القصيدة قائلاً:
(لم يعد يا شعر (عطّاف) يوافيني، كما كان، بأنفاس الربا...)
وعطاف هو ما تخيله النعمي ملهماً شعرياً لعدة عقود، ولم يعد يوافيه، ظناً منه أنه قد غاب منذ زمن، كما هو الحال في هذه القصيدة، التي لم يكتبها بمعايير (استجادة المجتمع لحسن تصوير المناسبة) والذي زرع احتفاؤه الكبير بقصائده (عطافاً) في ذهنية احتفائية؛ ليستهلك به جزءاً من طاقته الشعرية في الضجيج القوي في وقتها، وغير الثري بفنيته. الأمر الذي يجعله لدى دارس شعره الباحث عن ثرائه الفني، لا يمثل سوى وثائق تاريخية، تتخللها شذرات شعرية متأثرة هنا وهناك. مقابل تلك الروائع التي صَبَّ فيها ذاته المتأنقة شعرياً، كلما أحست باحتراق، وشجن وطرب وحزن لموقف يعتصر ذاته من الداخل، فتبرز شعرية النعمي الحقيقية الخالدة. التي تمنحه بكل جدارة لقبه الأعمق المستحق (شاعر الأرض).
علي النعمي من الشعراء القلائل الذين حققوا مفهوم الاحتراف الشعري، ومن الشعراء الذين لم يكتبوا الشعر بوصفه (هواية) في وقت فراغ ما، وإنما بمفهوم من كرس حياته للشعر، وقراءة، وكتابة.
ولذلك فهذه القصيدة (صرخة الشهادة) هي صرخة استشهاد لاحتراق الذات بمناسبات مجتمع اكتشف النعمي (أخيراً) مدى تنكره له، وخلوص وتركيز يلفت به النظر إلى شعره الذاتي. وليس أقل أهمية من هذه الصرخة الشعرية، صرخته الشعرية السابقة بقصيدته المطولة، التي كتب فيها سيرته الذاتية شعرياً مختاراً لها اسماً جميلاً هو (طائر الشعر الجريح).
حتى على صعيد الشكل، فلئن اتخذت قصيدة صرخة الشكل التفعيلين وجاءت قصيرة في نفسها الشعري قياساً بمطولاته، فإن قصيدة (الطائر الجريح) جاءت على بحر شعري ليس بالسهل في شعرنا المعاصر (بحر الطويل) وبقافية وروي صعبين للغاية، قافية رويها حرف (الواو) (أحوى، أهوى، نجوى) ومع ذلك جسد بها حياته فيما يربو على المائتي بيت، مما يشير ولو من حيث إلى مقدار ثراء شعرية النعمي كلما التصق شعره بذاته.
أخيراً، هل يعلم قراء هذا الملحق بهذه الصحيفة، أن علي النعمي، أول شاعر سعودي يحقق ميدالية ذهبية بمشاركة شعرية خارجية، وأنه كان من رواد الصحافة بالمنطقة الوسطى في الثمانينيات، وأنه كان يخط مواد هذه الصحيفة (صحيفة الجزيرة)، بخط يديه، بجوار سعادة الأستاذ المالك؟
أي حرقة تكتنف الشاعر القدير الآن بسبعينيته، وهو لم ير مقالة تكريم واحدة، تنصف، ولو، دوره في النهوض بالصحيفة، ناهيك عن عدد تكريم يجدر بتاريخه الشعري؟ هذه المفارقة، ليست الوحيدة بحياة النعمي، ومسيرته الإبداعية والصحفية والاجتماعية. فمن آخر المفارقات أن آخر قصائده المنشورة هنا قبل شهرين، قصيدة سبق نشرها ب(الجزيرة) قبل أكثر من (أربعين) عاماً، حيث كتبها آنذاك في ممرضة، حينما كان راقداً بالمستشفى، ولما أعيد نشر القصيدة مؤخراً، كان أيضاً راقداً بالمستشفى منذ شهر، ولم يجد من يجلب الصحيفة ليقرأها، ليطلق بعدها من بين جدران غرفته بالمستشفى قصيدته الأخيرة (صرخة الشهادة).
الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
قضايا
تشكيل
ذاكرة
مداخلات
الثالثة
مراجعات
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved