الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السياراتالجزيرة
Monday 03th April,2006 العدد : 147

الأثنين 5 ,ربيع الاول 1427

مأساة الليبرالية الجديدة (1)

*فاضل الربيعي:
(بريطانيا العظمى حررتنا من الاستبداد.. والأمل كل الأمل أن تحررنا من الجهل) ...جميل صدقي الزهاوي 1906
***
عام 1906 وحيث تعالى، خارج أسوار النجف، ضجيج المستشرقين الأوائل الغاضبين من سلوك العثمانيين، حيال رغبات (النصارى الغربيين) في التشبّع من عالم الرؤى الإسلامية الساحرة، كان هناك ضجيج من نوع آخر يتعالى في سماء العراق كله
كانت أفكار الحداثة والإصلاح والحرية تتدفق من كل صوب، لتجعل من الشكاوى المرة المبطنة والمعلنة بسبب (تزمت الشرقيين الديني) و(حجاب نسائهم) مادة من المواد الحارقة التي استخدمها الاستشراق الكلاسيكي في الصراع الدائر ضد العثمانيين.
قد تكون عبارة الزهاوي الآنفة بروح الحماسة الهوجاء التي تطبعها، هي التلخيص الأفضل والأدق لفكرة أن النخبة الفكرية والثقافية في العراق، ومنذ نهاية القرن الثامن عشر، عاشت باستغراق تام في قلب الوهم عن نفسها وعن العالم، وذلك عندما تخيلت أن التزاحم بالمناكب من حول المنطقة العربية، هو في حقيقته تزاحم أو تنافس وتسابق محموم حول مواضيع التحديث والحرية وقيم الليبرالية التي بشَّر بها الغرب.
لم يكن الغرب لصوصياً في نظر النخبة العراقية، والاستشراق - في كتاباتها المفتونة بالغرب - كان يبدو، أبعد بكثير من مجرد كونه مسألة تستحق الانتباه، وخصوصاً في إلحاحه على الصور الشيقة والرومانسية للشرق برمته.
كان النزاع مع رجل أوروبا المريض، تركيا العثمانية الإسلامية، منظوراً إليه من هذه الزاوية وحسب، محض تعبير عنيف وحسب عن صراع محتوم بين قيم التحديث والإصلاح التي هبّت عبر المحيط من جهة، وبين التخلف ومقاومة المدنية من جهة أخرى.
بكلامٍ ثانٍ، نظرت النخب العراقية إلى مجمل هذه القضايا، وإلى الصراع بين تركيا الاستبدادية والغرب الليبرالي على أنه تنازع مميت بين الحرية والاستبداد وقد دقت ساعته وحان وقته تماماً.
بيد أن ما تمناه الزهاوي وهو يشدد على أن بريطانيا أنجزت مهمتها عندما حررت العراقيين، أي عندما قامت باحتلال بلادهم، وأن كل ما تبقى أمامها إنما هو القيام بتمدينهم وتهذيبهم وتعليمهم فقط (وبالتالي ليس ثمة أطماع استعمارية كما يتوهم معارضو الاحتلال، ولا أساس لمزاعمهم أنه ليس تحريراً) سوف ينهار بأسرع حتى مما توقع الفيلسوف الشاعر.
لقد لحقت الهزيمة بالليبرالية الأولى مع إخفاق المشروع الكولنيالي نفسه في وقت مبكر، وذلك عندما فشل في تحقيق وإنجاز أيٍ من الخطط الكبرى التي تخيّلها للعراق أو وعد بها الجماعات الليبرالية المفتونة بإصلاحاته.
عكس هذا التردي المريع في آمال الإصلاح والتحديث والحرية، درجة الشعور بخيبة الأمل عند النخب التي راهنت على ربط أحلامها بما أسمته روح العصر، وكان لانهيار هذه الأحلام أثره المدمر، لا في تبدل المواقف السياسية من الاحتلال، كما فعل الزهاوي ثم تلميذه من بعده الرصافي عندما تراجعاً عن أوهامهما (وراحا ينشدان غفران الجمهور وبعد وقت قصير فقط من إطلاق النبوءة الكاذبة) وإنما كذلك في ظهور نتائج معاكسة وغير متوقعة راحت تعتمل في أوساط كثيرة من المجتمع.
تمثلت هذه النتائج، في توطد روح تحررية جديدة في المجتمع بأسره. وهذا وضع فريد في مزاياه، إذ بينما كان الليبراليون يقنطون ويشعرون باليأس، بفعل تلاشي وعود مَنْ علقوا عليهم الآمال بالتحرير والتحديث، كان المجتمع في العراق ومصر وسورية يستيقظ، ويتجه بكل قوة لملاقاة روح تحررية ويصادف قادة آخرين في الشارع، يلهمونه المزيد من الأفكار عن الاستقلال والحرية.
لقد تحطمت الآمال، كل الآمال التي علقها الفيلسوف الشاعر على البريطانيين، فهم لم يحرروا مجتمعه من الاستبداد كما تخاذلوا عن تحريره من الجهل، ولكن الإخفاق جلب معه، ومن حيث لم يتوقع المصلحون قط، ميولاً ونزعات تحررية متعاظمة ولكن في اتجاه مغاير.
فمع تعاظم أشكال الاضطهاد والمهانات اليومية التي يتعرض لها السكان، صار بالوسع رؤية مطالب أخرى غير الحرية التي وعد بها المحررون.
إن مأساة هذا الرعيل من الليبراليين الذين استقبلوا الجنرال البريطاني مود في بغداد بالهتافات، والجنرال الفرنسي غورو في دمشق (يرفع الرسائل والمطالبات والشكاوى)، كما استقبلوا الجنرال البريطاني اللينبي في القدس بأن تهب لندن لمد يد العون للفلسطينيين تبدو أكثر شبها بالمآسي الشكسبيرية التي غالباً ما تقع في الفصل الثاني من كل مسرحية، ثم تبلغ ذروتها في الفصل الثالث.
ولأن هذه المأساة هي في الحق، من النوع نفسه، وليس من أي نوع آخر، فإنها احتفظت بقابليتها المدهشة على التكرار مع كل استعمار جديد، (سوف تخيب، ويا للمفارقة وبسرعة آمال ليبراليين آخرين مماثلين ومشابهين قدَّموا أنفسهم للمجتمع العراقي مع سقوط بغداد عام 2003 كممثلين لليبرالية الثانية).
كان جميل صدقي الزهاوي بمكانته الأدبية والفكرية الرفيعة ودرجة تأثيره، والهالة المدهشة من القدسية التي أضفاها على نفسه أو أحاطها به مريدوه وتلامذته والمعجبون به، مفعماً بالإيمان والثقة بأن الغرب قادم لا محالة من أجل تخليص الأمة العربية من استبداد العثمانيين، لينقلها دفعة واحدة إلى مصاف الأمم الراقية.
بيد أن هذا الإيمان وحده لم يكن كافياً لأجل حدوث المعجزة. ما يجب أن يلفت انتباهنا، على وجه التحديد، في هذا الرهان المتكرر اليوم، أن النخب الفكرية العربية (والعراقية على وجه الخصوص) لم تقدِّم قط، أي مساهمة ذات قيمة في بناء أسس النهضة العربية أو فكر التنوير.
كان ممثلو النخبة العراقية أقل مهابة في أفكارهم ونصوصهم الأدبية، من زملائهم في حلب وبيروت والقاهرة ودمشق.
وكانت لديهم، بدلاً من الأفكار والرؤى والتصورات عن الإصلاح والحرية والتحديث، بضعة نصوص حالمة مفعمة بالخيال.
إن مراجعتي لدور النخبة الفكرية العراقية ودورها كواكبي عراقيا التنوير، تكشف دون لبس، ضعفاً مأسوياً في قيمة المساهمات الفكرية، إذ لم يشاهد العراقيون كواكبي عراقيا يعيد صياغة معادلة الحرية والاستبداد على النحو ذاته الذي صاغه الكوكبي في حلب.
كان الليبرالي العراقي، طوال الوقت، قادراً على رؤية نفسه في صورة بطل نذر نفسه لتحرير مجتمعه، ولكنه بطل في حقيقته، وتماماً كما رآه إدوارد سعيد (الاستشراق) على غرار المستشرق الذي يعتقد أن أبحاثه أعادت بناء لغات الشرق الضائعة وعاداته، بل حتى عقلياته كما أعاد شامبليون بناء الهيروغليفية من حجر رشيد.
بينما يكشف الواقع أن هذا الدور الافتراضي كان أقل أهمية مما تصوره البطل، وأن جمهور النظَّّّارة قد لا يعرف الكثير عن أفكار بطله أو أنه كثير التشكيك بقيمتها وصدقيتها، وفي النهاية قد توضح مقاربة تفصيلية وضرورية أن الكثير من توهموا لعب هذا الدور البطولي، كانوا في الحقيقة أكثر عزلة عن المتفرجين. وفي هذا الجانب من العزلة ربما يكمن شطر من المأساة. لقد ضمت الليبرالية الأولى في مطالع القرن الماضي خليطاً من متنورين ودعاة إصلاح سياسي واجتماعي وشعراء ساخطين على الأوضاع المزرية، كما ضمّت آخرين من الوطنيين الحالمين وكتاباً ومبشّرين بقيم المدنية، ممن اعتادت ثقافتنا العربية المعاصرة على تسميتهم بدعاة النهضة، وكان هؤلاء جميعاً يشكلون حركة، ناظمها الأهم الدعوة إلى قيم الحرية والمدنية.
بيد أن هؤلاء الدعاة قلّما انتبهوا إلى الفارق الجوهري بين صورة الغرب التي عملوا على إنشائها وتكريسها في كتاباتهم، وبين المشكلات التي كانت تثيرها سياسة الغرب نفسه ومفاهيمه المرائية.
الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
قضايا
تشكيل
ذاكرة
مداخلات
الثالثة
مراجعات
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved