الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السياراتالجزيرة
Monday 03th July,2006 العدد : 160

الأثنين 7 ,جمادى الثانية 1427

المسرح الغنا ئي الرحباني
غازي أبو عقل

قد يكون من المفيد أن أنوه بأن كل ما لديّ من دراسات وبحوث جديرة بهذا الاسم، تعد على أصابع اليد الواحدة.. أولها رسالة ماجستير كتبها السيد جورج حداد العام 1974، عنوانها: (النزعة الإنسانية في الأغنية الفيروزية).. وهي على رغم الخطأ الفادح في عنونتها (بالأغنية الفيروزية)، تتضمن نصوص أكثرية الأغنيات، وبعض المعلومات والتواريخ المفيدة. كما أن السيد جوزيف عبيد دَوَّن كتيباً عن (أغاني فيروز) صدر في 1974 أيضاً، ميّزته المقدمة التي كتبها الشاعر العظيم سعيد عقل.
كان علينا انتظار العام 1990، لكي نقرأ الدراسة المهمة التي كتبها الدكتور نبيل أبو مراد وعنوانها: (الأخوان رحباني - حياة ومسرح - خصائص الكتابة الدرامية)... وهي فعلاً جديرة بالاهتمام.
قرأت في بعض الصحف، منذ نحو عامين أو ثلاثة، أن جامعية أردنية قدمت رسالة عن المسرح الرحباني من زاوية علم الاجتماع، ثم صدرت في كتاب غير موجود في مكتبات سورية، على ما أعرف.
أما المقالات (النقادة) أو (المادحة) التي نجدها في وسائل الإعلام المقروءة، بمناسبة عرض عمل مسرحي جديد، فهي على أهمية بعضها، لا تفي كثيراً بالحاجة إلى دراسات أكثر شمولاً وعمقاً. أما لماذا لا يتوجه بعض الدارسين المهتمين بقضايا الفن والحياة إلى هذا النبع الغزير، من أجل تحليل عناصره، فلست أعرف لذلك سبباً، هذا إذا كان واقع الحال كذلك، وقد تكون هناك دراسات لم أعرفها، ستطالعنا بها الأيام القادمة.
مسرح غنائي ينشد القضايا الكبرى
يظن كثيرون أن وجود الموسيقى والغناء والرقص في المسرحيات الرحبانية، يجعلها نوعاً من الكوميديا القريبة من الاستعراضات الغنائية الراقصة - فودفيل Vaudeville - التي كانت رائجة منذ القرن السابع عشر في أوروبا، والمبنية على الأغنيات الشعبية الساخرة.
يعرف المواكب للمسرح الغنائي الرحباني أن الإطار المصنوع من الموسيقى والغناء والرقص، المتنوع جداً الذي يؤطر كل مسرحية، يضم في إهابه قضية مركزية، أو عدة قضايا مهمة، تجري معالجتها من خلال رؤية فنية شاملة تُشرك تلك العناصر كلها، من أجل توصيل الرسالة الرحبانية إلى الناس، ملونة بتدرجات صوت (فيروز) الذي لا يشبهه صوت، ليصبح الإصغاء أو المشاهدة، متعة فنية فعلية.
في هذا الإطار المتطور باستمرار، عالج المسرحُ الرحباني قضايا متنوعة ذات أهمية كبرى، جاءت في طليعتها قضية الحرية، وقضية الإيمان، وقضية الاستبداد السياسي، وقضية الوطن والإنسان، وغيرها. وسأحاول في هذه السطور إلقاء نظرة عجلى على بعض هذه القضايا المهمة.
قضية الحرية
لا أريد، في هذه العجالة، حصر المفهوم الرحباني للحرية في إطار فلسفي محدد.
غير أن دراسة مستقلة تحلل الموقف الخاص من الحرية في كل مسرحية على حدة، ستؤدي حتماً إلى فهم أفضل لهذا الجانب.
فالمسرح الغنائي الرحباني وضعَ على رأس اهتماماته هذه المسألة الإنسانية الأزلية، في هذا العصر المضطرب، وقَدَّمها بأسلوب مشوّق سهل التناول من أكثرية الناس. وكان منسجماً مع موقف عدد كبير من الباحثين في الحرية الذين يرون ضرورة تقديم مشكلات الحرية على غيرها من المشكلات، كما أن هذا الإصرار على تناولها، مهما كان موضوع العمل المسرحي، ينسجم مع مقولة فلسفية مهمة فحواها أن الحرية وحدها هي التي تستطيع أن تتساءل عن الحرية، ونحن لن نتمكن من العثور عليها إلا في هذا التساؤل نفسه، إنها الشرط اللازم توفره من أجل البدء في حل أزمة الإنسان.
عرفَ الرحبانيان، كما عرف الذين عالجوا مسألة الحرية، أن بيت القصيد في الحياة الإنسانية، هو أن التحرر لا يمكن أن يكون مغنماً نظفر به مرة واحدة وإلى الأبد، بل هو واجب يومي يحتم علينا العمل للظفر به حيناً بعد حين.
والحرية مظهر لصراع إنساني مستمر، وليس في الدنيا شيء يمكن أن يضمن للشخصية أن تظل حرة. يصر الرحبانيان مع ذلك، على حتمية انتصار الحرية في (آخِر الآخِر). ولست أدري من أين جاءهما هذا اليقين؟
وعلى أية حال فنبوءتهما ذات شقين، تحقق أحدهما حتى الآن، لأننا ما زلنا منذ فجر الحياة نشاهد استمرار المعركة من أجل الحرية، فهل يتحقق الجانب الآخر من النبوءة في آخر الآخِر وفي سهول الزمان؟ كما قالا بصوت فيروز، في مسرحية زنوبيا التي لم ترَ النور على خشبة المسرح.
عندما يقتحم الإمبراطور الرومي أسوار تدمر عاصمة زنوبيا ويأسر الملكة العظيمة، تصرخ (زنوبيا) في وجهه: أورليانُس الانكسار بيمضي، والانتصار بيمضي.. وبكرا بالأيام، تدمر اللي انكسرت، وروما اللي انتصرت، اتنَيْنتهن حجار، وإنت وأنا تمثالين، في ساحة الآثار.
لكن، بكل زمان ومكان، بدّا تطلع روما، تطغي وتظلم.
وبدَّا تطلع تدمر ترفض الظلم... وبآخِر الآخِر، بسهول الزمان، بتنتصر تدمر، تدمر الحرية تدمر الصرخ، اللي بقلب الإنسان... بالأمس القريب كتب كارلوس فوينتس: (الحرية مأساوية، لأنها تُدرِك ضرورتَها وحدودَها في آنٍ معاً).
الوطن الرحباني
اتُّهم الرحبانيان بأنهما صنعا وطناً من خيالاتهما، أوهما الناس بأنه موجود فعلاً، وجسداه على المسرح، إمعاناً في الإيهام... لعمري، إن لم تك هذه وظيفة الفن، فماذا تكون؟ الوطن الرحباني، ليس مكاناً أو أرضاً، في كثير من الأحايين، على رغم أن فيروز قد غَنَّت من شعر سعيد عقل:
لي صخرةٌ، عُلِّقت بالنَّجم أسكُنُها
طارتْ بها الكُتْبُ.. قالتْ: تلك لبنانُ
إلا أنها، وفي القصيدة نفسها لا تعطي المكان قيمة لولا الناس، فتُنشد: أهلي (...)
من حفْنَةٍ وشذا أَرْزٍ كفايَتُهم
زُنودُهمْ، إن تَقِلَّ الأرضُ.. أوطانُ
الأمكنة مع ذلك كثيرة، وذات أسماء معروفة وموجودة على الأرض.. مينا الحبايب بيروت.. وبعلبك ومشغرة ووادي التيم وتنورين وغيرها. ومنها أوطان متخيلة، مثل ميدا في مسرحية يعيش يعيش، وسيلينا هالة والملك، ولست متأكداً من عدم وجود ضيعة في لبنان اسمها ميس الريم، لفرط ما أصبحت هذه التسمية متداولة بعد عرض المسرحية التي تحمل الاسم نفسه.
غير أن الوطن الرحباني يبقى الإنسان، فالأرض هي تلال الزارعين، هي السهول (اللي بتنبت سنابل ورجال وهياكل)، وبيادر مزروعة رجال. لأن (شجر أراضيك (تعني لبنان) سواعد أهلي الشَجَّروا.. وحجار حفافيك وجوه جدودي الـ عَمَّروا..
ولربما شفَّ الوطن، وحَلَّقَ في اللاملموس واللامرئي إلا بعيني الحلم والخيال، فيصبح لبنان، (تلجك المحبة وشمسك الحرية).. أو يا تراب اللي سبقونا.. يا دهب الزمان الضايع.. وقد يُختَصر الوطن كله في إنسان حبيب:
أنا لا أرضٌ ولا وطنٌ
أنا عيناك هما سكني
للوطن الرحباني سمات لا يكون إلا إذا وجدت، هي الجمال، والحرية والمحبة.
ذات يوم أنشدت فيروز قصيدة مطلعها: رجعتَ في المساء
اختتمتها بهذه الكلمات التي أراها لوحةً تضم عناصرَ الوطن الرحباني: أعرفُ يا حبيبي، أنك ظلٌ مائل (....) وتحت سقف الليل والمطر، وفي حضور الخوف والأسماء والعناصر، وكل ما لا اسم له في الكون، أُعلنُ حبي لكَ واتحادي بحزن عينيك وأرض الزهر في بلادي.
الإيمان في المسرح الغنائي الرحباني
يلاحظ المهتم بالمسرح الرحباني حضور ظاهرات Phenomenes، تشكل ما يمكن تسميته محطات أو لازمات Leitmotiv، قد نجدها في عدد من المسرحيات.
ولست في صدد التنويه بهذه (المحطات) كلها الآن، بل سأكتفي بظاهرة الإيمان.
للإيمان (الرحباني) معنى خاص، فهو غير مرتبط - مسرحياً على الأقل - بعقيدة دينية محددة، على رغم محاولات قام بها بعض المتعصبين لربطه بدين معين.
إنه إيمان غير (طقوسي) إذا جاز القول، إيمان غامر متعالٍ - ليس بالمفهوم الفلسفي ربما - إذا صح إدراكي لطبيعته. يتوجه مباشرة إلى (نبع الينابيع) و(سيد العطايا).. سأتناول هذا المشهد الإيماني كما عُرض في أربع من المسرحيات الغنائية الرحبانية.
أبدأ بمسرحية (أيام فخر الدين) التي تعود إلى العام 1966م، لتسترجع مسرحياً، أحداث غزو أحمد باشا الوالي العثماني في الشام - مطلع القرن السابع عشر - إمارةَ فخر الدين اللبنانية، وتتوقف عند معركة عنجر التي انتصر فيها الأمير فخر الدين يومئذ.
كانت نساء المحاربين يصلّين بانتظار نتيجة المعركة الدائرة:
(يا ساكن العالي. طلّْ من العالي. عينَك علينا. على أراضينا. رَجّع إخوتنا وأهالينا.. من هالسهل الواسع. ممحي بصوت المدافع. إيدينا مرفوعة صوبك، مثل الشجر العاري. اللي ساجد في البراري..).
استمرتْ صلاة النساء، لا من أجل الأرض والأهل، بل من أجل قضايا أخرى، ربما لم تخطر يومئذ للمحاربين ولا لنسائهم ببال. هنا ينبثق الهمّ الرحباني الدائم.. وبينما تدوّي انفجارات قذائف المدافع كانت (عطر الليل) تنشد: (عنّا بيوت سطوحا علّية ورا علّية. بوابها مفتوحة للشمس وللحرية. يا ساكن العالي. طلّ من العالي. وطَيّر الحمام.ع طراف الأيام. وقَدّرنا ننام ع إيدين السلام)..
في (جبال الصوان)، المسرحية التي قُدّمت العام 1969، كبرَتْ غربة ابنة مدلج الذي قُتل وهو يدافع عن بلاده، وعادت إلى مقاومة فاتك المتسلط الذي هزَم والدها، واستولى على جبال الصوان وحكمها بالحديد والنار.
وفي غمرة الاستعدادات القائمة من أجل التصدي لفاتك، أطلق الرحبانيان بصوت (غربة) - فيروز - صرخة إيمان: (ساعدني يا نبع الينابيع، يا سيد العطايا... الناس الموعودين ضيَّعهم الضباب، وعيون المقهورين سهرانة ع البواب. من غيرك أنا وحيدة.
خدني بإيدي...).
في العام 1972 قدَّم المسرحُ الغنائي الرحباني: (ناطورة المفاتيح). وفيها حكاية الملك غَيْبون الذي يستبد ويستغل الناس، حتى إنه أمر بفرض ضريبة تجعله (شريك النص) لكل مواطن فيما يملك. فما كان من الرعايا إلا أن قرروا ترك البلاد لـِ (غَيْبون). لكن (زاد الخير) ترفض الرحيل، لأسباب لا يتسع المجال لشرحها. (نلاحظ أن فيروز وعاصي ومنصور لم يغادروا بلادهم طوال الحرب هناك.. باستثناء رحلاتهم لعرض مسرحياتهم في بلدان أخرى).
ترك المغادرون مفاتيح بيوتهم عند زاد الخير، فأصبحت ناطورة المفاتيح التي لو كانت أسلحة لأمكنها تسليح جيش غيبون كله. لكنها على رغم كثرة المفاتيح بقيت وحيدة. فتوجَّهتْ إلى (شمس المساكين) منشدة:
بيتي أنا بيتك.
وما إلي حدا.
من كتْر ما ناديتَك. وسع المدى..
لا تهملني لا تنساني يا شمس المساكين.
من أرض الخوف منندهلك.
من أيام المظلومين..
نطرتك عَ بابي وعَ كل البواب.
كتبتلك عذابي عَ شمس الغياب..
لا تهملني لا تنساني..
تضمَّنتْ مسرحية (المحطة) التي قُدّمت في 1973 نشيداً من أناشيد الإيمان. والمحطة حكاية بلدة في جرود الجبال، تعيش على هامش الدنيا، من الزراعة، تمر أيام سكانها برتابة مضجرة.
وعلى غير انتظار تصل إليها (وردة) سائلة عن محطة القطار. تنتشر الحكاية، ويعدها السكان محتالة أو مجنونة، ولكنها تصر على أن السكان زرعوا المحطة بطاطا، وأن القطار لا بد له من الوصول (مهما تأخر جايي. ما حدا بيعرف هلّي جايي). أمام (إيمانها) بحتمية وصول القطار يقتنع المجلسُ البلدي بالحكاية فتُشاد المحطة، ويضاف إليها الفندق لاستقبال الركاب، وتشتعل حمّى المضاربة بالأراضي وتنقلب حياة البلدة.. غير أن القطار لا يصل. وتثور شكوك الناس وغيرة النساء من (وردة) الدخيلة التي قلبت عقول الرجال، وتعلو المطالبة (بقتل المحطة)..
(نلاحظ أن الرحبانيين لا يستعملان كلمة (هدم) بل (قَتْل) الأمل الذي زرعته وردة).
وعندما يبدأ الأهالي (بقتل) المحطة ينطلق نشيد إيمان رحباني مدهش:
(مهما تأخر جايي.
ما بيضيع اللي جايي... إيماني ساطع يا بحر الليل. إيماني الشمس، المدى، والليل، ما بيتسكر إيماني. ولا بيتعب إيماني... أنا إيماني الفرح الوسيع. من خلف العواصف جايي ربيع. إذا كبرت أحزاني. ونسيني العمر التاني. إنتَ اللي ما بتنساني)..
هذه لمحة عجلى عن مفهوم الإيمان، كما تجلّى في بعض المسرحيات الرحبانية، لا تغني عن الاستماع إليها موسيقى وغناء بصوت التي لا يشبه صوتها صوت... فيروز.
السلطة والسلطان
في المسرح الغنائي الرحباني
تحتل السلطة التي يجسدها الحاكم (السلطان) مكاناً بارزاً في المسرح. ولما كان المسرح يعبر عن الواقع المحيط به، بقي (السلطان) الرحباني فرداً. قد لا يكون ملكاً أو إمبراطوراً فحسب، بل قد يكون (مختاراً) - أي عمدة - أو رئيس بلدية...
يبدو السلطان الفرد، في المسرح الرحباني، في سمات متنوعة. بعض كان سلطاناً من (إنتاج محلي)، ملكاً مستبداً، أبرز نماذجه الملك غَيْبون في مسرحية ناطورة المفاتيح، أو قد يكون (والياً) طريفاً من آل أشلوح، يثير السخرية، كما في (صح النوم). وقد يكون إمبراطوراً سابقاً هارباً من الانقلابيين الذين أطاحوه، ساعياً إلى العودة إلى السلطة، ولو بمساعدة ملهب المهرِّب، كما في (يعيش يعيش).
فَرضَ تنوّعُ نماذج (السلاطين) في الأعمال المسرحية الرحبانية، تنوعاً في أسلوب المعالجة المسرحية لهذه النماذج. غير أن السمة الغالبة للموقف الرحباني من السلطة وسلاطينها، ينطلق من فكرة جوهرية فحواها: (أن كل حكم في الأرض باطل) هذه الجملة التي تختتم مسرحية (لولو). بمعنى أن الحاكم مهما حاول إرضاء المحكومين - هذا إذا كانت لديه النية الحسنة - فإنه لن يتمكن من إرضائهم جميعاً، وسيبقى دائماً من يشعر بالظلم، وهو أمر لا يطيقه الرحبانيان. لذلك كان (السلطان) في مسرحهما موضع نقد لاذع أو موضع سخرية واستهزاء، أو موضع رثاء. لم ينج من هذا التناول إلا الحاكم الذي كان يقود بنفسه مقاومة شعبه للظلم والاحتلال، كما في أيام فخر الدين، مثلاً، الذي قاوم هيمنةَ العثمانيين. أو ملك مسرحية بترا الذي قاوم الرومان.
في مثل هذه المواقف يتناسى الرحبانيان حكمتهما بأن كل حكم في الأرض باطل.. ليتخذا جانب الحاكم المقاوم. نلاحظ تنوّع اللهجة الرحبانية في معالجة أمر الحاكم.
فإذا كان متسلطاً مستبداً، أو محتلاً تركّز اللهجة على المطالبة بالحرية، وتُقدّمها على ما عداها. وإذا كان (سلطة محلية)، مختار قرية، أو رئيس بلدية، تنحو اللهجة منحى فضح الفساد واستنكار التواطؤات ضد الفقراء والمهمشين من المواطنين. لم يوفر الرحبانيان (المؤسسات السلطوية) من النقد، حتى ولو لم يتمتع مجتمع المحكومين بمؤسسات تستحق هذه التسمية فعلاً. ففي (ناس من ورق) سخرية لاذعة من أساليب المرشحين إلى الندوة النيابية ومن نوعية الذين يفوزون بمقاعدها. وفي (الشخص) سخرية من السلطة القضائية تلامس حدود التجريح. وتفضح (العدالة) التي تسير (بسرعتين) - كما يقول الفرنسيون - سرعة للأثرياء وذوي النفوذ وسرعة للفقراء المسحوقين.
لعل أكثر المواقف الرحبانية لَبْساً (لا التباساً) من الحاكم ما تجلّى في مسرحية الشخص أو (بياعة البندورة) التي مَسْرحت مرحلةً مفصلية في تاريخ لبنان المعاصر، رأينا فيها الموقفَ الرحباني من الحاكم ينوس بين الإعجاب وإبراز إيجابياته، وبين السخرية من (حاشيته) والإشفاق عليه وكشف حدود مقدرته على حل قضايا البلد. ألم تختتم (بياعة البندورة) هذه المواطنة الفقيرة التي ظلمتها العدالة نفسها - المسرحية، بنجاحها في التسلل إلى غرفة الحاكم (الشخص) ليدور بينهما حوار يلخص أزمة الحاكم الفرد الذي يحكم دون مؤسسات منتخبة، فتعود خائبة الأمل وهي تنشد:
(جينا لحلاّل القصص تنحل قصتنا ولقينا في عنده قصية يا محلا قصتنا)..
المسرح الغنائي الرحباني
تنبَّأ المتنبئون، بعد رحيل عاصي، منذ نحو عشرين سنة، بإصابة المسرح الرحباني بنوعٍ من الشلل. ولما لم تتحقق النبوءة، ووُلِدتْ سلسلة من المسرحيات، بدءاً بـ (صيف 840) مروراً بالوصية، وآخر أيام سقراط، والمتنبي، وملوك الطوائف، وحكم الرعيان، وانتهاء بـ (جبران والنبي) في صيف العام 2005م، انتشرت (نظرية) تؤكد أن هذه الأعمال دون السوية القديمة.. لا بل ذهب بعضهم إلى لوم جمهور المسرحية الأخيرة بقسوة، متسائلاً: (هل يمكننا أن نتحدث عن جمهور فصامي؟ ماذا يريد الجمهور مثلاً وهو يشاهد فناً يتخبط بين ادّعاءات فكرية وبين تهريج بحت ويقفز من مسألة إلى مسألة محولاً إياها جميعها إلى قفشات وإلى طُرَف..) لا أدعي أن المسرح الرحباني فوق الانتقاد، ولكن لا بد من الاعتراف بأهمية قرار منصور متابعة المسيرة عبر المسرح الغنائي على وجه الخصوص، فغياب عاصي، ونصري شمس الدين وفلمون وهبة، من العسير تناسيه، يضاف إليه عدم التعاون بين منصور وفيروز التي يصعب التعود على غيابها عن هذا المسرح، أطلق (نوتةً) سلبية تمنى كثيرون لو أنهم لم يسمعوها.
خيار متابعة تقديم مسرحيات غنائية، مهم جداً، ومؤشّر على أصالة راسخة، وسعة أفق، ورسوخ قدم، وقبول واعٍ لتحديات جمة.
يستدعي الأمر بعض الأسئلة، لأن (النقد) القائل إن سوية مسرحيات المرحلة الرحبانية الماضية أفضل مما هي عليه اليوم، غير كافٍ وغير منصف.
فلنترك جانباً - مؤقتاً - مسألة الموسيقى والأغنيات، فهل ننسى التطور الحاصل في (شكل) هذا المسرح، من أساليب الإخراج والإضاءة والزينة المسرحية، وتصميم المشاهد والثياب إلخ..
وهل ننسى تنوع الموضوعات وأهميتها وانعكاساتها على الواقع الراهن؟ وهل ننسى الوجوه الجديدة التي قَدّمها هذا المسرح، والأصوات التي احتلّتْ المكان المسرحي الجديد؟ ثم هل نستهين بمواهب الجيل الرحباني الثاني - دون ذكر الأسماء - سواء من يعمل منهم مع منصور أو مستقلاً عنه؟ ولا بد لنا من التوقف عند الجانب المهم في المسرح الغنائي، ألا وهو موضوع الألحان والأداء.
نلاحظ هنا أن النقاد المؤهلين فعلاً، للقيام بهذه المهمة، هم الآن قلة نادرة. من هذه القلة من لا يقيم وزناً للرحبابنة مهما فعلوا. ولا حاجة لذكر الأسماء.. هؤلاء لن يكتبوا - إذا فعلوا - نقداً موضوعياً. والقسم الآخر من هذه القِلة سيكتب إطراءً ومديحاً، لا تحليلاً رصيناً. لذلك توجد ضرورة لوجود طرف ثالث يتولى الأمر؛ لأن الموسيقى الرحبانية مظلومة فعلاً، نقداً وتجريحاً.
قرأت ما كتبه (نقاد) لبنانيون بعد عرض آخر أعمال منصور وفريقه، صيف العام 2005 (جبران والنبي)، فكان الجانب الموسيقي أقل ما حاز اهتماماً. لا بل اعترف بعضهم صراحة - وهذه فضيلة تحسب لهم - إنه غير مؤهل لهذا (النقد) ولا يُعبّر إلا عن ذوقه الشخصي.
إن من يستمع إلى ألحان مسرحية ملوك الطوائف مثلاً، لا بد له من أن يلمس فعلاً مدى السوية الرفيعة للألحان وللأداء. ولا بد لمن يستعيد ألحان مسرحية المتنبي من أن يدهش، هذا إذا كان يعرف صعوبة تلحين القصائد المكتوبة بالعربية الفصحى. ويؤسفني ذكر حكاية تفصح عما أود قوله في هذا المجال.
في عام مضى، قام أستاذ متخصص في الموسيقى، غير معروف في بلدان العروبة، لأنه لا ينتمي إلى مدرسة (الهواء) الغنائي المعاصر، قام بكتابة تحليل موسيقي فعلي لألحان (ملوك الطوائف).
وأرسل هذا (التحليل) إلى عدة وسائل إعلام (ثقافية) في أربع (دول) عربية. فلم يجد سبيله إلى النشر.. لماذا؟ من وجهة نظري أن أحداً من المحررين (الثقافيين) في تلك الوسائل لا يعرف الفرق بين مقام الحجاز كار والنشاز كار. ربما كنت قاسياً أو ظالماً في هذه الرأي. ولكن (العلم) الموسيقي ليس له مكان في الإعلام العربي.
وما كتبه الأستاذ زياد عجان، المتخرج في المعهد العالي للموسيقى العربية في القاهرة منذ أكثر من أربعة عقود من السنين.. ألقي إلى سلال المهملات، لأنه خال من (الإثارة) ولا يشد انتباه القراء.
ما زلت أذكر العمل المسرحي الغنائي الرحباني الذي شاهدته - لأول مرة - واستمعت إليه منذ نحو نصف قرن. وكيف غمرتني الدهشة والمتعة والمفاجأة معاً. وما زلت أتأمل مجموعة (التسجيلات) لكثير من المسرحيات الرحبانية المقيمة بمتناول يدي كل يوم، وأعود إلى واحدة منها، لتغمرني من جديد المفاجأة والدهشة والمتعة، كما لو أني أسمعها لأول مرة، وهذه لعمري سمة مهمة من سمات الأصالة... ومع ذلك لا نجد لهذه المسرحيات صدى - إلا فيما ندر - على شاشات الإعلام المرئي العربي المعاصر، لأن أي مسؤول عن هذه (الشاشات) لا يضمن (بقاءه) إذا قدّم لمئات الملايين من الذين لم يشاهدوا غيبونَ وأشلوحَ وألفونسو وسواهم، وهم تحت وطأة النظرة الرحبانية إلى واقع هذه الأمة السعيدة.
مع هذا كله، فأنا لن أغفر للرحابنة جميعاً ما ألاقيه وما لاقيته من عنت، كلما أردت الحصول على (تسجيل) حديث لائق، لأي عمل من أعمالهم، حتى لو بحثت عنه في بيروت... أما (الأغنيات المنفردة) التي تصدح بها فيروز التي تحجب عن الجمهور أهمية المسرحيات الغنائية الرحبانية، لأنها تتركه يعتقد أنها الإنتاج الرحباني كله، فهي ملقاة في كل مكان، مُقرضة حتماً، لتقوم دليلاً على الحيف اللاحق بالمسرح الغنائي الرحباني...
الصفحة الرئيسة
عدد خاص
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved