الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الجزيرة
Monday 3rd May,2004 العدد : 57

الأثنين 14 ,ربيع الاول 1425

هموم الثقافة والكتاب.. ..وغياب الدور الحكومي
علي محمد العمير

قرأت خبراً في (عكاظ) بتاريخ 1311425هـ أثار استفزازي كثيراً.. وهو بعنوان (الشورى يدرس إنشاء رابطة للكتاب والأدباء السعوديين)، فدعونا نقرؤه بنصه فيما يلي:
(يدرس مجلس الشورى مشروع إنشاء رابطة للكتاب والأدباء السعوديين تعمل على تفعيل دور المثقفين والأدباء والنهوض بالثقافة.
وأكد الدكتور محمد آل زلفة عضو اللجنة الثقافية والإعلامية بمجلس الشورى أن المجلس سيناقش المشروع خلال الأسابيع القادمة.. وقال: إن مثل هذه الرابطة في حال إقرار المشروع ستخدم الأدباء السعوديين، وتفعل حضور هؤلاء الكتاب في المؤتمرات العربية والعالمية، مشيراً إلى أن عدم وجود رابطة للأدباء يصعب عضوية الأدباء في اتحاد الكتاب العرب، وحسب الدكتور آل زلفة كانت مجموعة من الادباء قد تقدمت بالاقتراح للجنة الثقافية والإعلام ورأت اللجنة أن تتقدم بمشروع لتأسيس هذه الرابطة لمناقشته في المجلس.
وأضاف آل زلفة: أن مثل هذا المشروع قبل اعتماده كنظام سيتم استشراف آراء الأدباء والمثقفين لإبداء اقتراحاتهم حوله.
من جانبه قال الدكتور محمد الغامدي رئيس اللجنة الثقافية والإعلامية بمجلس الشورى أن هناك مشروعات على قدر كبير من الأهمية تتعلق بالشأن الثقافي وتهم الأدباء والمفكرين، قد تفضي إلى إنشاء كيان مؤسسي يحضن فكرهم وهمومهم.
وأضاف أن المراجعات التي يقوم بها المجلس للشأن الثقافي تستهدف مراجعة الجوانب المتعددة والملتصقة بالأدباء والمثقفين، كالاهتمام بالمسرح، وإعادة هيكلة المؤسسات الثقافية، ومناقشة وضع الكتاب والبحث عن مشاريع قرائية تقترب من مشروع القراءة للجميع، وكذلك مراجعة أوضاع المثقفين بإنعاش فكرة صندوق الأديب، وكذلك البحث في إمكانية تفريغ الأديب لإنجاز مشاريعه الكتابية، وتفعيل دور المراكز الثقافية ومراجعة أوضاع جمعيات الثقافة والفنون وكذلك الأندية الأدبية، والعمل على استعادة الكتاب السعودي المهاجر.
وأشار الدكتور محمد الغامدي إلى أن الاهتمام بالمثقف وشؤونه من أولويات اللجنة الثقافية والإعلامية بمجلس الشورى لتحقيق الزخم الثقافي بما يليق باسم المملكة، وما حققته في جوانب حضارية عدة، كما أن المراجعات التي يقوم بها المجلس للشأن الثقافي تستهدف النهوض بالثقافة واعتمادها كسلعة وكاستثمار وطني لابن هذه الأرض). (انتهى)
وقد قلت آنفاً: إن هذا الخبر قد استفزني.. ذلك لأنه يذكر عدة أمور، ومسائل، وشؤون، وشجون على جانب كبير من الضخامة .. لا أظن (اللجنة الثقافية) التي صدر عنها الخبر المشار إليه.. تستطيع مجرد الإلمام ببعض ما جاء في الخبر.. فضلاً عن كله.
ومن ثم يخامرني الشك.. بل أكاد أن أ كون على يقين، وشبه يقين من كون المجلس نفسه لا يستطيع التصدي الفاعل لكل هذه الجوانب الضخمة ما لم يستعن بخبرات عديدة من خارجه بالضرورة، حيث ليس من داخله غير بضعة أفراد تحت مسمى (اللجنة الثقافية).
هي لجنة شديدة التواضع إزاء مهام ضخام من نوع ما أسلفنا ذكره..
ومن ثم وجدت نفسي كعضو فاعل منذ ما يقارب نصف قرن في جميع هذه الأمور، وغيرها، وأحتفظ بمعلومات ضخمة عن هذه الأمور، سواء من جهة ذاكرتي أو إرشيفي أو معايشتي وتفاعلاتي واهتماماتي الكتابية طيلة ما يقارب نصف قرن!!
وحيث وجدت أن الخبر قد شطح في الخيالات، والأوهام، وكثرة المبالغة إلى غير ذلك.. وجدت نفسي على غير عادتي أكتب خطاباً مطولاً، وكان المفروض أن يكون أكثر طولاً وعرضاً، لولا كون الخطاب موجهاً لمعالي رئيس مجلس الشورى ذاته.. وهو صاحب مقام ومكانة وكثرة مشاغل، مما لا تجوز معه الإطالة في مخاطبته أكثر مما فعلت.
ولكني بدلاً من إطالة خطابي أرفقت لمعاليه ملفاً كاملاً مجلداً يحتوي على غير قليل من المعلومات، وبعض الوثائق، ولكن الملف نفسه مهما تضخم ليس هو كل ما عندي من جهة، وليس هو غير مبادىء معلومات تحتاج إلى الكثير جداً من التفاصيل.. بيد أنني لم أقصد من خطابي أو من الملف غير إحاطة معالي الرئيس، أو اللجنة الثقافية بمدى ضخامة ما ورد في الخبر إياه!!
ولا أظن هناك ما يمنع من إيرادي هنا لنص خطابي مع إشارات إلى بعض محتويات الملف، حيث في ذلك بعض إضاءات لما نحن بصدده فيما يلي النص:
صاحب المعالي رئيس مجلس الشورى الموقر
تحية طيبة مباركة .. وبعد:
فقد اطلعت على الخبر المنشور في (عكاظ) بتاريخ 1311425هـ بعنوان (الشورى يدرس إنشاء رابطة الكتاب والأدباء السعوديين).
أما النقاط المهمة في الخبر فألخصها فيما يلي:
1 المجلس يدرس إنشاء الرابطة خلال أسابيع (1).
2 مناقشة وضع الكتاب، والبحث عن مشاريع قرائية تقترب من مشروع القراءة للجميع (2).
3 تفعيل دور المراكز الثقافية وجمعية الثقافة والفنون والأندية الأدبية.
وتلك هي أهم النقاط المشار إليها في الخبر.
وبما أنني قد عاصرت وعايشت وتفاعلت كتابياً، وفعلياً مع جميع هذه النقاط وغيرها من نحوها منذ أكثر من (46 عاماً) فضلاً عما عندي من معلومات عن مشاريع رسمية في هذا الصدد .. تم وأدها جزافياً.
ولذلك أجد من واجبي ذكر ما عندي من معلومات عن النقاط المشار إليها آنفاً على النحو التالي:
أولاً: فيما يتعلق بتأسيس رابطة أدبية:
أ بالنسبة لما يتعلق بالرابطة الأدبية أذكر أن بعض الزملاء كانوا قد تقدموا حوالي عام 1382هـ إلى سمو الأمير (فيصل بن عبدالعزيز) بصفته حينذاك (رئيس مجلس الوزراء) بطلب موافقة سموه على إنشاء (رابطة أدبية) فقال سموه للزملاء ما معناه بل نصه تقريباً: (لا بأس من ذلك، ولكن دون استيراد تقليد من الخارج).
وكانت هذه موافقة عليا صريحة تماماً، ولكن سمو الأمير قد ظن على ما يبدو أن الزملاء الذين تقدموا إلى سموه... سيأخذون على عاتقهم مع غيرهم من الأدباء القيام بتأسيس الرابطة.. فلم يصدر سموه توجيهاً للجهة، أو الجهات المختصة للمساعدة في تفعيل تأسيس الرابطة، ووضع نظام لها، وتحديد دعمها رسمياً.
وبالطبع لم يكن بوسع الزملاء، ولا غيرهم القيام بتأسيس الرابطة من قبلهم فحسب، وبهذا دفن المشروع، وانهال عليه التراب منذ أكثر من أربعين عاماً إلى الآن (3).
ب ومن نوع ذلك ما سبق أن تقرر بشأن تأسيس (مجلس للآداب والفنون) حيث تم إقراره فعلاً، بل وضع نظامه وقرار تأسيسه واعتماد ميزانية له، وتأسيس أمانته العامة.. بل تعيين الأستاذ (عبدالله بن إدريس) أميناً عاماً، ومباشرته للعمل فعلاً.
وكان قد تقرر أن يكون المجلس تابعاً لوزارة المعارف.. ولكن وزير المعارف نفسه آنذاك قام بإلغاء كل ترتيب أو نظام للمجلس.. بل قام بإلغاء المشروع نهائياً.
ويمكنكم أخذ المعلومات الدقيقة كاملة عن كل ذلك من الأستاذ الكبير الموثوق به (عبدالله بن إدريس)(4).
ومن ثم يمكن لمجلسكم الموقر العمل السريع من أجل إحياء هذا المشروع الوطني الذي لا أظن أية دولة في العالم تخلو منه، ومن أمثاله.
ثانياً: بالنسبة لمناقشة أوضاع الكتاب في المملكة، فقد كان آخر مقال لي عن هذا الموضوع بعنوان (غياب ثقافتنا سببه آفة اللجان) حيث ستجدون فيه معلومات مذهلة فيا يتعلق بالكتاب، وغياب الاهتمام به (5).
وقد عقب عليه أي على مقالي أخي الأستاذ (محمد القشعمي) وهو أحد أعضاء اللجنة المبدئية المشار إليها في مقالي الآنف الذكر، ويمكنكم معرفة الحقائق عن هذ الموضوع من الأستاذ (القشعمي) وهو أحد المسؤولين في (مكتبة الملك فهد الوطنية).(6).
ثالثاً: أما بالنسبة للأندية الأدبية، وجمعية الثقافة والفنون.. فقد كتبت عنها مؤخراً ايضاً عدة حلقات متسلسلة.. (يسرني أيضا إرفاق نصوصها) حيث ستجدون فيها العجب العجاب عن أوضاع الأندية.. والجمعية (7).
رابعاً: كانت هناك محاولات عديدة لدعم الكتاب يأتي في مقدمتها على سبيل المثال الأمر الصادر من رئيس مجلس الوزراء بتوقيع سامٍ من الملك نفسه.. (تجدون صورة منها رفق خطابنا هذا).
خامساً: كانت هناك بعض الجهات الحكومية تشتري بعض الكميات من الكتب، ولكنها توقفت عن ذلك نهائيا،ً رغم ضآلة ما كانت تشتريه، وعدم جدواه في قليل أو كثير..!!.
وتأتي في مقدمة هذه الجهات وزارة المعارف (التربية والتعليم) حالياً.. فقد كانت تشتري منذ سنوات عديدة جداً (300 نسخة) من كل كتاب سعودي بصفة عامة، ولكنها توقفت عن ذلك نهائياً منذ سنوات عديدة أيضاً دون أدنى سبب وجيه أو حتى غير وجيه!!.
سادساً: دعني فضلاً أضرب لمعاليكم مثلاً قد يبدو كما لوكان متعلقاً بشخصي كناشر، ولكن الأمر ليس كذلك.. بل هو يخص الحكومة والمجتمع بأسره، حيث فكرت خلال الأحداث والظروف الراهنة، وأثناء الدعوات الرسمية وغير الرسمية إلى ضرورة (التوعية) ووجوبها .. إلخ.
فكرت في وجوب المساهمة في ذلك بصفتي رجل إعلام، وأدب وثقافة منذ (46 عاماً) ثم بصفتي ناشراً ( صاحب رسالة.. لا تجارة) منذ (22 عاماً).. فكرت في تأسيس مشروع نشر توعوي باسم (مكتبة التوعية)، وهي عبارة عن سلسلة من الكتب الصغيرة الحجم حيث صغر الحجم هو المفروض في كتب (توعية) لسهولة حملها، وقراءتها في أي مكان وزمان.
وقد قمت فعلاً بجهدي الفردي وعلى نفقتي الشخصية (8) بطبع عشرة كتب دفعة أولى (برفقة بعض معلومات عنها)(9).
وهناك دفعة ثانية (10 كتب أيضاً) على وشك الصدور قريباً جداً، وستتواصل بقية الدفعات تباعا إن شاء الله.
وهي كتب توعوية مختارة بكل دقة، وعناية في مجالات متعددة وهو اختيار تسنده عدة روافد في مقدمتها ما وصلت إليه من تحصيل في علوم الشريعة، وذلك أساس دراستي على كبار العلماء والمشايخ، وذلك إضافة إلى ما أشرت إليه آنفاً من خبرة إعلامية وأدبية وثقافية عمرها (46 عاماً).
بل إنني سبق أن قمت بتأليف كتابين إعلاميين سياسيين بتكليف من معالي وزير الإعلام نفسه (10).
ولذلك تلقيت الكثير من الثناء العاطر من عدد من كبار العلماء والمثقفين على حسن اختياري لكتب التوعية، وكنموذج لذلك أرفق لكم صورة من الخطاب الذي تلقيته من معالي الدكتور (محمد بن أحمد الرشيد) بهذا الشأن (11).
ورغم كل ذلك.. لم أجد أدنى اهتمام، أو تجاوب من أية جهة حكومية حتى الجهات المختصة التي طلبت منها شراء ما يمكن من هذه الكتب لم أتلق منها ولا حتى خطاب اعتذار (7) رغم كون الاعتذار على الأقل هو أدنى ما يجب من لياقة ولباقة وحسن تعامل!!.
وكل ذلك رغم كون كتب مشروعي التوعوي من صميم سياسة المملكة وتوجهاتها بخاصة في الوقت الراهن (12) فضلاً عن اختصاص الجهات المشار إليها في صميم مشروعي التوعوي.
ولا يخفاكم أن الحكومة تنفق الملايين العديدة على ما تعتبره (توعية)، بينما لم تصدر كتاباً توعوياً واحداً رغم كون الكتاب من أهم وسائل الاتصال حيث يمتاز بالبقاء والترسيخ.
ويسعدني بالمناسبة أن أرفق لمعاليكم فصلاً من كتاب متخصص، وهو أي الفصل المرفقة صورته بعنوان (الكتاب وسيلة إعلامية مهمة متميزة بترسيخ الهدف)، ولكم أتمنى عليكم قراءته.
فإذا كان هذا هو التعامل الحكومي حتى مع (كتب توعية متخصصة) فلكم أن تتصوروا نوعية تعاملها مع الكتب الأخرى، سواء كانت دينية أو شرعية، أو فقهية، أو تاريخية، أو ثقافة إسلامية.. فأما كتب الشعر والأدب والثقافة وما إلى ذلك فهي أقصى وأبعد ما تكون عن أدنى اهتمام قط!!.
سابعاً: هناك ملاحظة مهمة، وهي أن (وزارة التخطيط) لم تشر في أية خطة لها إلى الكتاب أو دعمه أو أي شيء عنه.. وإنما تشير فقط إلى (الثقافة) وهي غالباً تقصد بذلك التعليم والإعلام ونحوهما.
وما لم يكن الكتاب باعتباره أهم وسيلة اتصال من سياسة الدولة، وخططها فلن يكون له أي شأن كما هو الحاصل فعلاً.
ثامناً: لست أشك قط أن (وزارة المالية) تعتبرعقبة في طريق الكتاب، وأذكر هنا مجرد مثالين للإيضاح فحسب وهما:
أ كان سمو الأمير (فيصل بن فهد بن عبدالعزيز) الرئيس العام لرعاية الشباب قد اهتم بالشأن الثقافي لبلادنا.. فأسس الأندية الأدبية في شتى أنحاء المملكة.. كما قام بتأسيس (جمعية الثقافة والفنون) وفروعها العديدة في مختلف أنحاء المملكة أيضاً (رحمه الله).
ولكن لم يكن لديه في الرئاسة أي بند خاص لشراء ما يمكن من الكتب.. فطلب من وزارة المالية اعتماد (ثمانية ملايين فقط) ففوجىء بمسؤول في وزارة المالية يأتيه شخصياً ليؤكد له موقف الوزراة المتضمن استحالة تلبية طلبه!!
ب تعتبر وزارة الثقافة والإعلام هي الجهة الوحيدة التي تقوم بشراء ما يمكن من الكتب، ولكن وزارة المالية تقوم بتضييق الخناق عليها فيما يتعلق بالذات ببند شراء الكتب تحديداً بل هي لم توافق عليه كبند مستقل، وإنما أدرجته في (بند القرطاسية) والأدوات المكتبية)، وما إلى ذلك مما جعل وزارة الثقافة والإعلام ومعالي الوزير نفسه في حرج بالغ مع المؤلفين، ومازالت وزارة المالية تمعن عاماً بعد عام في تقليص مخصص شراء الكتب تحديداً بالذات!!
وهناك أمثلة من هذا القبيل .. لا يمكن حصرها ولا حول ولا قوة إلا بالله.
***
وعلى الرغم من مضي مدة طويلة، كنت أتوقع فيها أدنى توقع، وهو مجرد إشعاري بأيسر وسيلة بكون خطابي والمجلد المرفق به قد وصلا إلى المجلس الموقر، ولكن يبدو أن توقعي كان خيالياً جدا، بل ربما يعتبر غروراً مني بيد أني والحمد لله قرأت مؤخراً خبراً صغيراً نشر في (عكاظ) بتاريخ 252 11425هـ ونصه كما يلي:
(أحال معالي رئيس مجلس الشورى الدكتور صالح بن عبدالله بن حميد إلى اللجنة الثقافية والإعلامية بالمجلس رسالة من الكاتب والأديب المعروف علي بن محمد العُمير لدراستها وإبداء الرأي بشأنها تتضمن مقترحات حول فكرة إنشاء رابطة للكتاب والأدباء السعوديين، كما تطرق فيها إلى معاصرته وتفاعله كتابياً وفعلياً مع موضوع الرابطة، والأفكار التي طرحها (العُمير) منذ أكثر من أربعة وأربعين عاماً. (انتهى).
فارتاحت نفسي، واعتبرت الخبر هو الإشعار المطلوب.. بل ذكرني الخبر بحكاية لا تخلو من طرافة وغرابة، ولا أرى بأساً، من ذكرها هنا على طريقة شيخنا (الجاحظ) الذي اشتهر عنه أنه عندما يمعن في الكتابة العميقة الجادة يشفق على قرائه من ثقل الجد فيتحفهم بطرفة نادرة، أو حكاية غريبة أو نكتة لطيفة ظريفة، تسلية لهم وتسرية عنهم من مكابدة القراءة الجادة الثقيلة.. فأنا إذن أتأسى بعمنا الكبير (الجاحظ) فأورد هنا حكايتي المشار إليها.
وهي حكاية حقيقية نشرت في الصحف الأمريكية وغيرها وملخصها أن شاباً سودانياً على جانب لا بأس به من الثقافة، والوعي قد اضطر على ما يبدو للهجرة إلى أمريكا طلباً للمعيشة، رغم عدم وجود ما يؤهله لعمل يسد رمق حياته، فعاش في شبه كوخ في حي شعبي محتشد مزدحم طرقاته ضيقة جداً ومساكنه متلاصقة.. تفوح منها رائحة العفن لا تكاد تعرف شيئاً عن النظافة أي أن الحالة المعيشية للشاب السوداني في أدنى درجة على الإطلاق!!.
ولكن رغم كل ذلك... كان الشاب السوداني الذي لا يخلو من بعض ثقافة كما أسلفنا يتابع أحداث العالم وأخباره.
ويتابع بصفة خاصة تطورات، وتأرجحات السياسة الأمريكية نحو العالم بأسره، ونحو العالم العربي الإسلامي بعامة ..فصادف ذات مرة أو علم بقرار أمريكي من شأنه إلحاق الأذى ببلاده (السودان) بالذات.. ثم بغيرها من بعض الدول العربية..!!
فما كان منه إلا أن عكف على كتابة رسالة مطولة بخط يده، وجهها إلى فخامة الرئيس الأمريكي (لم يكن هو (بوش) حينذاك).
وقد سرد في رسالته كل ما في ذهنه، أو آرائه نحو السياسة الأمريكية وانتقاداته العديدة لها.. ثم ما إلى ذلك.. وقام بإرسالها عبر البريد في الوقت الذي كان فيه على يقين من كونها إذا وصلت البيت الأبيض سيكون مصيرها حتما أقرب (زبالة) غير أنه لم يبال بهذا التصور حيث شعر أنه قد قام بأدنى ما يجب عليه .. ثم لا أهمية لغير ذلك!!
ولكن.. ولكن ويا للعجب والغرابة فوجىء أهالي ذلك الحي المسكين ذات يوم بسيارة طويلة فخمة، فارهة يرفرف عليه العلم الأمريكي تخترق الحي، لا يكاد الشارع الضيق يسعها إلا بصعوبة شديدة جداً.
وكان فيها أحد الشباب الأمريكان على غاية من الأناقة والفخامة والأبهة فضلاً عن وسامته الباهرة، كان ذلك الشاب المبجل يسأل عن عنوان الشاب السوداني (!!!) فدلوه عليه وسط دهشتهم وذهولهم حيث كان واضحاً لهم أن تلك السيارة الضخمة الفخمة هي إحدى سيارات التشريفات في البيت الأبيض، وأن الشاب الوسيم الأنيق لا شك في كونه أحد رجالات بيت الرئاسة الأمريكية.
وعندما وصلت السيارة إلى باب كوخ الشاب السوداني كان هو أمامه بالصدفة ففوجىء بالشاب الأمريكي يترجل من السيارة، ويعانقه بحرارة .. ثم يقول له:
إنني يا سيدي (هكذا .. !!) موفد فخامة الرئيس الأمريكي الذي كلفني بإبلاغك جزيل تحياته وتقديره واهتمامه البالغ برسالتك.
وها هو جواب فخامته على رسالتك، وبرفقه بعض المعلومات الرسمية المهمة لمعلوماتك!! ثم ناوله بأدب شديد رسالة الرئيس ومرفقاتها في مغلف ضخم ثم استأذنه (!!) في الانصراف!! ويمكنكم تصور ما بعد ذلك!!ا
***
ومما أذكره أن أحد الزملاء (نسيت من هو بالضبط) قد علق على ذلك قائلاً ما خلاصته:
(إن هذا تصرف دولة راقية جداً، وإن رسالة الشاب السوداني قد أخذت مجراها العادي، ولربما لم يطلع عليها فخامة الرئيس أصلاً، ولكنه وقع فعلاً جوابه عليها، وأن الإجراءات حول الرسالة، وجواب الرئيس قد تم دون شك من جهة مختصة بذلك ونحوه.
وهناك بالطبع الكثير من جهات الاختصاصات في البيت الأبيض تقوم بواجباتها في معظم الأمور وفي أدناها أيضاً)!!.
وبهذه المناسبة لابد من الإشارة إلى ما نعرفه جميعا عما يفعله (الديوان الملكي) من هذا القبيل حيث كثيراً ما يتلقى غير قليل من المواطنين رسائل شخصية خاصة موقعة من والد الجميع (خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبدالعزيز..) ذاته!!
ولكن من المفارقت حقاً أن كبار المسؤولين من وزراء، ووكلاء وزارات ومن في حكمهم ودعك ممن هم أدنى لا يرون أية ضرورة أو لياقة أو لباقة في الإجابة عن رسالة من أي مواطن ما لم يكن صاحب شأن، وجاه ونفوذ إلى نحو ذلك مما يعرفه الجميع!!
اللهم إلا ما ندر.. ما ندر، والنادر لا حكم له أو عليه!!
***
وهذا هو بالطبع سبب ما أشرت إليه آنفاً من كون أي مؤلف أو ناشر أو أي من له علاقة بالكتاب إذا طلب من أي مسؤول (التكريم) بشراء ما يمكن من كتابه، فإنه لن يحصل حتى على مجرد اعتذار أو أدنى إشارة على وصول رسالته فضلا عن الإشارة إلى عدم إمكانية الشراء.
وهذه الاستهانة بمؤلف أو ناشر أو صاحب كتاب إنما تأتي من جهة الاستهانة بشأن الكتاب نفسه أصلا،ً وعدم أدنى احترام له، بل حتى سوء فهم أو عدمه لرسالة الكتاب ودوره في كل مجال!!.
***
وكل ما أسلفناه من إطالة وتفصيل عن (يتم) الكتاب.. إنما قصدنا به الجانب الحكومي فحسب، أما الجوانب الأهلية العديدة الأخرى غير ذات العلاقة بالحكومة مثل الطباعة، والتسويق، والتوزيع إلى غير ذلك مما هو أدهى وأطم وأشد بلوى..!! فسعة القول عنها لا يتناهى..
ولكن قبل أن نودع الحديث عن الجانب الحكومي لابد أن نختمه على الطريقة الجاحظية بطرفة أو نادرة أو نحو ذلك من جوانب التسرية الجاحظية غير أنه يحصل لي كثيراً مع كل أسف أن تخونني ذاكرتي اللئيمة، وبخاصة عندما أكون في أمس الحاجة إلى مساعدتها، وعونها، كما هي حالتي الآن وأنا أناوشها طلباً لإسعافي بطرفة، أو نادرة فاشتد لؤمها، وتأبت وتمنعت!!
ولكني وجدت في نوعية تعامل البريد الرسمي مع (الكتاب) بصفة خاصة ما يمكن اعتباره من المضحكات (وشر البلية ما يضحك) بيد أنني لن أطيل عليكم حيث سأذكر مثلاً واحداً فحسب، وكثيراً ما (تدل البعرة على البعير)!!.
أما المثل الدال .. فهو ما حدث لأحد أعز أصدقائي وزملائي وذلك عندما صدر له مؤخراً أحد كتبه العديدة ما شاء الله فكان شديد الفرح به، وكبير الأمل في الحصول على بعض (القروش) منه رغم مرارة تجاربه أو (سوابقه) مع كتبه العديدة، ولكن هذا الكتاب بالذات قيمته أغلى مما سبقه (50 ريالاً) ولكن ليس بالتمام، والكمال بل ليس له غير نصف القيمة .. أما بالنسبة للنصف الثاني فهو يذهب إلى ذمة ما يسمى ب(العمولة) جميع المكتبات الكبيرة بخاصة تأخذ دائماً (50%) مقابل عرض الكتاب لديها فحسب، وليس مقابل توزيعه أو غير ذلك!!.
ولكن ليس ذلك هو المهم عند صديقنا .. فهو قد تعود على ذلك منذ زمن بعيد.. كما أن ذلك ليس هو النادرة المشار إليها.
وإنما تكمن النادرة في كون صديقنا صاحب كرم واسع بالنسبة لإهداء كتبه لكثرة كاثرة من زملائه وأصدقائه، وبعض الشخصيات المهمة بالنسبة له!!
وهكذا شرع في تجهيز بريده.. بيد أنه عندما أرسل الدفعة الأولى فوجىء مفاجأة مذهلة من حيث طلب منه (البريد) مبلغ (32 ريالاً عن كل نسخة بعد التخفيض الخاص بالمطبوعات.
أي أنه سيدفع عن كل نسخة يهديها مبلغ (82 ريالاً) هو قيمة الكتاب مضافاً إليها أجرة البريد ومعنى ذلك أنه لو أهدى (100نسخة فقط) بينما هو يهدي أكثر من ذلك بكثير لكان مجموع تكلفته (8200 ريال) نصيب البريد وحده (3200) اجرة إرسال (100 نسخة فقط) من كتابه، أفلا ترون أن ذلك من صميم النوادر حقاً؟!
الهوامش
1) تصوروا .. مشكلة ضخمة مثل تأسيس (رابطة للأدباء والكتاب) تناقش خلال أسبوعين فحسب!!.
2) مناقشة وضع الكتاب مسألة معقولة إلى حد ما، رغم كونها تستوجب معلومات واسعة، ودراسات موسعة، دقيقة، متأنية، أما (البحث عن مشاريع تقترب من (مشروع القراءة للجميع) فكلنا نعلم أن معظم دول العالم بما فيها غير قليل من دول متقدمة جداً جداً لم تستطع بلوغ ذلك بعد، فكيف بنا نحن الذين لم نوجد بعد أدنى نسبة تحتية لمثل ذلك، بل إننا لم نحل إلى الآن، وإلى ما لا يعلمه غير الله، مشاكل الكتاب نفسه أساسياً فكيف نجرؤ على ذكر (البحث عن مشاريع تقترب من مشروع القراءة للجميع)؟!!
3) لدى الزميل الصديق العزيز الأستاذ (محمد بن علي حافظ) أوسع معلومات عن هذه الناحية.
4) لا شك أن أستاذنا (عبدالله إدريس) يملك أوسع معلومات شاملة، كاملة عن هذا الموضوع المؤسف بل المؤلم.
5) ستجدون نص المقال مع غيره بعد نص هذا الخطاب.
6)7) ستجدون نصوص هذه المقالات في صفحات تالية حيث فيها الكثير من المعلومات والإيضاحات والإضاءات، لما هو عليه شأن الكتاب، ومهازل الأندية وجمعية الثقافة، فضلاً عما لم يرد ذكره في هذه المقالات.
8) يعرف الكثير من زملائي وأصدقائي ومعارفي مدى تواضع إمكاناتي المادية وثقل كاهلي بالديوان من أجل نشر الكتب !! فضلاً عن معاناتي الصحية المزمنة!!
9) ستكون هذه المعلومات موجودة في الصفحات التالية.
10) كان ذلك في عهد الوزير علي الشاعر، ثم في عهد الوزير الحالي الدكتور فؤاد بن عبدالسلام الفارسي الذي أحظى بشرف حسن ظنه وثقته.
11) معالي الصديق الدكتور (محمد بن أحمد الرشيد) أحد مؤلفي كتب الدفعة الأولى من مشروعي التوعوي (مكتبة التوعية) وكتابه بعنوان (إعداد الشباب لتحديات المستقبل)، ورغم ذلك لم يكن يتصور مدى الدقة والاحتراف بالنسبة لاختيار نوعيات كتب التوعية فلما وصلته مجموعتها أكرمني كثيراً بخطاب ثناء عاطر مستطاب.. سيظل مصدر اعتزازي لي فضلاً عن دعمه لثقتي بنفسي، ولكن لا يمكن نشر الخطاب إلا بإذنه.
12) إلى الآن بعض مضي أكثر من سنة كاملة لم تشتر أية جهة حكومية كتاباً واحداً من كتب التوعية رغم زهد قيمتها اللهم إلا وزارة الثقافة والإعلام) حيث اشترت منها ثلاثة كتب، وأنا على ثقة تامة من كونها ستشتري من الكتب الأخرى، ولم يمنعها عن شراء ما لم تشتر منه غير ما أعرفه يقيناً عن ضيق ذات يدها وجفاف ميزانيتها وبخاصة في مجال شراء الكتب!!
ثم اللهم أيضاً إلا أن (جامعة أم القرى) قد اشترت عشر نسخ، وإن كانت لم تدفعها قيمتها إلى الآن.. ولا أظنها ستدفع بعد طول المدة الماضية.
أما جميع الجهات الحكومية بما فيها وزارات مختصة بما تختص به كتب التوعية فإنها جميعها قد استكثرت مجرد الاعتذار، وذلك رغم أن حرصي على الشراء الحكومي لكتب التوعية ليس هو الحرص نفسه أو حتى قريباً منه بالنسبة لما نشرته من عشرات الكتب الأخرى.. وليس حرصي على الشراء الحكومي من حيث ذلك هو الواجب فحسب.. بل لكي أستعين بذلك على الاستمرار في مشروعي التوعوي.. غير الرابح.. أو هو غير التجاري بالطبع.. ولا يمكن لنوعه أن يكون تجاريا بأي حال كما هو المعروف!!
الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
تشكيل
كتب
ذاكرة
مداخلات
الملف
الثالثة
مراجعات
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved