الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السياراتالجزيرة
Monday 03th July,2006 العدد : 160

الأثنين 7 ,جمادى الثانية 1427

عاصي ومنصور الرحباني
* بيروت - عبدالكريم العفنان:
ظاهرة فنية غير عادية عرفها الشرق، ومعها تعرف إلى نكهة جديدة مطعمة بالأصيل القديم، وموشحة بقالب أنيق من حس وذوق ونظرة إلى عالم الفن غير محدودة.
بدأ الأخوان عاصي ومنصور الرحباني في أواسط الأربعينيات، وبرزا مع مطلع الخمسينات، مدرسة في التأليف والتلحين أثرت في شعراء لبنان والعالم العربي وفي الألحان اللبنانية والعربية معاً.
ولد عاصي في أنطلياس سنة 1923 (وتوفي سنة 1986) ومنصور سنة 1925، ونشأ في بيئة قريبة من الفن.
دخل عاصي سلك الشرطة في بلدية أنطاليس، ودخل منصور سلك الشرطة العدلية في بيروت، لكنهما معاً درسا على الأب بولس الأشقر الموسيقى الشرقية، وعلى الأستاذ برتران روبيار علم التأليف الموسيقي الغربي.
انطلقا بأعمالهما تحت اسم (الأخوين رحباني)، وبه أن أدخلا الإذاعة اللبنانية لوناً فنياً جديداً جمع الفولكلور اللبناني إلى تراث عربي وإسلامي وماروني وبيزنطي وأرمني، إرثاً شرقياً متجذراً في الحضارات.
كانت شخصيتهما مميزة فإذا كل ما أبدعاه مميز وجديد، ووضعا هرمونيا خاصة وتوزيعاً آلياً للأرباع الصوتية الشائعة في السلالم الموسيقية الشرقية وكان الخبراء يجدون تلك الأرباع غير قابلة للتوزيع.
أعادا إحياء الموشحات الأندلسية والقصيدة الغنائية.
قدما من إذاعات: الشرق الأدنى وبيروت ودمشق لوحات غنائية وتمثيلية أحبها الناس لجديدها.
عام 1952 أصدرا ديوان شعر بعنوان (سمراءُ مها).
عام 1955 تزوج عاصي من نهاد حداد (فيروز) فاكتمل ثالوث عاصي - منصور - فيروز الذي اجتاح الشرق.
أسسا المسرح الغنائي فانتمى إليهما مختلفاً عن الأوبرا والأوبريت، وطرّزاه بغرابة وشاعرية حملتاه نحو الفلسفة والإنسان، وكانت رسالته التغيير من ضمن ثالوث: الله - الأرض - الإنسان، وجاء صوت فيروز الفريد الآسر فحمله إلى آخر الدنيا.
صدرت عن الأخوين رحباني أطروحات عديدة من الإبداع والعطاء: أغنيات، لوحات، وموسيقى، أكثر من خمسة وعشرين مسرحية غنائية، مئات الحفلات في لبنان والبلاد العربية وأوروبا والأميركيتين، عشرات الحلقات التلفزيونية، ثلاثة أفلام سينمائية (بياع الخواتم، سفربرلك، بنت الحارس) هي اليوم من أجمل ما شهدت السينما اللبنانية والعربية من أعمال.
عاصي ومنصور الرحباني أكثر من خمسين عاماً من الزمن اللبناني المختلف عما قبله، وقد يكون مختلفاً عما سيجيء.
عندما يذكر منصور الرحباني فإنه يعني حلقة أساسية من حلقات العمالقة في الفن المسرحي الغنائي المعاصر. فعلى مدى ثلاثة أرباع القرن العشرين فتح الرحباني الكبير طريقاً واسعة على استلهام التاريخ العربي والإنساني وحوّل الماضي إلى عبرة الحاضر واستشراف المستقبل برؤية العارف المدرك لطبيعة وهموم أمته وإنسانيته.. لقد كان الرحباني الكبير ولا يزال سيد الدقة والتفصيل المسؤول عن كل كلمة ونغمة وقصيدة، فهو الشاعر والموسيقي والمؤلف المسرحي والمفكر والمؤرخ والمؤمن الذي أسس منذ انطلاقة صوته الأول مع الراحل عاصي الرحباني أبرز عناوين الإبداع العربي، وفيما يلي نص الحوار الذي أجرته الثقافية مع الأستاذ منصور الرحباني:
* المسرح الغنائي الرحباني صفحة مهمة جداً في كتاب الإبداع الفني العربي المعاصر.
هل هناك قضية مهمة كان ينبغي معالجتها ولم تفعلوا؟ وإذا وجدت فلماذا؟
- بلغت تجربة الأخوين رحباني حوالي الستين سنة وما زال هذا العطاء يزيد توهجاً (كلما مرت الأيام) ويبرهن أنه رؤيوي سبق زمنه. أنشد للشعوب والبلدان فهي التي تبقى والأسماء تزول. اتحد بآلام المعذبين والمشردين، اعتنق آلام الشعب الفلسطيني فكانت (راجعون) (القدس العتيقة) (جسر العودة) (خذوني إلى بيسان) (يافا) لقد بدأت هذه الحركة ب(راجعون) سنة 1944 حتى أن هناك من سمى الأخوين رحباني آباء العمل الفدائي.
مَثّلْ من خام (جسر العودة)
يدخل آلاف الأطفال
من ولدوا الليلة في الخارج
عادوا كالبحر من الخارج
تقفون كشجر الزيتونْ
كجذوع الزمن تقيمونْ
كالصخرة كالشجرة في
أرض الديار تقيمون
وسلامي لكم
يا أهل الأرض المحتلة
يا منزرعين بمنازلكمْ
قلبي معكمْ وسلامي لكمْ
والمجد لأطفال آتينْ
الليلة قد بلغوا العشرينْ
لهمْ الشمس، لهم القدسَ
والنصر وساحات فلسطينْ
أما مسرح الأخوين رحباني، فهاجسه الله والإنسان والحرية، الإنسان عطية الله على الأرض، هذا الوجود الهارب، جاء ليحيا الفرح والمعرفة. لا أن يسحقه الفقر وتفترسه هموم معيشية وأنظمة.. إن سفينة هذا العالم تتجه إلى الأسود والمأساوي، يقودها مغامرون يلهون بمصير الأرض والبيئة والكائن البشري، فكل ما يحدث يزيد من اللا عدالة واللا مساواة هناك ناس ما زالوا مقموعين في أكثر الأنظمة التي تدعي الحرية والسلام.
إن مسرحنا ملتحم بوجع الإنسان أينما كان ففي مسرحية (ميس الريم) يقول أحد المشردين: (ما وقع ظلم على إنسان بآخر الأرض إلا وعليّ وقع...
* مع اعتبار فارق الزمن والبيئة، ما هي أهم الفوارق بين المسرح الغنائي المصري في مرحلة سيد درويش وبديع خيري، وبين مسرح الأخوين رحباني؟
- لا مسرح غنائياً في العالم العربي إلا مسرح الأخوين رحباني، وعذراً، فأعمال سيد درويش، وبديع خوري، هي ما يسمى بالأوبريت وهي متأثرة بالفرق الإيطالية التي كانت تحضر إلى مصر.. أساساً هناك فرق في معالجة النص الموسيقي بين الأوبريت والمسرح الغنائي الغربي ، أما مسرح الأخوين فهو محض اختراع رحباني شرقي. نابع من أرضنا وتراثنا وكل الحضارات التي عبرت..معالجتنا للمجاميع الكورالية مختلفة، كذلك لغة التخاطب الحواري الموسيقي.. والتوافقات الهارمونية.
أما النص الرحباني فهو متوتر وعميق وأكثر وحدة وشاعرية ودخولاً في العمق الإنساني. هناك أكثر من عشرين أطروحة كتبت حتى اليوم ونوقشت منها في السوربون ومنها في لبنان والبلاد العربية، حول فكر الأخوين رحباني والمواضيع التي طرحها، من الفكر السياسي، إلى قضية الموت والحرية، العدالة والضمير.. الخ، إن المسرح الرحباني بات ذاكرة الناس وخبزهم.
* ما هي التجارب التي تأثرتم بها في مسرحكم الغنائي؟
- نحن أبناء شعبنا، أبناء المعذبين الفقراء جئنا من آلامنا وأوجاعنا، من جبال ثلجية من أودية صخرية، واخضرار لا يحد.. نحن عرب البحر المتوسط، تأثرنا بالموسيقى العربية، والإسلامية، السريانية، البيزنطية، والأرمنية، تأثرنا بتراث الفكر العالمي والموسيقي الكلاسيكية، ولكن عندما أعطينا، جاء هذا العطاء مختلفاً عن كل ما سبقه، نحن نأتي من مقولة شكسبير: (نكون أو لا نكون تلك هي المسألة) فإن لم تكن مختلفاً وجديداً فلا مبرر لوجودك...
* هناك من يجد مسرحكم القديم أكثر حميمية، أو جاذبية، إذا جاز القول، كما يوجد من يفضل المسرحيات الحديثة ، كيف تنظر إلى هذه المسألة!!!
- (هناك من يجد) القول المنسوب إلى مجهول، لا قيمة له، فهو نوع من شائعات يبثها ناس يخافون المواجهة.. أما قولك أكثر حميمية وجاذبية، فإن الكثيرين يرون بالعمل ذكرياتهم وماضيهم وقد صار العمل القديم جزءاً من فرحهم وحزنهم.. أنا أحد صانعي المسرح القديم ومستمر في المسرحيات الحديثة لا أفصل هذه عن تلك إذن أنا في الاثنين. إنما هناك تغيرات تفرضها الحياة. فاللغة كائن حي يتطور مع الإنسان ويرافقه فقد أصبحت أكثر واقعية والمشهد المسرحي أسرع إيقاعاً والموسيقى أكثر شراسة وأنت ابن الحاضر لا تستطيع الكتابة بلغة الأمس، وإذا كان كل ما يجري على المسرح هو لتفسير النص كما يقول رئيس دراسة المسرح في هارفارد فإن الإخراج والإضاءة الذين اعتمدناها في مسرحنا الحديث أبرزا ضخامة الأعمال وجماليتها التي كانت محجوبة عن المشاهدين ووقفنا في مصاف الدول ذات التاريخ العريق في الإخراج، فنحن على مستوى لندن وبرودواي إخراجاً وباعترافهم..
* هل هناك ما كنت تريد قوله مع عاصي عبر مسرحكما الغنائي ولم تقله بعد؟!
- الإنسان ينبوع يفيض دائماً والأحلام منها ما يحقق ومنها ما يسقط على الطريق، فإذا بطل الحلم سقط الإنسان في العدم. لقد حلمنا وطناً لنا وللآخرين، كتبنا شعباً يقاتل عن أرضه ويستشهد لأجل ترابها. كتبنا صبيه على شرفتها تنتظر حبيبها ومزهريات ورد على شبابيك.
سميناه لبنان الأخضر فصارت شعراً، كتبنا إنسان التغيير والطموح وحلمنا بوطن رؤيوي عظيم، ناقشه الكثيرون. منهم من يقول إننا ضللنا اللبنانيين فاخترعنا وطناً لا يتحقق، ينهار عند أول هبة ريح، ومنهم من يقول أنه صلب وشيك التحقيق شعاره الحق والخير والجمال، لا أحد يرفض هذا الشعار وهو ينتظر مجيء المؤمنين بالتغيير وقد بات الموعد قريباً..
* ما هو مستقبل المسرح الغنائي الرحباني وإلى أين يتوجه الجيل الرحباني الجديد كما ترون الأمر من موقعكم، وهل يصل اهتمام هذا الجيل بالقضايا الكبرى إلى السوية التي ترضيكم كقضية الحرية وشؤون الناس المسحوقين مثلاً.. كما تجلى هذا الاهتمام في مسرح عاصي ومنصور القديم.
- الرحابنة الجدد هم أبناؤنا نشؤوا في محيط يبحث في الحق والحرية، الوجع الذي أوجعنا أوجعهم والعذابات التي صهرتنا صهرتهم وقد تثقفوا فكرياً وموسيقياً وأن اهتمامهم بالقضايا الكبرى واضح في إنتاجهم ، وإنما على طريقتهم فكل إنسان عالم قائم بذاته...
* سمعناك تصف مسرحكم أحياناً بأنه مسرح شامل هل من إيضاح لهذه الصيغة؟
- اسمية المسرح الشامل لأنه يشمل جميع الفنون المسرحية من أجل تفسير النص كما سبق وقلت ففيه تمثيل، وغناء، ورقص، ورسم، وديكور، وإضاءة، وأوركسترا.
ختاماً لا تكبر ولا غرور إن هو إلا اعتراف بالظاهرة الرحبانية التي غيرت موسيقى الشرق وتأثر بها معظم الشعراء والموسيقيين من المحيط إلى الخليج ووضعت عنها الأطروحات والكتب فأصبحت وطناً وترثاً.
الصفحة الرئيسة
عدد خاص
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved