الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السياراتالجزيرة
Monday 03th April,2006 العدد : 147

الأثنين 5 ,ربيع الاول 1427

زمان.. رجل القصب

*قاسم حول:
في عرض خاص في باريس شاهدت فيلما سينمائيا عراقيا عنوانه (زمان.. رجل القصب).
وحكاية هذا الفيلم تبدو غريبة نوعا ما، فالفيلم صور في الأيام الأخيرة لنظام الدكتاتور العراقي وأكمل بعد سقوطه دون أن يؤثر ذلك على مجريات القصة ودون أن يغير فيه مخرجه عامر علوان مسار حكاية الفيلم وبقي الفيلم محتفظا بتوازنه وموقفه من الأحداث مما يعكس الرؤية الثابتة لمخرج شاب يخوض تجربة أول فيلم روائي طويل بشجاعة نادرة.
تكمن شجاعة المخرج قبل الحديث عن موهبته في أنه خاض تجربة تصوير فيلم منطلقا في حكايته من الحصار الذي فرض على العراق بعد ما سمي بحرب الخليج دون أن يدخل في التفاصيل السياسية لأنه تمكن أن يبقى في خانة الإبداع فلم يتهم جهة ما بأسباب الحصار وهو ما لا يروق لنظام الدكتاتور ومؤسساته الرقابية، المخابراتية، الحزبية، والإعلامية والثقافية.
لأن النظام في تلك الحقبة كان يريد أن يجير كل عمل ثقافي إلى المخطط الإعلامي لاستثمار القصيدة الشعرية، المسرحية، الفيلم السينمائي وكل أدوات التعبير الثقافية لصالح فكرة الحروب ومغامرات السياسية والعبث بحريات الناس، فحوصر المخرج أثناء التصوير بعد أن شاهدته المؤسسة الحزبية الحاكمة يدخل في مواقع تصوير قابلة للشك، فيما كان يريد كشف الحقيقة الموضوعية دون خوف. صودرت الكثير من المواد المصورة وهنا سيصعب ربط الحكاية في بنائها الدرامي عند المونتاج والعمليات الفنية اللاحقة في باريس. وعندما سقط النظام لم يتمكن من استرجاع المواد المصادرة، لأن مؤسسة السينما التي صادرت المواد قد فتحت أبوابها للنهب والحرق وإخفاء الوثائق والحقائق كما هو شأن أغلب المؤسسات التي فتحت أبوابها للحرق مثل مؤسسات الأمن ومؤسسات الإعلام والثقافة. يصبح على المخرج أن يكمل فيلما مشاهد من حكايته مفقودة.
قصة إنتاج الفيلم هذه وحدها يمكن التوقف عندها كثيرا في قراءة معنى الدكتاتورية ومعنى الحرب ومعنى ضياع الأمل وضبابية الآتي، معنى الوطن ومعنى المواطنة ومعنى الإبداع العسير الولادة. لكن شجاعة المخرج وهي صراحة شجاعة نادرة في زمن بيع الموقف والخوف من الموقف في كشف الحقائق الموضوعية. مواقع التصوير نفسها صعبة وكانت صعوبتها أكثر أن يرحل المخرج إلى مناطق الأهوار التي كان الدكتاتور يعمل على تسميمها ومن ثم تجفيفها بسرية ولا يسمح بالاقتراب منها، لكن المخرج عامر علوان ذهب إليها وأقام ديكورا من مكونات الطبيعة على ضفة النهر وباشر بالتصوير. وكان معه ستة ممثلين محترفين هم سامي قفطان وشذى سالم وسعدية الزيدي ونزار السامرائي وراسم الجميلي ومحسن العلي) واختار طفلا من المنطقة ذي ملامح سومرية من أبناء الأهوار ليلعب دورا في (زمان.. رجل القصب).
الحكاية التي تبدو بسيطة جدا دخل في عمق مواقعها حتى بدت حكاية صعبة وتشعبت لتمتد على مساحة ثمانين دقيقة دون أن يساورنا الملل بل العكس ملأنا التشويق والمتابعة سيما تلك المسحة الشاعرية في مشاهد الفيلم والانسيابية والتلقائية في الأداء وفي حركة الكاميرا.
ثمانون دقيقة اختصرت أياما لرحلة رجل اسمه (زمان) زوجته مريضة في ريف من أرياف العراق تسمى (الكفل) وأعطاه طبيب القرية وصفة لشراء الدواء، وعليه أن يذهب إلى المدينة ليجد الصيدليات خالية من الدواء بسبب الحصار الذي لم يشر إلى أسبابه لأن الدخول في التفاصيل سوف يسقط الفيلم في خانة الإعلام، وكان المخرج هنا متحديا بشجاعة نادرة. وعندما يعثر (زمان) على الدواء ويعود مع هدية لزوجته ولجارته التي رعت زوجته وينام قرير العين تلك الليلة التي وصل فيها حاملا الدواء لتبدأ زوجته بتناوله عسى أن يشفيها، يصحو صباحا ويحاول إيقاظ زوجته فلا يجد فيها حركة.. كانت قد رحلت عن الحياة في تلك الليلة فيقف مذهولا ثم يخرج فجرا من الكوخ ينحب نحيبا هادئا كأنه نواح الحمام دون أن يسقط المخرج فيلمه في الميلودراما.
في هذه النهاية، بقي في مسار الفيلم الذي ينتمي إلى التراجيدية الإبداعية أي المأساة المشوبة بالشاعرية.
ذكرني الفيلم كثيرا بفيلم السقف للمخرج الإيطالي الكبير فيتوريو دي سيكا دون أن تكون ثمة علاقة بالقصة أو بشكل المعالجة ولكن ذكرني ببساطة الفكرتين وعمقهما في المعالجة. الرجل الذي كان يبحث عن الدواء كان قد دوخته المدينة بضجيجها وأبواق سياراتها وزحمة السير فيها. مدينة مكتظة من مدن هذا العصر العربي الذي فقد النظام والتنظيم وصار فيه عبور الشارع من الرصيف للرصيف كارثة إنسانية في دقائق تلخص التعب الإنساني في فوضى حياة عالمنا الذي وضعوا له رقما ثالثا. زمان، هذا الرجل الذي جاء من بيوت القصب في الريف والأهوار كيف سيمشي في هذه المدينة المكتظة وكيف يجيد منطق المراوغة وهو البسيط الواضح الطيب، وكيف سيحصل على حبة الدواء المختفية من واجهات الصيدليات والمخزونة في سراديب المستشفيات لا ينعم بها سوى أصحاب الجاه وأقرباء مديري المستشفيات لتظهر من وسط هذه الوساخة شابة أحست بالغبن الذي يلحق بالإنسان المسحوق في بلد الحضارات وتستخرج له الدواء من السرداب وبدون إجراءات روتينية حتى يعود فرحا يقطع المسافات للعودة وهو يجدف في زورقه الصغير مجتازا مسافات دجلة والفرات ليصل إلى آخر الدنيا في وطنه وينعم بليلة واحدة أشبه بليلة وداع زوجته ويجلس مع ابنه بالتبني ذي الملامح السومرية الحادة تحت فيء النخلة متذكرا كلماته في مواجهة الصعاب في عالم ظالم ومظلم. هنا لا بد من الإشارة إلى شجاعة المنتج أيضا، والمنتج ستار علوان لم يكن منتجا سينمائيا في يوم من الأيام لكنه وضع مالا لتحقيق هذا الفيلم العراقي الذي بالضرورة لا يجد الموزع فكيف يسترد ماله الذي صرفه على الفيلم والدولة العراقية نفسها صادرت مشاهد منه وهي لا تريده. والغرب له نظم سينمائية في الإنتاج ونظم سينمائية في التوزيع، لكن الفيلم وببساطته انسل من بين الصعوبات إلى قلوب المشاهدين في أول عرض ما حدا بالموزعين إلى تبني توزيع الفيلم وصار يتنقل بين أمريكا والصين وباريس واليابان وأسبانيا وهولندا.. يسافر من بلد إلى بلد وعروضه مستمرة في صالات السينما في الغرب التي من الصعوبة أن يقتحمها فيلم عربي.
والسينما المصرية في كل تأريخها وعلاقاتها الإنتاجية والتوزيعية لم تستطع أن تحقق النجاح في صالات العرض الغربية وجمهور الغرب مثل ما حققه (زمان.. رجل القصب). الجوائز التي حصدها الفيلم سواء جوائز الفيلم للمخرج أو جوائز الممثلين كانت جديرة وحقيقية وليست فيها وساطات سياسية أو اعتبارات غير موضوعية. زمان..رجل القصب حصد جوائزه بجدارة.
الممثلون كان أداؤهم تلقائيا بعيدا عن الصنعة المسرحية التي يعتمدها المخرجون (المعاصرون) في محاولة لتقليد أشكال من الحركات في بعض الأفلام الغربية التي لها ما يبررها فاستنسخوا الأسلوب، لكن المخرج عامر علوان تمكن من أن يجعل من ممثلي أفلامه شخوصا حقيقية متطابقة مع تلقائية الناس وحياتهم اليومية. وهذه هي السينما.. فن الواقع.
لا أتمكن من نسيان مشهد واحد قصير لممثل محترف هو راسم الجميلي الذي لعب دور مساعد سائق الحافلة التي تنقل الناس إلى الملعب الرياضي. تذكرت مقولة ستانسلافسكي (ليس هناك أدوارا صغيرة وأخرى كبيرة. هناك ممثلون صغار وممثلون كبار).. سامي قفطان وشذى سالم وسعدية الزيدي ونزار السامرائي والفتاة في المستشفى الكاثوليكي كانوا ممثلين كبار حقا، فهم عاشوا شخصياتهم بدون مبالغة.
يمشون كما يمشي الناس ويحزنون حقيقة كما يحزن الناس في أطراف وطن سحقته الحروب ودمرته الضغائن وأفقدت إنسانيته الفاقة وهو البلد الثري بثرواته وبتأريخه.
يعيش كل هؤلاء الناس الذين جسد الممثلون حياتهم في أطراف الوطن النائية والتي تفتقد إلى أبسط المقومات الإنسانية. نزار السامرائي الذي لعب دور الطبيب في تلك القرية الصغيرة النائية يأتي بالزورق وينتظره الناس على الساحل مثل هدية جاءتهم من السماء ينتظرون أن يلقي نظرة على عيونهم التي يتعبها الرمد وقلوبهم التي تضطرب من شدة الفقر وقلة الغذاء.
شخصية مقنعة تستقبله سعدية الزيدي وتسأله عن دواء وقطرة للعين، تنتظره من كلمته الشفاء. كلهم مع شخصية سامي قفطان (زمان) وزوجته (شذى سالم) اللذين كان حضورهما على الشاشة مدهشا وقويا. هؤلاء الممثلون لا يوجد في حياتهم تراكم كمي من نتاجات السينما حتى يتبلور عطاءهم بالضرورة، ضرورة تراكم الإنتاج واكتشاف الذات، لكنهم تمكنوا وبإدارة مخرج موهوب من أن يشكل عطائهم قيمة فنية كانت الجوائز جديرة بهم وهم جديرون بها. هنا يمكن القول، عندما يتوفر الموضوع الجيد والمعالجة السينمائية المتقنة البناء والممثل الموهوب والمخرج الذي يمتلك الكفاءة والموهبة والمنتج الذي يعطي للفيلم ويثق بمنفذيه فإن الحصيلة ستكون ممتازة بالتأكيد وهو ما حصل في فيلم (زمان.. رجل القصب).
السينما العراقية بعد أن حصلت الحرب وتهدمت القاعدة الإنتاجية لم يعد واقعها سليما وهي تتراجع فلا أحد يلتفت للسينما في وقت تغيب فيه الكهرباء عن الوطن بل ينظر للسينمائيين نظرة فيها الكثير من الاعتداء على قيم المجتمع الجديد، وهو أمر يدعو إلى خوف حقيقي على الثقافة وعلى السينما بالذات. أخشى أن يكون هذا الفيلم (زمان.. رجل القصب) آخر العنقود كما يحصل في الولادات عندما يقول الأب لمهنئيه في مولود جديد (هذا آخر العنقود) وهو أمر محزن حقا. فبدلا من أن يكون زمن القصب بداية لسينما جديدة في العراق، يكون نهاية لسينما أرهقتها الدكتاتورية فجاء زمان رجل القصب فيلما يشكل التحدي لشروط الإنتاج في بلد خرج من الدكتاتورية ليدخل زمن الاحتلال والاقتتال وزمان رجل القصب يشكل الصوت الذي بقي نظيفا يعلن عن حقيقة ستغيب لا ندري كم من السنوات.
أشد على يد المخرج والمنتج وكل الممثلين والمصورين وكل من دق مسمارا في جدار ديكور الفيلم، فإنه والله إشارة مشرفة في زمن صعب.


سينمائي عراقي مقيم في هولندا
sununu@wanadoo.nl

الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
قضايا
تشكيل
ذاكرة
مداخلات
الثالثة
مراجعات
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved