الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السياراتالجزيرة
Monday 03th July,2006 العدد : 160

الأثنين 7 ,جمادى الثانية 1427

موسيقا الأخوين رحباني
سلمى قصاب حسن

ولد الأخوان عاصي الرحباني (1923-1983م) ومنصور الرحباني (1925م) في قرية أنطلياس قرب بيروت عاصمة لبنان، وكان والدهما يملك منتزه فوار أنطلياس وهناك تعرفا على أعمال موسيقية للشيخ سلامة وأبو العلا محمد وأم كلثوم وعبد الوهاب، ثم جاء الأب بولص الأشقر إلى أنطلياس، وكان عالماً موسيقياً، وشكَّل جوقة الدير فانتسبا إليها وتعلما على يديه لمدة ستة أعوام علوم الموسيقا الغربية والشرقية، كما أطلعهما على مراجع موسيقية عربية هامة ونادرة مثل مخطوطات وكتب الكندي وكامل الخلّعي والرسالة الشهابية، ثم انتسبا إلى الأكاديمية اللبنانية حيث تعلما أصول الهارموني والكونتربوان على يد الأستاذ برتران روبيار لمدة تسع سنوات. لقد تشرب الأخوان رحباني ثقافات شرق المتوسط فتأثرا بالفكر السرياني والآرامي والعربي والبيزنطي واليوناني، كما تأثرا بالحضارة الأوروبية. هضما كل هذه التأثيرات وحاوراها وانطلقا من كونهما ابني هذه الأرض التي يعشقانها فأعطيا عطاءً خاصاً ومتفرداً.
أسس الأخوان رحباني مدرسة في الموسيقا سار عليها كبار السوريين واللبنانيين من مغنين وملحنين وكتاب كلمات. لهذه المدرسة أسلوبها الأنيق البسيط المتماشي مع سرعة العصر. جاء الرحبانيان في فترة سيطر فيها الفن الغنائي المصري الذي يتميز بالتكرار والإفاضة فخرجا عن المألوف ودخلا في مجال الأغنية القصيرة التي تؤديها فرقة موسيقية شرقية وغربية فقدما مادة غنائية تشد كل شرائح المستمعين وتدفع عنهم الملل. كما قدما بعض أعمال سيد درويش الموسيقية بصياغةٍ أنيقة، وصاغا التراث الشعبي لبلاد الشام بأسلوبٍ معاصر وأصيل، وعالجا فني الموشح والقصيدة بعلمٍ وحنكة، وتحاورا مع الجمهور عبر مسرحياتٍ غنائية ذات أسلوبٍ واقعي أو عبثي أو سريالي. نبعت موسيقا الأخوين رحباني من التراث فحافظت عليه وجددت فيه دون المس بجذوره وأساسه فنجحت في إيصال رسالتهما إلى الناس وهذا هو هدف كل موسيقي؛ فقدما بهذا للتراث خدمة الترويج التي لا تقل في أهميتها عن خدمة التوثيق.
لقد قدم الأخوان رحباني أكثر من عشرين مسرحية غنائية نذكر منها: جسر القمر، بياع الخواتم، الليل والقنديل، هالة والملك، البعلبكية، بترا، ميس الريم، لولو، يعيش يعيش، جبال الصوان وغيرها. تشد المسرحيات الغنائية للأخوين رحباني الجمهور بخطها التصاعدي الذي لا تربكه لحظة انزلاق. لا يشعر الجمهور مطلقاً في مسرحياتهما أنه أمام عملية ولادة الفن، على ما تحمله هذه العملية من جمالٍ في التفاصيل، لأن العالم المثالي الساحر والبسيط الذي قدماه في مسرحياتهما جعل الجمهور يتفاعل مع عالم جمالي متكامل.
موسيقا الأخوين رحباني هي موسيقا مركزة ومسؤولة ومتجددة وراقية بكل معنى الكلمة وبعيدة عن التشويق الذي يتمثل عادةً في الموسيقا الشرقية ويثير في المستمع أحاسيس ذاتية بدائية. وموسيقاهما بمعنى ألحان الأغنيات هي موسيقا متفردة؛ فهي قوية وملحوظة لذاتها ويمكن ببساطة أن تكون شكلاً موسيقياً متحرراً من الكلمة؛ كما أنها تستطيع في ذات الوقت أن تخدمها وتتماشى مع معناها.
لقد كسر الرحبانيان في أعمالهما الموسيقية الأطواق الكلاسيكية وانطلقا نحو ألوانٍ جديدة دون الدخول في المتاهة التي وقع فيها مؤلفون روس وأوربيون معاصرون من أمثال سترافنسكي حين حاولوا كسر القوالب فوقعوا في أسر قالبٍ جديد اسمه كسر القوالب الموسيقية.
التوزيع الأوركسترالي عندهما يحمل أجواء جديدة من الأسلوب الشعبي الموسيقي المحدَّث، ويحتاج إلى التمكن في العلم والحساسية الموسيقية. وأوركسترا الرحباني تعتمد على نوعين من الدوزان: شرقي وغربي. فالمدرسة الرحبانية قدمت توزيعاً موسيقياً يجمع بين تجربة الغرب وحاجة الموسيقا الشرقية للتطوير.
أدخل الرحبانيان التوزيع على الكورال، أي البوليفوني (تعدد الأصوات) في الغناء في فترة لم تكن الأذن العربية فيها معتادة سوى على اللحن الأحادي. تعامل الرحبانيان مع تعدد الأصوات بحساسية فائقة ونجحا فيه دون الخروج عن الإطار الشرقي الذي هو أساس ثقافتهما الموسيقية. لقد اكتشف الرحبانيان أن الإنسان العربي ملتصق بالكلمة وأن الكلمة مهمة له حتى يحفظ اللحن، فاستعملا مع الكورال أسلوب الدخول والخروج الفوغيان وهما أعقد شيء في الموسيقا البوليفونية. لكنهما استخدما هذا النوع المعقد على أساس جملة موسيقية واضحة الكلمات وفي مواضيع هامة تُغنى كلها واضحة على طريقة الغناء بصوتٍ واحد حتى يفهمها المستمع ويحفظها مثل جملة (وبأيدينا للقدس سلامٌ) في زهرة المدائن وجملة (أما أنت إذا أحببت) في قصيدة النبي لجبران، ثم بعد أن يفهمها الجمهور يدخلا فريقاً ثانياً وثالثاً من مغني الكورال ليغنوا هذه الجملة بتداخل فوغي بوليفوني، وبهذا لم يستغرب الجمهور أبداً هذه الطريقة المعقدة في الغناء والغريبة على الأذن العربية.
أما فيما يتعلق بإطلاقة الصوت وخاصةً بالغناء السولو أي المنفرد فلقد ارتأيا أن إطلاقة الصوت الأوبرالية كما في السوبرانو والآلتو للنساء والتينور والباص للرجال في الأوبرا هي إطلاقة قد تجاوزها الزمن لأنها وجدت لكي تسمع في صالات لا يوجد فيها طريقة أخرى لإيصال الصوت إلى كل مستمعٍ بعيد، أما اليوم فالصالات مجهزة بأحسن أنواع الميكروفونات ومكبرات الصوت بحيث يستطيع كل إنسان في الصالة أن يسمع الهمسة؛ لذلك فضل الرحبانيان في أعمالهما المسرحية استعمال تعدد الأصوات الغنائي الأوبرالي في الكورال مع إطلاقة صوت طبيعية وشرقية تنفذ إلى أعماق المستمع.
ولقد شاء الرحبانيان لإطلاقة صوت السيدة فيروز أن تكون فريدة تميزها أذن المستمع فاستعملا في تدريب صوتها تقنيات جديدة وعديدة. يقول الأستاذ منصور في مقابلة أجريتها معه ونشرت في العدد الأول من مجلة الحياة الموسيقية السورية: (...بدأت فيروز رحلتها معنا وفي جعبتها دراسة فوكاليزية (صوتية) جيدة ومعرفة بأصول التنفس حصلت عليهما من الكونسيرفاتوار حين كانت طالبة فيه، واستمرت معنا في هذه التمارين. كما أننا أخضعناها للتدريب على غناءٍ شديد التنوع. لا يوجد أغنية غربية من عاطفية إلى سريعة إلى جاز، أو أغنية ذات نغمات أوبرالية حادة إلا تمرنت عليها. لقد استغرقها هذا مجهوداً وتدريباً قاسياً، لكنه أوصلها إلى تفوقها. أما بالنسبة للغناء العربي، فهي تغني غناءً عربياً ممتازاً وصوتها فيه (عُرَب) ويقفل على الأصول...ولقد ساعدها كل ما ذكرت على تحقيق الإطلاقة الصوتية التي أردناها لها، إطلاقة شرقية مميزة وناجحة...).
ساوى الرحبانيان من حيث الأهمية بين الكلمة واللحن، ولحنا بسهولة مطلقة كل أنواع النصوص، بل لقد لحنا في مسرحية يعيش يعيش مقالة من جريدة. أخذا من الشعر الأندلسي أجمله وأخضعا معظمه لعملية مونتاج حتى يصبح أكثر استساغةً، وكتبا شعر معظم الموشحات التي قدماها. لم ينحازا مطلقاً لشاعرٍ أو زجّالٍ دون آخر بل أعجبا بكل ما هو جيد ولحناه. وأحبا البساطة في الكلمة لأنها بصدقها تأسر القلوب وتعبر عن عالمهما الجمالي المتفرِّد.
يدخل الهارموني، وهو بالمعنى اللغوي التآلف والانسجام، في التكوين النفسي للأخوين رحباني، فهما في كل إنتاجهما واحد. لم يستطع إنسان يوماً أن يعرف من مِنَ الأخوين كتب كلمات هذه الأغنية أم لحن موسيقا تلك. هما واحد، كانا وما زالا متمثلين اليوم في شخص الأستاذ منصور: ميزان الإنتاج الفني لا يشير إلى وجود اختلاف في المستوى بين ما قبل وما بعد رحيل الأستاذ عاصي. فالمتنبي والوصية وملوك الطوائف تابعت مسيرة الأخوين رحباني كما لو أن الأستاذ عاصي لم يرحل. فالمسرح الرحباني لم يخرج بعد وفاته عن الإطار الإنساني الذي عبّر دائماً عن فلسفة الأخوين رحباني في الحياة حيث الفكاهة الذكية ممزوجة بالدمعة وحيث نشعر بمزج الثقافات الموسيقية. لكن العبقرية لا تعرف الحدود وللتطور ضرورة بحكم مرور الزمن. فحتى المؤلف الموسيقي الألماني يوهان سيباستيان باخ الذي اتهم في عصره الباروكي بالرجعية لمعالجته بوليفونية العصور الوسطى، جدد فيها وجعلها موسيقا لكل العصور. لهذا نجد أن موسيقا مسرحية الوصية للأستاذ منصور جاءت في معظمها معاصرة وذات إيقاع ديناميكي متلون وهارموني حديثة. التنوع في التوزيع الأوركسترالي في الوصية مذهل، وآلة البيانو لعبت دوراً أكثر أهمية وتجدداً مما اعتدنا عليه في مسرح الأخوين رحباني. ومقدمات الأغاني في مسرحية المتنبي للأستاذ منصور هي حالة متفردة من الخروج عن المألوف واللعب المنفرد للآلات الموسيقية وخاصة الشرقية منها لتوحي لنا بمسار الزمن من أيام المتنبي إلى يومنا مشاركةً بهذا في الإيحاء بتشابك اليوم مع الأمس. الإضاءة كانت عنصراً حاسماً ساعد الموسيقا حيث تحولت الراقصات بفضلها إلى خفافيش سوداء تحيط بحالة الموت النورانية. لقد أشعل هذا الكم من الشحنات الجمالية في جمهور المتنبي حين عرضت في دمشق حالة من الحماس الوطني والقومي والإنساني مثلما فعلت مسرحية جبال الصوان للأخوين رحباني والتي نالا عليها وسام تقدير حركة المقاومة الفلسطينية، أو قصائد الشآميات التي اعتادا تقديمها كل عام في دمشق قبل المسرحية الغنائية.
وفي مقالة بعنوان (يوم زرب حياء مدينتي) كتبها السوري رفعت بنيان نشرتها جريدة النور السورية في عددها رقم 160 ورد ما يلي: (...الأخوان رحباني حكاية، حكاية هذا الوطن بهمومه الصغيرة والكبيرة. إلا يقال أن الشاعر هو ضمير الأمة؟ ومن هو أحق منهما بهذا؟ ألم يحفظا تراثنا قبل أن يضيع؟ ألم يمجدا مدينتنا بأغانٍ ولا أروع من بردى إلى سائليني يا شآم إلى شآم ما المجد أنت المجد لم يغب؟ ألم يكونا أول من غنى قضيتنا الرئيسة من سنرجع يوماً إلى راجعون إلى جبال الصوان إلى زهرة المدائن؟ ألم يلونا حياة كل فردٍ من شعبنا بأغانٍ تجعل الليل صباحا؟ أليست ألحانهما التي قاربت عامها الخمسين أجمل ألحان هذه الأمة وآنقها... لقد رباني والديّ أما الأخوان رحباني فقد شذباني وصقلاني بالحس المرهف الذي يفوح من أعمالهما، لذا أعتبرهما كوالدين لهما علىَّ الحق بالدفاع عنهما أن مسّهما ضيم...).
لقد قدم الرحبانيان في كل القوالب الموسيقية التي عالجاها حلمهما بإنسان حر وعادل يسعى للجمال، وبوطنٍ فيه مساواة وعدالة وحرية. لم يرسما وطناً في زمانٍ ومكانٍ معينين بل رمزا له بوردة على سياج وبصبية تحلم وبأناسٍ طيبين يحمون أرضهم ولا يهجروها. لقد قيل في وطنهما أنه سريع العطب لكنهما أجابا بأنه وطنٌ قابلٌ للتحقيق لأنه وطن الحق والخير والجمال.


salmakh@ureach.com

الصفحة الرئيسة
عدد خاص
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved