الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السياراتالجزيرة
Monday 03th July,2006 العدد : 160

الأثنين 7 ,جمادى الثانية 1427

رحلتي مع صوت فيروز..من بغداد إلى بيروت
سحر طه

صوت فيروز كان يسري عبر أثير إذاعة بغداد كل صباح. لا أدري منذ متى، لكني منذ وعيت كان ينتظرني هناك، ينساب من الراديو في مطبخ بيتنا، وهو ما برح رفيق العائلة والطفولة.
نفيق في الصباح، نشرب صوتها مع الشاي المخدّر بطعم الهال قبل أن ننطلق إلى المدرسة. لا أدري ما السر، لكن صوتها يبقى طوال النهار يهمس في داخلي، يسري في شراييني، في أوردتي، يختلط بدمي، يخدرني، أسرح بخيالي، يسرقني من الدرس، أشرد معه في الفيافي والساحات والتّلات، أردّده وفجأة أصحو على صوت الجرس يعلن نهاية الحصة، والنتيجة لا درس ولا من يفهمون.
درس واحد كنت أدخله بشغف وانتظار ورغبة هو درس (النشيد)، لا لكي أغني فحسب، بل لكي أتعلم أناشيد فيروز وأغنياتها الوطنية التي كانت تُقرر ضمن منهج تعليمنا في هذه الحصة.
أذكر أنني في سنوات طفولتي الأولى، في الابتدائية، سمعت فيروز وهي تغني لفلسطين فاعتقدتها فلسطينية تغني أرضها المسلوبة، تدق أجراس العودة وتبث حنينها إلى مدينة القدس، زهرة المدائن، فكنا نقف في الاصطفاف أو الطوابير الصباحية في الساحة وقبل دخولنا إلى الصفوف ننشد (سيف فليشهر... الآن الآن وليس غداً أجراس العودة فلتقرع..) أو (شوارع القدس العتيقة)، فكانت هذه البذرة الأولى التي ولدت لدي الشعور أو الوعي بما يسمى (قضية فلسطين) وصراعنا نحن العرب مع إسرائيل. إذن تعرفت إلى القضية أولاً من فيروز، لا من كتب التاريخ، ولا أصغيت للكبار أو فهمت عن ماذا يتحدثون، ولا من الأخبار، وفيما بعد كانت تأتينا نحن الأطفال المعلومات تباعاً، ورويداً. فكانت أغنيات فيروز السبب الذي دفعني، وأثار لدي الحماسة، وأنا بعد في العاشرة للنزول إلى الشارع وترك المدرسة لأشارك للمرة الأولى في حياتي في مظاهرة في شوارع منطقتنا، وهي بالمناسبة اسمها (شارع فلسطين) وذلك في يوم الذكرى المشؤومة لوعد بلفور. وما زلت أذكر الحماس الشديد وأنا وزميلاتي نردد الهتافات ضد بريطانيا وإسرائيل ونغني (سيف فليشهر). ربما لم يكن اعتقادي هذا بعيداً كثيراً عن الواقع، ففيروز بالفعل، والأخوان رحباني، أكثر الفنانين الذين قدموا أعمالاً لفلسطين، وربما أكثر مما فعل فنانون فلسطينيون، حسب الشاعر محمود درويش. أعمال عديدة لا تزال المعين الأساسي والمرجع وإليها العودة في كل مناسبة، فطالما القضية مستمرة، لن نجد أكمل وأبدع وأكثر مناسبة من أغنيات ومن صوت كصوت فيروز يعبر عن حالة الحنين الدائمة إلى الأرض المسلوبة.
ينقل إلينا الباحث والكاتب فواز طرابلسي مقتطفات من مقالة للشاعر درويش بعنوان (تلك الأغنية وهذه الأغنية) يقول فيها: (... لقد أشهر الفلسطيني هويته الجمالية بالأغنية الرحبانية العربية.. حتى صارت هي إطار قلوبنا المرجعي، هي الوطن المستعاد، وحافز السير على طريق القوافل الطويل).
ولعل الأمثلة كثيرة على مثل هذه الأعمال: (راجعون)، (خذوني إلى بيسان)، (غاب نهار آخر)، (زهرة المدائن)، (شوارع القدس العتيقة)، (جسر العودة)، (يا جسراً خشبياً)، و(أجراس العودة). عاشت فلسطين في ذاكرة كل طفل عربي، لا عراقي، أو لبناني أو سوري فحسب، ولا في أذهان الكبار قضية فقط، ترسخت أكثر من خلال ذكر تفاصيل الحياة هناك، والحلم، حلم العودة المضمخ لا بالدم بل أيضاً بالأمل. (سنرجع يوماً إلى حينا)، ما زالت الأغنية حتى اليوم، بل أكثر من أي وقت مضى، أكثر أغنية أرددها لا شعورياً. أجمل أغنيات فيروز الفلسطينية وأروعها على الإطلاق، تنساب من بين شفاهي في غفوتي ويقظتي، في حلمي ومنامي، أصحو لأجدني أدندنها، أنام فأجدني أتمتم بها، لا أدري كيف ولماذا تأتي على لساني دوماً وفي غفلة مني.
وفي سذاجة الطفولة كنت أعتقد أن فلسطين قاب قوسين أو أدنى من أهلها، أو أنها على مرمى حجر، وما على الفلسطينيين سوى العودة إلى ديارهم، وسيجدون الأبواب مفتوحة أمامهم وما عليهم سوى الأمل والإصرار والتعالي على الجراح وغناء أغاني فيروز وستفتح السماء أبوابها تلبية لدعواتهم.
في إحدى المناسبات في السنة الماضية، كانت لدي حفلة، فقررت أن أغني هذه الأغنية بعد أن أتعبتني. أتعبني رنينها في رأسي وتردادها الدائم في حنجرتي وأكثر من ذلك دموعي الحارقة التي ترافق كل جملة ومشهد من مشاهدها المبدعة، قلت ربما أرتاح منها بعد أن أؤديها على المسرح، لكن.. لم ينجح الأمر. لا تزال الأغنية باقية، معشعشة في وجداني.
هل السر في ذلك الكم التعبيري الهائل الذي وضعه الأخوان رحباني في صياغتها كلمات ولحنا؟ أم هو صوت فيروز الذي غلفها بتلك الهالة الإلهية البراقة وذلك الحنين السافر إلى مكان الطفولة، إلى الأرض (... هنالك عند التلال تلال تنام وتصحو على عهدنا..). تعالوا نستعيد معاً أغنية طفولية مثل: (طيري يا طيارة طيري يا ورق وخيطان، بدي إرجع بنت صغيره على سطح الجيران، وينساني الزمان على سطح الجيران).
يصور تماماً الطفولة العربية، وبالأخص هو يحاكي بيئتنا العراقية بالذات. كنا أطفالاً نصنع طائراتنا الورقية البسيطة بأيدينا، كنا نجلب ورقاً عادياً نقصه على شكل مربع أو شكل (معين) بقياسات مختلفة كبيرة أو صغيرة، ونأتي بقضيب من سعفة نخلة، نقص منه بضعة قضبان رفيعة، نشذبها بالسكين حتى يصبح كل منها رفيعاً بسماكة مليمترات، نضع في كل طيارة قضيبين على شكل صليب، نقوّس أحدهما في شكل نصف دائرة ونثبتهما بالخيطان، ونأتي ببكرة خيطان سميكة ومتينة ونربط طرف خيطها بوسط الطائرة فتصبح جاهزة للتحليق في السماء. ثم يبدأ السباق، نتسلق سلالم البيت، إلى السطح، كل منا على سطح بيته، يبدأ كلّ منا برفع طيارته الخاصة حتى يأخذها الهواء، ونتحدى من الذي (ينجّمها)، يعلّيها أكثر من غيره، تبتعد فتبدو مثل نجمة صغيرة في السماء أو طائر يلوح بجناحيه من البعيد، متعة كبيرة لعل الأخوان رحباني عرفاها في طفولتهما ليكتبا رائعة مشهدية كهذه الأغنية.
هكذا كنت أسير في الشوارع فتقبض علي صديقاتي متلبسة وأنا أردد أغنيات فيروز، وفي المخيمات الكشفية والرحلات الطلابية، كانت مدرستي الفنية حيث الاسكتشات وتقليد الحركات والوقفة ما بين ضحك وجد ولعب ومرح كانت حياة كاملة بكل تفاصيلها. صوتها، كان يحرسنا، يهدهدنا، ولا يزال في كل الأوقات، نتنشقه مثل الهواء كل لحظة، بلا توقف، بلا كلل، مثل الماء كلما عطشنا شربنا ولا نرتوي أبداً.
هذا هو صوت فيروز لا يزال رفيق طفولتنا وأحداثنا، الكبيرة منها والصغيرة، في لحظات الفرح والسعادة، وفي لحظات الحزن والحنين والذكرى، والألم والقسوة والأنين. يغذي الشرايين فتستمر حياتنا. يملس على جراحنا، يبلسمها، يطيبها مهما نزفت.
فيروز مهما كبرت تبقى في نظرنا تلك الصبية التي تكتب رسائل الغرام إلى الحبيب الغائب، تلك التي تحن إلى أرض السلام، بغداد والشعراء والصور. فتاة بخفرها وهدوئها انسلّت إلى أيامنا، كتبت ذكرياتنا، (طفلة الدهشة) كما وصفها بيان لبنان المطالب بجعل يوم ميلادها في 22 تشرين الثاني من كل عام عيداً وطنياً، وهذا أقل ما يمكن أن يقدم لرمز لبنان.
فيروز نبض الحياة، نبض القصائد نبض الألحان، نبض الذاكرة، والتاريخ والوجدان وستبقى ما مر من زمان. استعاد الرحانبة في عبقرية لافتة، مدهشة، من خلال توزيع موسيقي مبدع ومتفرد للموشحات واستحضروا ذاكرة الأندلس بكل إبداعاتها وأبعادها، وعناصرها وأشعارها، وزعوا موسيقى القديم منها أو كتبوا الشعر والقصائد ولحنوها على الروحية ذاتها، فما تلبث أن تعيدنا أجواؤها إلى تلك الحقبة الغنية الخلابة من تاريخنا الموسيقي العربي المشرف، فلا بد من فضل للأخوين المبدعَين ومعهما صوت فيروز الذي حول الغناء العربي عن مساره الذي ساد طويلاً قبلها، ومعها بدأت حقبة جديدة في تقنيات الصوت العربي المشرقي. مع صوت فيروز بات الطرب مختلف المعنى والمقاييس.
الطرب أصبح لا يعني (العُرب) فقط أو القفلات (نهايات الجمل اللحنية) استعراضية مسرحية، أو قوة الصوت، جهارته وعرضه.
مع صوت فيروز أصبح الطرب يعني حالة تعبيرية، صوفية، تأملية. حالة روحانية، إنسانية، شفافة تمثل صوت الإنسان الذي يعبر بكل صدق عن مختلف مكنوناته وتناقضات حالاته من فرح، ألم، حزن، وجع... صوت يقنع السامع بمضمون ما يغنيه، صوت الطفولة حين الضرورة وصوت الحق حين القناعة، صوت الهزل حين يتطلبه مشهد مسرحي أو صوت الجد والحماس والقوة وووغيره. والأهم من ذلك كله نتساءل: هل من صوت وحّد شعب كما وحد اللبنانيين صوت فيروز. أيام الحرب كانت بيروت منقسمة على نفسها شرقية غربية. طرفان مختلفان متقابلان يتقاتلان، يتراشقان، يتقاصفان بشتى أنواع الأسلحة، وحده صوت فيروز كان ينطلق من الطرفين، اختلف اللبنانيون على كل شيء إلا صوت فيروز. بقي رفيقهم في المتراس، ورفيقنا في الملاجئ وفي دروب الهروب من جحيم المعارك. لا ندري كيف كان من الممكن أن تمر الأيام علينا بلياليها ونهاراتها من دون صوت فيروز؟
أيضاً فيروز غيرت مقاييس الشكل الذي كانت تظهر به المطربة من قبل على المسرح، فكما عهدناها طوال مسيرتها الطويلة ومنذ انطلاقتها الأولى، كما الفيروز لم تغير لونها، فيروز هي هي. مذ بدأت خطوتها المسرحية الأولى كان لها إطلالتها الخاصة. وقفة ثابتة، هيبة، جدية، فخر، شموخ، ثقة بالغة، احترمت نفسها، لا مياعة، ولا إغراء، صورة لمطربة لا تشبهها صورة مطربة أخرى في عالمنا العربي وفي أي زمان.
وجه صارم، ملامح لا تنساق بسهولة إلى أي نوع من المؤثرات، لا جمهور بالآلاف يلوح لها، ولا أضواء، ليس سوى ما يجذر صورتها أكثر فأكثر في أعماقنا. عينان واسعتان لامعتان أبداً، محدقتان في نقطة واحدة، لا التفاتة ناقصة أو زائدة. ثغر يكاد لا يفتر إلا عن الغناء، لا ابتسامة إلا نادراً. جسد ناحل لا يهزه إيقاع ولا يستدرجه نغم. لا خطوات إلا ما يتطلبه المشهد المسرحي وما رسمه لها المخرج. صحيح أن هناك إجماعا حول فنها المبدع، لكن أيضاً بضعة آراء متطرفة سطحية تتناول أحياناً الشكل الثابت الذي تحدثنا عنه، إذ يعتبره البعض قاسياً، وملامح الوجه جامدة لا حياة أو تعابير فيها حتى في التمثيل المسرحي. البعض يقول لا نجد تعابير فرح أو حزن. لا ثورة، لا خضوع، بمعنى أن ملامحها محايدة لا تظهر تعاطفاً مع المضمون كما يظهره صوتها. فيما ترى الغالبية العظمى، ونحن من ضمنها، في ذلك الوجه وتلك الملامح قوة سحرية، سرية، غامضة، تجذب الناظر إليها بل وتجعله يطيل النظر من دون ملل، فربما السحر والجاذبية في اعتقادنا يتجليان في عينيها، في أحداقها الواسعة، وسع البحر، بحر لبنان، فالناظر إليهما يغوص في الأعماق محاولا اكتشاف الأسرار التي تحملها المرأة في حناياها وبين ضلوعها وفي فؤادها وفكرها، وليس من جواب شاف يأتينا عن هذه التساؤلات، وإلا لما بقينا حتى اليوم نبحر مع صوتها، ووجهها الأيقوني وجسدها الناحل يكاد يذوب ولا يأخذ حيزا من الخشبة يذكر.
لكن في غرابة الأساطير، حين تطل على الخشبة تتراقص الأخيرة تحت قدميها، فرحاً وخشوعاً من رهبة دعسات ناعمة، ثم تنتفض المدرجات وتصطخب الأصوات وتهلل الحناجر وتشتعل الأيدي وتضاء الولاعات والشموع نذورٌ بالآلاف. فما السرّ؟؟؟ كائن ضئيل، إطلالته تعادل إطلالة مارد. كائن نود أن نلمسه، لكنه يبدو خرافياً أكثر منه حقيقياً. كائن بقدر حضوره وطغيانه وسلطته، رمزي، لا يلمس.
نفكر: لا شك أن إرادة حديدية وذكاء وراء هذا الشكل الثابت والشخصية الواحدة طوال عقود، وإرادة كبيرة في نبذ إغراءات الأضواء والشهرة، والغنى والقدرة على رفض الظهور في الإعلام المرئي والمسموع والمقروء إلا ما ندر.
عندما انتقلت إلى بيروت عام 1980، أغاظني بل أحزنني أنني لم أر فيروز في أي مكان عام، أو وجهاً لوجه. اعتقدت إنني ذاهبة إلى بلد فيروز إذن سأراها في كل ساعة وفي كل شارع أو زاوية. كنت سأعرب لها عن مدى حبي منذ الطفولة، عن حب شعبي وصديقاتي وأهلي وعشق بلدي لها.
سأخبرها كم نعشق أغانيها، ونغنيها منذ الصباح وحتى المساء، في المدرسة وفي الجامعة، أود أن أخبرها أول ما غنيت على المسرح في أول حفلة لي على الإطلاق، ضمن الجامعة برفقة فرقة غربية (لا تخت شرقي): أغنيات (كان الزمان وكان)، (كان عنا طاحون) وغيرها، وبالطبع عشرات المغنيات فعلن مثلي.
وحين التقيت زميلي في الجامعة، الذي أصبح زوجي فيما بعد، سألته عن فيروز، وحين أصابنا كيوبيد بسهمه، رحت أحفظ أغنيات فيروز وأرددها على مسامعه ليصحح لي اللفظ، وأحياناً كنت أكثر إصراراً فأسجل بصوتي كاسيتات كاملة وأطلب منه سماعها وتصحيح الأخطاء وتفسير ما أعجز عن فهمه، وهكذا تعلمت اللهجة اللبنانية بسرعة. وأحياناً كنا نتراسل كعاشقين بكلمات أو مقتطفات فيروزية. منذ سنوات بدأت أراها عن قرب في المهرجانات، حين بدأتُ تغطية النشاط الموسيقي في لبنان كصحافية، والحقيقة احترمت موقفها هذا من الظهور الإعلامي، لأنه جنبها المهاترات، والقيل والقال ولَوك الألسن والأقلام لحياتها الخاصة، وأبقاها رمزاً للصفاء، وأيقونة ناصعة، لا خدش فيها، تزداد قيمتها كلما عتقت، لكن أيضاً بقيت مادة طازجة ولا تزال للبحث والكتابة والتحليل. عشرات المقالات والكتب في الوطن العربي، تتناول فنها الأسطوري وقليلاً شخصها كإنسانة.
أي سر في هذه المخلوقة، المعشوقة، المنذورة، المأسورة، المرموقة، الساحرة، المسحورة، الأسطورة التي لن يأتي الزمان بمثلها إلى حين، تلك التي اسمها فيروز؟.
الصفحة الرئيسة
عدد خاص
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved