الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السياراتالجزيرة
Monday 03th April,2006 العدد : 147

الأثنين 5 ,ربيع الاول 1427

صورة حقوق الإنسان في الفكر العربي الحديث

*د. عبدالرزاق عيد:
إن الروح التنويري النهضوي يتغلب في نصوص الكواكبي على اندفاعات الروح البركاني، ولذا فالأولوية بالنسبة له -كما كان للإمام عبده - هي الشرعية الدستورية التي تبدأ بمناهضة الاستبداد، لهذا نجد في صفحة واحدة من كتاب طبائع الاستبداد، مجموعة من الأفكار تحيل في مرجعيتها إلى عدد من بنود إعلان حقوق الإنسان.
وعلى هذا فإنا لو تطرقنا إلى مجموعة الفصول التي ينظمها عقد الكتاب، لوجدنا الإعلان يتقاطع مع مجموع هذه الفصول، بنداً بنداً، فبعد أن يتحدث عن ماهية الاستبداد معرفاً به وبمقوماته، ينتقل ليسبر تجلياته، من خلال صلته: ب(الدين، العلم، المجد، المال، الأخلاق، التربية، والترقي)، ثم سبيل الخلاص منه.
فكما أن بنية الخطاب التي ينتجها النظام اللغوي الأسلوبي والمعرفي لكتاب الطبائع، تتأسس على منظور عصياني اقتحامي، أنتجت نصاً فريداً في كثافة غضبه العصياني المتمرد على سكونية عصره، فإن تظاهرات هذه البنية المعرفية في تكوينية النص، تتبدى في بناء الجملة والمقطع، فليس لديه وقت للمقدمات والاستهلالات والتمهيدات، إنه يقتحم موضوعه اقتحاما، تماما كما يقتحم زمنه وعصره وثقافته، ولهذا فمنذ السطر الأول والثاني يحيطنا الكواكبي علما بأن آراء العلماء الناظرين في التاريخ الطبيعي للأديان تضافرت على القول: (بأن الاستبداد السياسي متولد من الاستبداد الديني)، والبعض يقول إن لم يكن هناك توليد: (فهما أخوان: أبوهما التغلب وأمهما الرياسة) أو هما صنوان في أنهما (حاكمان أحدهما في مملكة الأجسام والآخر في عالم القلوب).
فإذا كانت العلاقة بين الاستبداد الديني والسياسي على هذه الدرجة من التواشج العضوي، فإن الحل الوحيد أمام أمته أن تهتدي إلى ما اهتدت إليه الأمم الموفقة للخير، والكواكبي يحدد الحل بوضوح، دون مواربة أو مخاتلة، كما يحدث في زماننا من قبل الذين يضفون الشرعية على واقع الاستبداد، من خلال أوهام عن صيانة الذات الثقافية والحضارية للأمة، الأمر الذي من شأنه أن يفضي إلى اعتبار التأخر والاستبداد سمتين جوهريتين تميزان الأنا الحضارية للأمة العربية والإسلامية، اللتين ترفضان استعارة النماذج الجاهزة للديموقراطية الغربية ومبادئ حقوق الإنسان...!؟
إذن فوفق الترسيمة النظرية لدعاة (الأصالة المحدثنة أو الحداثة المترثنة)، فإن الكواكبي يسجل منذ أكثر من قرن بأنه المثقف الكوني بامتياز الذي لا يتلجلج أمام حقيقة تأخر أمته وانحطاطها بسبب هذا التلازم بين الاستبدادين (السياسي والديني)، ولهذا لا بد من استلهام النموذج الحضاري الذي سبقت إليه الأمم الأخرى في النموذج المدني الدستوري البرلماني إذ (خصصت منها جماعات باسم مجالس نواب وظيفتها السيطرة والاحتساب على الإرادة العمومية: السياسية والمالية والتشريعية، فتخلصوا بذلك من شآمة الاستبداد).
والكواكبي إذ يقدم هذا الحل نجده يستحضر أكثر من بند من بنود الإعلان، سيما البند الرابع عشر القائل: بحق المواطنين أن يتحققوا بأنفسهم أو بواسطة نوابهم لزوم الرسوم العامة، وأن يقبلوا بها عن رضا وأن يحددوا مقدارها، الأمر الذي من شأنه أن يفضي إلى البند الخامس عشر وهو الذي يتحدث عن حق الهيئة العامة أن تسأل كل موظف عام عن إدارته، والبند السادس عشر أيضاً الذي يعتبر أن كل هيئة عامة لا يكون فيها ضمان الحقوق مكفولاً وتفريق السلطة فليست هي على شيء من القانون الأساسي،
وهذا المعنى يتردد بشكل مطرد في نصوص الكواكبي، فهو بعد أن يعري ويكشف عن كل مظهر من مظاهر الاستبداد، يعرض هذه المظاهر من مبادئ الإعلان على وعي العامة وممكنات هذا الوعي في الارتقاء إلى مستوى سقف مطالب الإعلان، فالرجل الذي ينطلق من شعور عال بالمسؤولية يعرف أن ممكنات زمانه لا تتيح له أكثر من هذه البدايات الأولى التي لا تطمح إلى أكثر من إثارة الإحساس بمشكلية أمته، التي يريد في البداية حسب تعبيره (تنبيه حس الأمة بآلام الاستبداد) والمرحلة الثانية هي (حض الأمة على إشغال عقولها) ومن ثم المقارعة باللين والتدريج على طريقة الإمام محمد عبده الذي كان يمارس الزعامة الفكرية والثقافية في العالم العربي والإسلامي في الفترة التي كان يكتب فيها الكواكبي الإعلان، كما أن الكواكبي كان يتردد على مجالس محمد عبده 3، وليس بالشدة والعنف كما على طريقة الأفغاني، أو كما يريد ويدعو (الفييري) الثوري التنويري الإيطالي الذي يشار إلى تأثر الكواكبي به. 1، لقد أشار رشيد رضا إلى ذلك في تأبينه للكواكبي، لكنه ينفيه على أساس أن الصورة التي رسمها الكواكبي عن المجتمع الشرقي كانت من الصدق بحيث لا يكون قد نقلها عن مؤلف غربي وعلى هذا يؤسس -مع مدرسة الإصلاح الإسلامي - للأطروحة النظرية المعاصرة التي شاعت في الربع الأخير من القرن العشرين كجائحة بالتوازي مع ما سمي ب(الصحوة الإسلامية)، وهي الأطروحة القائمة على استفتاء التراث - من قبل الأصالويين المحدثين - في مواجهة إشكالات العصر، لكن هذه المصالحة بين المنظورين في زمن الكواكبي إذا كان يصح أن نعتبرها مصالحة تاريخية بمعنى (الضرورة التاريخية) وذلك بحكم أنها لا تزال تعكس مرحلة البدايات في احتكاك العرب مع الغرب في العصر الحديث، لكن هذه الأطروحة ستغدو نكوصية مع الأصالويين الجدد في أواخر القرن العشرين وبدايات القرن الواحد والعشرين بعد قرن من الاحتكاك والتواصل مع الغرب بما فيه الاستعماري القديم والحديث.
وعلى هذا فالأمثلة المتصلة بالبند الخامس عشر يؤصل له عبر المضاهاة في المثال الراشدي في التراث الإسلامي، أما نموذج الحاضر العالمي فعبر مضاهاته بالمثال الفرنسي.
وهكذا يتنقل النص بحرية إذ يستند في مرجعيته للإعلان، فالمراقبة والاحتساب المشار إليها بالبند الخامس عشر تحيل- في الآن ذاته - إلى البند السادس عشر الذي أشرنا إليه: في أن الحكومة الخاضعة للاحتساب والمراقبة، لا بد لها أن تفرق بالكلية بين السلطات بين (قوة التشريع عن قوة التنفيذ وعن القوة المراقبة، لأن الاستبداد لا يرتفع ما لم يكن هناك ارتباط في المسؤولية فيكون المنفذون مسؤولين لدى المشرعين وهؤلاء مسؤولين لدى الأمة، تلك الأمة التي تعرف أنها صاحبة الشأن كله وتعرف أن تراقب وأن تتقاضى الحساب)1 هذا المفهوم لوجوب الفصل بين السلطات، واعتبار السلطة التنفيذية مسؤولة أمام السلطة التشريعية، والقول بمشاركة الأمة في إدارة الأعمال العامة عن طريق ممثليها المنتخبين، لا تعبر عن تشبع خطاب الكواكبي بمبادئ الإعلان فحسب، بل وتشبعه بأفكار الكثيرين من ممثلي عصر الأنوار، وخاصة بكتاب (روح الشرائع) لمونتسكيو. ونحن إذا كنا قد ركزنا على تقصي إثر الإعلان في فكر الكواكبي من خلال (طبائع الاستبداد) بهدف تلمس عناصر التناظر، والتواشج بهدف المضاهاة والمقارنة، وبما يتيح لنا اعتبار (طبائع الاستبداد) وكأنه البيان العربي الأول لحقوق الإنسان، وبما يعطي للكواكبي حقوق الريادة في الدفاع والذود عن مبادئ حقوق الإنسان في العالم العربي والإسلامي.
الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
قضايا
تشكيل
ذاكرة
مداخلات
الثالثة
مراجعات
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved