الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الجزيرة
Monday 3rd May,2004 العدد : 57

الأثنين 14 ,ربيع الاول 1425

التوظيف الشعري «3»
د. سلطان سعد القحطاني
وإذا نظرنا إلى شعر رائد هذه المدرسة (الغزاوي) وبقية أعضائها، فسنجدهم تائهين بين دواوين الشعراء، ينسخون منها ويصورونها في أذهانهم، من الجاهلين والمعاصرين، كلٌّ بحسب ميوله الثقافية، حتى إن بعض القصائد جاءت منافية لواقع الحياة والبيئة التي يعيش فيها الشاعر؛ حيث يذكر مفردة غريبة على البيئة؛ مثل (الزيزفون)، شجر ليس له وجود في الجزيرة العربية، وما ذلك إلا بتأثير الثقافة الشامية والمهجرية، يقول عمر عرب:
(يوم كنا بجانب الزيزفون
نتهادى الغرام بين الغصون)
وقد يقول قائل: إنه نظمها خارج حدود الجزيرة العربية، فأين السياق الذي يدل على ذلك؟ وإذا سلمنا بما سلم به النقاد القدامى، بأن الشاعر ابن بيئته، والأدب صورة للحياة التي يعيشها، فإن الوظيفة التراثية، في اللغة، وهي وجه العملة الثاني في بناء النص، قد اهتم بها الشعراء وأجزلوا في لفظها، لكنه لفظ ممسوخ عن الأصل، وركزوا على الأسلوب، ولذا وظفه الكثير من المبدعين والناقلين والمقلدين، وجعلوا اللغة في خدمة النص، أو بمعنى أدق، سخروا اللغة لخدمة النص، وبصرف النظر عن التعادل بين النص ولغته، والانتماء واللا انتماء، فقد ظهرت إشكالية الإبداع واللا إبداع، وبين التوظيف التلقائي والتوظيف الاصطناعي، فالتقليد واضح في نظم القصائد، التي لم يبق منها إلا اللغة الفارغة من المعنى، ولم يوجد إبداع ظهر من العقل الباطن، فالشعر رصف من الجمل بُنيت على نمط القصيدة السابقة، تخلو من روح التجديد والابتكار، حتى إن البعض سخَّر اللغة الشعرية للتلاعب باللفظ، في التخميس والتقطيع، وإظهار المهارة في السجع والجناس والطباق، والبديع وبقية المحسنات البلاغية الخاوية، التي يقصد منها إظهار القوة العلمية، أو فتل العضلات كما يقول بعض الباحثين. ونكتفي بمثال واحد من هذا النمط، في قول الغزاوي، وهو يمدح عبدالقدوس الأنصاري، صاحب مجلة المنهل، بمنظومة بعنوان (هيهات):
(ما حاز غيرك ما ملك
مهما تكاثر ما ملك
هيهات يجهل منهلك
في الفضل إلا مَن هلك)
ونجد في شعر هذه الطبقة من الشعراء المحافظين، حسنة المحافظة، وسيئة التقليد الذي أخرج الشعر من وجدان العاطفة الحارة إلى برودة النظم الخاوي، واستهلاك اللغة في تلاعب لا طائل من ورائه، مسخ جمال اللغة ونضارتها، في أسلوب السجع والجناس والطباق وغيره، وحوَّل متعة النص الشعري والذوق الجميل إلى درس نحوي أو بلاغي لا قيمة فيه، أوقفه البعض على تراكيب لغوية نحوية، فلم يعد هناك توافق بين النص كفكرة، وبين اللغة كوسيلة نقل غير مباشر.
وهذا مثال لهذا النمط الضعيف، من قصيدة للسنوسي، يقول منها:
(ومفرد بالمعالي جاء منحصراً
في نعته المبتدأ المرفوع والخبر
وجازم الفعل والماضي بظاهرة
ومن سواه ضميره جاء يستتر
والحذف والنصب من حرف البناء إذا
ما جاء فهو على شأنه ينحصر)
وهذا النموذج العلمي لا يتعدى إظهار القدرة على المعرفة العلمية في النحو والبلاغة، ليس في النص روح تجذب القارئ الباحث عن المتعة والجزالة اللغوية إلى قراءة نصوص كهذه، وما يزال هذا النموذج التقليدي المركب من عدد من ألفاظ القصائد العربية السابقة موجوداً عند بعض الشعراء الناظمين إلى اليوم، عند العشماوي والدبل وابن خميس وغيرهم، وإن كان هذا النموذج يجد قبولاً من بعض المتلقين، فإن هذا الملتقي لا يعرف من النص إلا ظاهره، فيما وظفه الشاعر من الألفاظ الجزلة، من خزانة الشعر الجاهلي، وصدر الإسلام، واستعمال المثيرات اللغوية في بداية القصائد؛ كالحكمة، واستعمال مفردة مثيرة للانتباه، مثل (الدوي) في قول فؤاد شاكر:
(دَوَى الصوت فارتاعت قلوب لصوته
وشلت من الباغي الغوي أنامله)
يقول عبدالله حامد: (وليس في الموضوع دوي ولا هول ولا فزع، إنما هي صحيفة تصدر، ليست شيئاً يحدث هولاً أو دوياً، لكنها الكلاسيكية التي اعتادها الشاعر للتفخيم والتعظيم، وروح الخطابة والحماس في الشعر، التي تجعل صدور صحيفة كفتح مدينة أو هزيمة جيش). وإن مَن يدقق في هذه القصائد يجد فيها عدم الوحدة العضوية للنص الشعري؛ لأنها هجين من عصور مختلفة أو من عصر واحد لعدد من الشعراء، أو منتحلة من قصيدة لشاعر واحد. ويكفي ما ضربنا من أمثلة على ذلك، ولو أن في المساحة البحثية سعة لضربنا أمثلة أكثر من ذلك بكثير على شعرنا المعاصر. ولم يكن النقد غائباً عن هذه العيوب التي بُلي بها شعر بداية النهضة في الأدب العربي؛ فقد تصدَّى العقاد والمازني وطه حسين للشعر التقليدي في مصر، ومحمد حسن عواد للشعر السعودي التقليدي. ولم يكن ذلك النقد بالنقد الموضوعي في جملته، ولم ينظر الناقد للظرف التاريخي لظهور هذا التيار ومعالجته على ضوء المعطيات الفنية، لكنهم أخذوا بمقارنته بالشعر الغربي، الذي قطع أصحابه شوطاً طويلاً في التعليم والممارسة النقدية والتقويم المستمر من نقاد محترفين، وشعراء لم تنحصر ثقافتهم في محيط واحد، سيطر على العقل الباطن، وحوَّله إلى العقل الظاهر، وبالتالي جاء الفن نقلاً وليس إبداعاً.
الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
تشكيل
كتب
ذاكرة
مداخلات
الملف
الثالثة
مراجعات
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved