الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السياراتالجزيرة
Monday 03th April,2006 العدد : 147

الأثنين 5 ,ربيع الاول 1427

(خطّ البلدة لا ينتهي)
*خالد الصامطي:
لا أدري لماذا ركبتُ أوتوبيس (خطّ البلدة) في هذهِ الليلةِ التعيسةِ الأخرى، ولا أدري أيضاً إلى أيّ مكانٍ سأنتهي. ما أعرفهُ أنني فرحتُ بعد أن هبط ذلك الراكب الذي خنقني برائحتهِ النتنة، أستطيعُ أن أستنشقَ بؤسي الآن بألمٍ عميق دونَ أدنى مُعكِّر.
في كلِّ يوم أستيقظُ باكراً، بعدَ النُباح مُباشرة، وقبلَ صِياح الديكِ بفترةٍ قصيرة، بالتحديد أستيقظُ عندما يصفعني والدي أو يتقيأ على جسدي النحيل ماءً كان يتمضمضُ بهِ جوار الصنبور المنخفض، وفي كلّ يومٍ أيضاً يبدأ بتوزيعِ تعليماتهِ ووصاياه على مسمعي ومسامعِ والدتي وإخوتي، والدي الذي سقطَ مغشياً عليهِ قبل عشر سنوات، ثم استيقظَ مُعاقاً، ليعلنَ حنقهُ على كلّ شيء، ويسنّ قوانينهُ الجديدة، ويعطي دوراً لكلِّ فردٍ في العائلة.
دائماً ما أكون أوّلَ الخارجين من بيتنا المتهالك، وكأنني أستعجلُ الهربَ إلى جحيمي، الجحيم الأخفُّ وطأةً من البقاء في البيت، أهيمُ على سحنتي، أجدلُ خيوطَ الشمسِ الأولى وأشكالَ الصبيةِ السُعداء الذاهبين إلى المدارس، أجدلُ الأرصفة وأوراقَ الشجرِ وعُمّال النظافةَ البطيئين، بنظراتي أجدلُ كلَّ شيءٍ وأنا سائرٌ إلى مكانٍ يختلفُ عن مكانِ الأمس، يجب أن يختلف، وإلاّ سيغضبُ منّي والدي إذا علِم، ويجب أيضاً.. ألاّ يغضب! أصلُ إلى موقعي، أقفُ بيأسي، أقفُ بعذاباتي جميعاً، تحتَ صخبِ الأبواق، وتحت دهشةِ المدينةِ المستيقظة للتوّ، ونظراتِ المستحقرين، أولئك الذين يرمقونني من خلفِ زجاجِ سياراتِهم، وكأنني أخطو على أنوفهم. أستهلُّ دوري دون رغبة، أقتربُ من أحدهم فيتجاهلني، أتثاقلُ سائراً إلى آخر، فيبصقُ نظرةً كاسرة، أتخطّاهُ، وتختلطُ الوجوه. أعرفُ تفاصيلها تماماً، دلالاتها، التقاطيع المُبشّرة، والأخرى الفارغة، من الوجوه أستطيعُ تحديدَ مدى الرحمة والرفاهية والسهر والعجلة وكلّ شيء حتى أنني أستطيعُ التنبؤ إذا ما كان الشخصُ قد تخاصمَ مع زوجته قبل أن يغادر إلى عملهِ أو لا. حركةُ الحاجبِ الواحد: تَعَجُّب، وانقباضُ الفمّ: امتعاض، انخفاضُ الأنفِ: تأفف، وأغلبها تعني: (أنْ لا تقترب أكثر)، أعرفُ الكثير من صفعاتِ الملامح.
يمرُّ الوقتُ بطيئاً وترتفعُ الشمسُ متعريةً تماماً، فتعرّي النفوس، أمسحُ عرقي بأكمامي المتّسخة، أضعُ يدي على جيبي لأبقى متحسساً لخيبتي، وأنا أتنقل بين المركبات، أستنشقُ كربون العادمات، وصدَّ العابرين.
كلُّ الأشياء تلفظني، الشمس، الإسفلت، السيارات، النظرات، نادراً ما يحتويني صوتُ امرأةٍ عطوف من سيارةِ أجرة، أو وجهُ طفلٍ في مقعدٍ خلفي، فأنكفئ بينَ حاجبيهِ المائلين كرقم ثمانيةٍ مقطوع الزاوية، أستظلُّ قليلاً من وهجِ نبذهم وبقيةِ الحواجب، لا يهمُّ إن انتهيتُ فائزاً بورقةٍ نقديّةٍ يتفضلُ بها والده، أو بمجردِّ الهدهدة على حزني ب(الله يعطينا ويعطيك) تأتي مكررةً ورتيبة من فمِ سائقٍ اعتاد قولها، ولا يُهمُّ أيضاً إن عُدتُ ليلاً بغَلّةٍ شحيحةٍ إلى أبي الفقير الحانق على كلّ شيء، ما يهم قولهُ الآن أنني شخصٌ بائسٌ جداً.
عندما أتعب، أجلسُ بجوار الإشارة، أتمعّنُ في كلّ شيء، الشحاذين عندَ الإشارات الأخرى، الطائرات التي لا أعرفُ كيف تبدو من الداخل، بلاهة سائقي الأجرة، البُصاق، أقرأ لوحات السيارات، والمحال وأقرأ أوراق الصحف والفواتير وكلّ ورقةٍ تأتي بها رياحُ السموم الجافّة، أفرحُ عندما أتذكرُ أنني أقرأ، وأحزنُ على حال أخويَّ اللذَين لم يتمكنّا من الدراسة، لأن العدّ كما قال لهم والدي -مُبرراً عدم قُبولهم- لا يحتاجُ إلى دراسة وهما لا يحتاجان لغير العدّ.
أشتتُ الوقتَ بحركاتٍ بلْهاء ونظراتٍ أشدُّ بلاهةً، أتمعّنُ في يافطات الإعلان، صورٍ لأشخاصٍ يضحكون، أجهزةٍ غريبة، مأكولاتٍ لم أرَ مثلها على الطبيعة، أتخيلني آكلها، فيتلاشى الخيال عندما تؤلمني إصبعي بعد قرضٍ متواصلٍ لظفري.
حياةٌ كئيبةٌ، تتشابهُ أيامها في مدينةٍ أشدّ كآبةً ورتابةً، يتشابهُ كلّ شيءٍ فيها ويتناقضُ بذاتِ الوقت، شوارعها، أناسها، طقسها، تخبئ في رحمها مولوداً مُشوهاً.
مدينةٌ مُخادعة، كبضاعةِ بائعِ الخضار المغشوشة، ثمراتهُ المستويةُ والممتلئة تغطّي الفاسدَ منها والعفِن، دسّت خلف بُهرجها فقراً مُدقعاً، بيوتاً لا تفرح، وأشخاصاً قدِموا إليها منذُ زمنٍ وعفّروا وجوههم في رمالها، ساعدوا في بنائها، وغاب عنهم آنذاك أن يرمموا بيوتهم.. كما غاب ذلك عن والدي. وجدتُ نفسي بها على الهامش، كالريال المعدني تبقى قيمتهُ لكن الجميع لا يستخدمهُ ولا يريده، حتّى أصحاب الدكاكين أمسوا يرفضون التعامل به. ولدتُ هنا، وأجزمُ بانتمائي لهذهِ الصحراء مُتجاهلاً قولَ أبي بأننا من بلدٍ آخر، مُتناسياً عدم قُبولي في الثانوية، ومتجنباً عيونَ أفرادِ (الجوازات)، فهذا الجدب بي، وبحياتي، وهذا البؤس، لا يصلحُ أن ينتمي أبداً إلاّ لهذهِ الصحراء. في فترةِ الظُهر والعصر الطويلة، أواصلُ دوري مُترنحاً بإجهاد، فألجأ بين الحين والآخر إلى ظلالِ أشجارِ الطُرق، أحواضِ نخيل الأرصفة، أُلهي ذاتي عن الأكل بجمع الخنافس وقتل النمل، أختبئ من سخطِ السماء والأرض ومن عليها، من الشرطة، من سيارات الهيئةِ بأوقاتِ الصلاة، فلا أصلي لأن المساجد منطقةُ عملٍ مختصةٍ بوالدتي وأخويَّ الصغيرين، هكذا أبررُ لذاتي.
أفكرُ أحياناً بأن أحبّ فتاةً ما، أيّ فتاةٍ تنظر إليَّ بغرابة، أيّ فتاةٍ بإحدى السيارات العابرة، أريدُ أن أصنع نتوءاً في حياتي، شيئاً ما يجعلها مختلفة، أريد أن أجرّب الحُب، وأن أكتب رسالةً تحتَ ظلِّ نخلة، وأسقطها بداخلِ باصٍ متهالكٍ مفتوحُ النوافذ لجامعة عليشة، حيثُ ستدرس، أو بداخلِ أي مركبةِ ستستقلّها. لكني سرعان ما أعترفُ بسخفِ الفكرة وغبائي، ثم أقرعُ زجاجةَ أقرب سيارةٍ وأدعوا لمن فيها بالتوفيق وكثرة المال.
إذا خيّم الليل، تخلعُ هذهِ الغانيةُ رداءها، وتمتلئ انثناءاتُ جسدِها الغضّ بغرائزِ الشباب، تزدحم، تفيضُ الشوارع بالسيارات، وكأنَّهم جميعاً ذاهبون إلى مكانٍ واحد، وكأنَّهم يتسابقون، وكأنَّ الليل يتربّصُ بهم. أنا على يقينٍ من أنَّ نصفهم لا يدري أيَّ اتجاهٍ يسلك، وإلى أين يذهب! تنبعثُ الموسيقى الصاخبة من عرباتٍ فارهة، ومن نوافذِها تُغادرُ أيضاً أيادٍ نظيفةٍ بأوراقَ صغيرةٍ تحملُ أرقامَ هواتفٍ وقصصاً لم تُحكَ بعد، قصصُ رغباتٍ مغيّبة.
أخافُ هذا الوقت، وأخافُ منهم، وكلّ شيء. لا أنسى الأربعةَ الذين غادروني مضرّجاً بدموعي على الرصيف في ليلةِ فوزِ المنتخب بعد أن أخذوا حفنةَ الريالات منّي ربطوني بعلمٍ أحمرٍ ثم ضربوني. ولا أنسى أصحابَ الدباباتِ المزعجة، عندما طاردني أحدهم وأصطدمَ بي لأسقط، وبدأ باستعراضِ قوّةِ ركلاتهِ أمام أصدقائه، دون سبب، ركلني في بطني وعلى وجهي، ركلني كثيراً، ثمّ امتطوا دباباتهم ورحلوا، لا أنسى هاتين الليلتين، فقط، لأنني عندما عُدتُ إلى البيت في المرتين كنتُ أرى دموع والدي. والدي الحانق على كلّ شيء.
أنهي يومي بالهرب، كما قضيتهُ كاملاً بالهرب. أنهيهِ هارباً من بكاء أخي ومن حزن والدتي، هارباً من صوتِ والدي وأسئلتهِ بعد أن أعطيهِ ما معي، متدثّراً بغطائي القديم، ك قِدمِ الفقر في العالم، متجاهلاً صورَ اليومِ الحافل، ومشاهدَ غرست سكاكينها في القلب، في لب مشاعري، أدثّر كلّ شيءٍ بي وأهربُ بشوقٍ إلى أحلامي الكثيرة، أحلامي التي لا أدري.. في أيّ مكانٍ ستنتهي.. لم يبق في الأتوبيس سوى أربعة أشخاصٍ والسائق، وأنا. تذكرتُ الآن أنني أجهلُ تاريخَ اليوم، وأجهلُ الساعة بالضبط، كي أوقّع في نهايةِ هذهِ الورقة كما رأيتُ الكُتّاب الكبار يفعلون في بعض أوراقٍ متهالكة قرأتُها على أرصفةٍ مُتفرّقة. لن أفعل مثلهم فلستُ سوى بائسٍ كبير، أركبُ أوتوبيس (خطّ البلدة)، ولا أدري إلى أين ينتهي، ما أعرفهُ جيداً أنني وجدتُ قلماً وورقةً بيضاء، نسيها أحد الركّاب على المقعد، وأخذتُ أزفرُ بؤسي بألمٍ عميق دونَ أدنى مُعكِّر.
الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
قضايا
تشكيل
ذاكرة
مداخلات
الثالثة
مراجعات
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved