الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السياراتالجزيرة
Monday 03th July,2006 العدد : 160

الأثنين 7 ,جمادى الثانية 1427

هل كانت فيروز جزءاً من الرحابنة فنياً؟
علي العائد

لعل الإجابة بنعم، أو لا، على هذا السؤال، تحتاج إلى برهان، فهي، في الحالتين، ليست بدهية. فالإخوان رحباني، عاصي ومنصور، كادا، أو لم يكادا يبدآن رحلتهما الفنية حين تعرفا إلى فيروز (نهاد حداد)، وبالتالي هما لم يحققا حضوراً فنياً كبيراً آنذاك.
ومن الصعب، بل من المستحيل، أن نفترض أنهما كانا سيحققان دون فيروز ما حققاه،... وهذه المقدمة لن تقدم إجابة (نعم، أو لا) على سؤالنا.
وفيروز، التي كانت عضواً في فرقة الكورال في إذاعة الشرق الأدنى في لبنان وقتذاك، لم يكن في ذهنها، أو إمكانها، أن تختط لنفسها شكلاً فنياً، كمغنية منفردة،.. فهي إضافة إلى كونها كانت تشبع هواية وموهبة لديها من خلال العمل كعضو في فرقة الكورال، كانت بحاجة إلى راتب هذه الوظيفة، تعين بها نفسها وعائلتها على مواجهة أعباء العائلة المعيشية، وربما لم تكن تدرك، أو تتخيل عبقرية صوتها. وهذه المقدمة أيضاً لا تقدم إجابة (نعم أو لا) على سؤالنا.
ثم كانت الصدفة، المنطقية إن جاز التعبير، للقاء بين الأخوين رحباني، ونهاد حداد، وكان عرّاب اللقاء حليم الرومي، مدير الإذاعة، الذي أعطى نهاد حداد اللقب (فيروز) أو اقترحه على الثلاثي، عاصي ومنصور ونهاد، فكون هذا الثلاثي كان يعمل في الإذاعة التي يديرها الرومي، كانت عناصر الصدفة متوافرة، حتى شكلت ضرورة ما كانت قابلة للنفي، أو التأجيل، وإلاّ خسر ذاك الثلاثي، وخسر عشرات، بل مئات الملايين، في العالم العربي، والعالم، خيرات ذلك القدر الذي أنتج من الجمال ما يضاهي، وحده، كل ما أنتج العالم العربي من فن، سابقاً ولاحقاً. فهل كانت فيروز جزءاً من الرحابنة، فنياً ؟ نسوق هنا ملاحظتين للتأمل، فالأخوان رحباني كتبا ولحنا لمطربين ومطربات آخرين من أعضاء الفرقة الرحبانية (وديع الصافي، نصري شمس الدين، هدى حداد، وآخرين...) لكن الأغنية التي لم يوضع عليها صوت فيروز لم تحقق كل النجاح الذي كان لفيروز،.. أكثر من ذلك كانت فيروز الضامن لنجاح الاسكتشات (الغنائية الحوارية) مع نصري شمس الدين ووديع الصافي.
ولنلاحظ هنا أن كل من غنى كلمات وألحان الأخوين رحباني كان متاحاً للمقلدين، وكثيرون قلّدوا الصافي، وشمس الدين، وهدى حداد، وأجادوا، ومنهم من تفوق على الأصل المقلَّد. وإذا أردنا توسيع الدائرة، سينطبق ذلك على معظم عظام المطربين، من عبد الوهاب، إلى أم كلثوم، إلى عبد الحليم حافظ ، إلى فريد الأطرش، وفايزة أحمد، ووردة،... فكل هؤلاء كانت أغانيهم معادة، أومقلّدة، وتمكن كثير من المقلدين، في بعض الأغاني، من التفوق على الأصل، لكن فيروز بقيت عصية على التقليد، ليس لأن صوتها متفوق تقنياً على من حاول تقليدها، وليس لأن قوة صوتها ومساحته أوسع من مساحة تلك الأصوات المذكورة لكبار المغنين العرب، بل لأن صوت فيروز عبقري في طبيعته، وإحساسها يلتقط أنفاس الكلمات، ويفيض بالصور الشعرية، فيزيدها بهاء حدّ الفرح، وحدّ الحزن،.. وبتلك التصويرية التي تتماهى مع الكلمة واللحن، مخملاً موشىً بالذهب، كلمات عاشق إلى عاشقة.
بتلك العبقرية كانت فيروز تتعامل مع ألحان وكلمات الأخوين رحباني، بتلك العبقرية التي لا يمكن تفسيرها تقنياً، وإلاّ لكان الآخرون، المطربون والمطربات، أدوا تلك الأغاني مثلما أدّتها فيروز. ولنلاحظ هنا أن الأخوين رحباني كتبا ولحّنا لأعضاء الفرقة أغانٍ مساندة لأغاني فيروز، فكانت فيروز، حتى في الأغاني المشتركة (في المسرحيات والاسكتشات) تؤدي بعبقرية صوتها،.. ولنا هنا أن نقول: إن الأخوين رحباني كانا يعطيان فيروز المميّز العبقري من الكلمات والألحان، ليس فقط لأن عاصي كان زوجها، وهو كفنان، على الأقل، كان يعشقها ويعشق صوتها، بل لمعرفته، كفنان، بأن صوت فيروز يُتيح له كملحن أن يذهب في اللحن إلى أقصى مدى، موسيقياً، لصوت يغطي ثلاث مساحات على السلّم الموسيقي، وعبقرية إحساس، وخامة صوتية تتمادى في الجمال حتى تحيل المستمع إلى حلول في صوفية تتعشق أشكال الحروف، ونبض الكلمات،.. واسألوا من لا يجيد العربية عن إحساسه بصوت فيروز ! قد يقودنا ذلك إلى الحديث عن الجيل الثاني من الرحابنة، إلياس وزياد، اللذين كانا جزءاً من التجربة في الستينيات، حتى لا يمكن تمييز ألحانهما عن ألحان الأخوين رحباني قبل أن ينفصلا في تجاربهما الشخصية عن التجربة الرحبانية الأصل.
ولعل ظاهرة فيلمون وهبي تشكل أيضاً جزءاً من التجربة الرحبانية، فقد قدم لفيروز ألحاناً عبقرية، منها (يا ريت مِنُنْ) التي أثارت عجب وإعجاب عبقري مثل محمد عبد الوهاب. بعد ذلك أراد زياد الرحباني إدخال فيروز في مغامرته، فكان له وعليه في ذلك، لكن تلك التجربة تقع خارج التجربة الرحبانية المعروفة، ومن الخطأ اعتبارها تطويراً لتلك التجربة، حتى أن منصور الرحباني تجنب انتقادها في أحاديث كثيرة، فقط اعتبر أن الجيل الرحباني التالي للآباء له رؤيته وأدواته وثقافته وعصره، وهنا كان الاختلاف.
ولنتفق أن سؤالنا الآنف يقصد الثلاثي (عاصي، منصور،فيروز)، ولنتفق على اصطلاح الرحبانية، بدلاً من الرحابنة، صفة للثلاثي، مع تشعبات زمنية فنية، دخل فيها فنانون آخرون كمساندين لصوت فيروز بألحانهم أو كلماتهم (فيلمون وهبي، إلياس الرحباني، سعيد عقيل، زياد الرحباني، نزار قباني، محمد محسن)، فمن الواضح أن تجربة فيروز وزياد مختلفة، وإن كان طرفاها رحابنة، وكذلك تجارب الجيل الثالث، مروان وغدي وغسان، فهم لا يشكلون استمراراً لتجارب الثلاثي الرحباني. هل من المهم، أخيراً، الإجابة على سؤالنا؟.
يبقى الإصرار على بدهية أن فيروز جزء من الرحابنة، بل الرحبانية، فيه شيء من المجازفة، فالقدر الذي هيأ للثلاثي هذا الإبداع عصيٌّ على التصنيف النقدي، كون اللقاء في حدِّ ذاته يمثل إلهاماً، ناهيك عن كم الإلهام الفني الذي انساق رخيّاً، فأمطرنا بوابلٍ من جمال الكلمة واللحن، ما زال يعشب في مجدب حياتنا الروحية، حتى سرت في ليلنا أنهار وغدران تتموسق على إيقاع لا يشبه الإيقاع، وجباهٍ تتفصد عرقاً من لآلئ، وعيونٍ ترسم في مآقيها صور الطفولة والشباب والمستقبل الذي يأتي فوق ما نشتهي. نعم، فيروز رحبانية، بقدر ما كان عاصي ومنصور فيروزيين!
الصفحة الرئيسة
عدد خاص
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved