الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السياراتالجزيرة
Monday 03th July,2006 العدد : 160

الأثنين 7 ,جمادى الثانية 1427

الرحابنة: موسيقى تستنطق الأشياء وسيرة تكتب بـ(دو ري مي)
نصير شمه
في مسار الموسيقى العربية هناك محطات مهمة استطاعت أن تؤسس لجيل غنائي كامل، أو لأجيال كثيرة، من هذه المحطات الرحابنة الذين لا يمكن أن نكتب تاريخ الموسيقى العربية من دون أن نتوقف في محطتهم (وأعني بالجماعة الأخوين رحباني وفيروز).
نشأ الأخوان رحباني في جو موسيقي قروي متشدد، فقد كان والدهما عازفا للبزق، وكان في متناول الصبيين أن يسمعا كل ليلة أنغاما شجية تتصاعد من آلة أبيهما، وفي جو القرية بدأ الأساس الشاعري الفني، فكل شيء يلوح بالموسيقى، الشتاء و الصيف والربيع والخريف، تتابع الألوان وانهمار صوت الماء، وأصوات الطبيعة التي تمنح الموسيقى الأسمى في الوجود.
كل شيء كان ينذر الأخوين بحياة أخرى, في البداية كان عاصي الذي كان ذكيا وتفتحت مواهبه باكرا، يسمع الموسيقى ويقرأ الشعر، بل يحفظ تراثا شفويا غنيا، وما ان بدأ عاصي يخطو أولى خطواته في تأسيس حياته المستقبلية حتى أسس مجلة للشعر ليلحق به منصور ويؤسس مجلة أخرى وليصبح التنافس هو شريعة الأخوين الذين بزغت موهبتهما مبكرا، ولأن التنافس المحب يخلق بيئة خصبة للإبداع؛ فقد أبدع الرحبانيان معاً، وصارا يؤلفان وينتجان.
البداية كانت حركة ثقافية مشتعلة، فقد أسس عاصي ومنصور لمشاريع ثقافية كثيرة، ولم يقتصر همهما على الموسيقى والشعر بل انصب أيضاً على المسرح ليشمل من بعده أغلب فنون الحس.
قال منصور ذات مرة: (ان على الفنان أن يقول جديداً وإلا.. فليصمت)، وهكذا أسس الرحابنة لعرف موسيقي جديد، ولكلمة مغناة جديدة هي الأخرى، كانوا يعملون في ورشة تبدأ من أول العمل ولا تنتهي معه، يكتبون ويلحنون ويوزعون موسيقاهم من دون أن ينسوا وهم في دورة كبيرة أن عليهم أن يستمروا في تأسيس ذائقتهم الفنية ومدها بنهر ثقافي لا يتوقف عن الجريان.
ففي الوقت الذي انشغل فيه الرحابنة في خلق أعمال سيظل يذكرها التاريخ، كان الهم أيضاً منصبا على التطوير والتجديد.
يبدأ العمل ربما بالكلمة، ثم يغمر كل شيء، فهما يكتبان النص، ويمنحانه شكله اللحني، يرسمان الشخوص ويديرانها على المسرح، كان الفن يكتب سيرتهما في الوقت الذي كانا يؤسسان فيه لتاريخهما.
مع فيروز استطاع الرحابنة أن يؤسسوا لذائقة مغايرة، فكما أسست أم كلثوم مرحلة، ومثلها فعل عبد الحليم حافظ، وكما كان سيد درويش، ومحمد عبد الوهاب، كان أيضاً الرحابنة الذين أسسوا سيرة كاملة كتبت بأحرف الموسيقى.
استقى الرحابنة من الفلكلور في بلاد الشام، وأسسوا ذائقتهم على التراث، لذلك عندما أرادا أن يجددا استطاعا أن يخلقا تياراً جديداً لأنهما في الأساس وهبا نفسيهما بحثا عن تاريخ مغاير للفن.
من الموشح إلى الأغنية المختلفة، إلى اللحن الأوروبي الذي كتبت له كلمات عربية، إلى إيقاع موسيقي راقص ودبكة تحمل هوية بلدهما، إلى الصوت الذي يدخل النفس فيثير فيها الفرح والشجن والحب والأمل والألم، إلى المسرح الغنائي والمهرجانات والى الأوطان التي تُغنى بالقلب لا بالصوت فقط، إلى الشعر الدافئ، إلى كتابة المسلسلات وإعداد البرامج التلفزيونية والأفلام، كل ذلك كان خطاً رسمه الرحابنة وساروا عليه، واستطاعوا أن يبنوا تاريخاً خاصاً، بل ان يسموا كل موسيقى من لبنان باسمهم.
حتى أصبحوا من خلال الإبداع عنوانا لبلد وسموه بالفن والجمال الذي بثوه على العالم، وعرفوا بأنهم (المدرسة الرحبانية) تلك المدرسة التي استطاعت بحق أن تؤسس لأجيال متتابعة.
كانت مدرسة عائلية، لكنها استطاعت أن تجعل الوطن العربي كله عائلتها الكبيرة، إذ دخل الرحابنة كل منزل في العالم العربي، وامتدوا خارجه ليصبح لهم مريدين في العالم كله، واستطاعوا أن يجعلوا من فيروز سفيرة بلادهم إلى النجوم.
استطاع الرحابنة فعلا أن يكونوا أسرة ظل التجديد يتوالى فيها، لم يكتفوا بالتجديد في ما حولهم بل عمدوا حتى إلى موسيقاهم يجددون فيها وفي توزيعها، تماما كما قاموا بتقديم رؤية جديدة لأعمال من سبقهم على صعيد التوزيع والصوت.
ومثلما صنع الرحابنة شيئا مغايرا على صعيد الموسيقى جاء سليلهم زياد الرحباني ليكمل الطريق وان اختلفت أساليبه.
في طفولتنا عرفنا صوت فيروز يأتينا في الصباحات قبل المدارس، وفي الدروب الضيقة التي تذهب بنا نحو مدارسنا كانت كلمات الرحابنة وألحانهم ترافقنا، كانت الرحلة معهم تشبه مشواراً جميلاً لا نريد له أن ينتهي، واستطاع الرحابنة أن يدخلوا حياة كل منا بكل مفردة فيها، ففي الحب كنا نهدي أغنياتهم، وفي الحزن كذلك في الفراق وفي الألم، حتى عندما نشتاق الوطن البعيد المسيج بالحصار كان صوت فيروز المغلف بعبقرية الرحابنة يأتينا فتخفق الأوطان في صدورنا، من منا لم يستفق على (القدس يا مدينة السلام) ولأن الرحابنة استقوا من الحياة مادتهم الأولى، لم يحاولوا أن يبتدعوا لغة غائبة، أو أسطورية، أخذوا مفردات الحياة نفسها فصارت لغة أغانيهم أقرب إلى القلب، كما هي أقرب إلى اليومي والمعاش، ولعل البحث في حالة الرحابنة لا يمكن أن يدور حول الموسيقى وحدها، ففي الحقيقة استطاعت هذه المجموعة أن توجد مناخا كاملا من حالة ثقافية متكاملة لا يفترق فيها الشعر عن اللحن ولا السيناريو عن المسرح حينما يخرج صوت المغني ليكمل عملا مكتوبا، كان الرحابنة حالة متكاملة من فعل لا نستطيع أن نجد فيه ثغرة واحدة لذلك يصعب على من يريد أن يتصدى لمشوارهم أن يقرأ وجهاً واحدة لأن وجوههم كلها أصل ولا وجود لقناع.
في مسرحياتهم حضرت تفاصيل القرية اللبنانية، فتياتها بملابسهم الملونة وشعورهم المربوطة، وبكلامهم وسهر لياليهم، وكان رجل البوليس أيضاً حاضرا خصوصا أننا نذكر أن الأخوين رحباني كانا موظفين في مجال الشرطة (بوليس) في بداية حياتهما.
هم من أوائل الذين أدخلوا التوزيع الموسيقي (الهارموني) على الأغنية العربية، وتدخلاتهم كانت شفيفة وتعتمد على النظريات الموسيقية المتعارف عليها عالميا، لذلك بقدر ما كانت هذه الألحان ميلودية وعربية، كانت آفاقها مفتوحة نحو الآخر في كل مكان. عرفوا علوم الموسيقى فقادت مواهبهم نحو مراتب يصعب تكرارها في حاضرنا كحالة وكمشروع متكامل.
لو أردت الحديث تحليلا موسيقيا لمشروع الرحابنة فهو بلا شك مشروع كتاب كبير ينظر لتجربتهم وينصفها إنصاف المختص إضافة إلى انهم امتلكوا إنصاف العامة والخاصة وهذه حالة نجدها أمام العبقريات فقط والحقيقية منها.
الرحابنة عنوان لوطن وشعب ودولة.
كم أتمنى أن أخوض في تفصيلات تجربتهم لكن المجال هنا لا يتسع إلا لإعطاء وجهة نظر ليست نقدية بقدر ما هي صورة بانورامية لعالم ملأ قلوبنا حبا وشغفا بالحياة وبمفردات نعيشها في كل لحظة ولم نلتفت إليها نستطيع أن نقول ان الرحابنة استطاعوا أن يحولوا الأشياء الصغيرة المهملة التي قد نمر عليها كل يوم ولا نراها إلى أشياء تعيش في الذاكرة وتستيقظ معها في كل صباح، وتأخذ مكانها مهما كانت صغيرة وعابرة.
الصفحة الرئيسة
عدد خاص
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved