Culture Magazine Monday  03/09/2007 G Issue 214
فضاءات
الأثنين 21 ,شعبان 1428   العدد  214
 
ثقافتنا العنق!
سهام القحطاني

 

 

أنهيت مقالي الماضي بسؤالين هما: هل المثقف والمفكر السعوديان اليوم يستطيعان الوصول إلى أي منصب أو جائزة دولية؟ وهل التجربتان الثقافية والفكرية السعوديتان اليوم مؤهلتان للوصول إلى أي منصب أو جائزة دولية؟

حسبما أعتقد لا يستطيعان وغير مؤهلتين؛ لأسباب سأذكرها وفق الترتيب الذي أظنه. علينا أن نواجه بشجاعة أننا لا نملك تاريخاً ثقافياً، ولا أقصد تاريخاً وثائقياً؛ فهناك فرق بينهما؛ فالأول صانع للتجربة والثاني مجرد مركز معلومات، ومشكلتنا دائماً الخلط بينهما؛ لأن تسجيل التجربة لا يعني ابتكارها ولا يحقق إعادة صياغتها قدرة الابتكار، ولا يُغني عنها؛ أي أنها ليست بديلاً نكتفي به؛ لأن المواجهة عبر البديل غير كافية على تحريض ممارسة فعل التحدي الثقافي كإنتاج يواكب تغيير وتطور التجربة الإنسانية، ليس هذا فقط بل واحتياجات إتمام ذلك التطور والتغيير، ومحاكمة سلوك أو التبوؤ بآخر.

وهكذا يحمل الفعل الثقافي من خلال التجربة الثقافية مسؤولية الرؤية والتخطيط، وعلى مستوى إصلاحي، المساءلة والتعديل؛ فالتجربة الثقافية الجادة في أحد معانيها كشف حساب وإعداد آخر. وهذا لا يعني إنكار حق التجربة الوثائقية في إعانة الوعي على فهم طبيعة التجربة الإنسانية، الفهم كمستوى أول لسلم المعرفة وترتيب أبجدة الرؤية وليست صياغة لغتها؛ أي تقدير أهمية الدافع وقيمة الأثر، بما يعني تقديم تصور مبدئي لمنهج المقايسة، وليس مطلوباً منها تقديم أكثر من ذلك؛ أي ليس مطلوباً منها أن تنوب عن مهارة تكوين الفعل الثقافي ومسؤوليته، ولو حاولت ذلك ما استطاعت إلا كمن يُخيّر العاجز بين البحر والعدو!

وحتى لو افترضنا إمكانية استثمار البديل (التاريخ الوثائقي) لتحويله إلى تاريخ ثقافي، فهو استثمار لا يخلو من مخاطر وصعوبات، منها الفارق النوعي للخبرة من بين الماضي والحاضر، الذي يُصعّب عليك ممارسة التعميم؛ فاختصار موضوع التعميم بأن الخبرات المتشابهة هي خبرات متماثلة أمر يوقعنا في خطأ منهج التصنيف، ويلغي أثر الزمن في تطور الخبرة الإنسانية.

والخبرة ليست مجرد وصف لناتج سلوك فقط، إنها دليل إرشادي للخريطة المعرفية التي تتحرك من خلالها أفكار المجتمع، وهذا الدليل قد يصبح عائقاً؛ لأن استمراره مع التغير المستمر للخريطة المعرفية، هو مأزق صراع أزمنة؛ أي ثبات الأثر مع اختلاف الدافع، وهذا بدوره يربك نضوج التجربة الثقافية؛ لأن الأثر هو معطى رئيس لتأليف خطابها الإنساني.

وقد يقول البعض: بما أن الإنسان ذو أصول انفعالية واحدة فإنه يتلاشى مأزق الدليل المرشد، وإذا سلّمنا بذلك فنحن نراهن على الثابت أي الفطري وننسى المكتسب الذي بدوره يحمل سلطة تغير التوقعات. كما لا نغفل أهمية الشكل التقني للخبرة؛ كونه يملك سلطة التحكم في التوقعات؛ لأنه قادر على تغيير رؤية وسلوك الفرد في التعاطي مع المعايير التقليدية، وهو ما يدخله في صراع مع الدليل الإرشادي، وهو ما قد يعني خروجاً عليه، على الوثيقة الروحية المؤسسة لخريطة التفكير الجمعي، وإن كنت قد فهمت من العبارة الأخيرة أن المجتمع يربط بين الشذوذ الفكري والسلوكي للفرد بمقدار التجاوز الحاصل لوثيقة خريطة التفكير الجمعي فهو فهم صحيح.

ومن الصعوبات التي تواجه استثمار التجربة الوثائقية لتحويلها إلى تجربة ثقافية، غلبة الإطار على الصورة، وهناك توضيح عليّ أن أطرحه وهو أنه عندما أقول إن التجربة الوثائقية لا تتحول إلى تجربة ثقافية فإن هذا لا يعني عدم قدرتها على التحول إلى نص أدبي أي بنية حكائية وصياغة سردية كاملة فهي تستطيع أن تصبح نصاً أدبياً، ويمكن أن تصبح أيضاً خلفية لتجربة ثقافية عبر تقنية التناص، لكنها تظل غير قادرة على التحول إلى تجربة ثقافية؛ لأنها لا تملك ببساطة (خطاب).

نعم الفارق بين التجربة الثقافية والوثائقية، وهو الخطاب؛ فصناعة الخطاب أمر مقصود من قبل مؤلف التجربة الثقافية، وهي صناعة تعتمد على ما توفره المعاصرة من ظرفيات وآليات، أي الفارق النوعي للخبرة والشكل التقني لها والخريطة المستجدة للتفكير الفردي والجمعي، وسأفرد موضوعاً مستقلاً عن ماهيات الخطاب وآلياته وأشكاله ومشكلاته لاحقاً.

وهذا الأمر يقودنا إلى الصعوبات الأخرى التي تواجه ذلك الاستثمار؛ لأن التقوّل بلسان الحادثة أو التجربة التاريخيتين اللتين هما روح التاريخ الوثائقي والتصرّف فيهما والإضافة إليهما أو تعديلهما وفق المستجد ليخدم خطاب التجربة الثقافية، يتنافى مع أمانة التجربة المعلومة، وضرورة الالتزام بالأمانة العلمية لكل من الحادثة والتجربة أمر يعيق الخيال باعتباره إحدى أدوات ابتكار التجربة الثقافية وإحدى خصائصها الفنية، والأمر الآخر أنه يُفوت على التجربة الثقافية خلق التكوين الجمعي وتجديده؛ لأن التجربة الثقافية التي هي أنسنة الفعل بما يتضمن الدافع والأثر، ممارسة وتجريب بما يعني أصولاً بلا قاعدة؛ فالتجربة الثقافية لا تتعامل مع حقائق بل ممكنات ذات أصول إنسانية، تلك الممكنات هي التي تمنح التجربة الثقافية خاصية تكوين الوعي، كما أن الفرق بين التجربة الثقافية والتجربة الوثائقية هو الصورة الجاهزة، حتى من يظن أن التفكيك يلغي جاهزية الصورة هذا غير صحيح، لأنك ستلتزم بذات التجاويف والحدود وقت التركيب وإعادة الملامح.

إذن التركيب يختلف عن الخلق، وإن كان تمهيداً لا يمكن الاستغناء عنه لتطوير حاسة الخيال روح التجربة الثقافية النهضوية؛ فالتجربة الثقافية فعل محتمل ضد القطعية مفتوحة التوقعات والتأويلات، بداياته أصول لا وقائع، ونهاياته رمزية لا حتميات؛ لأن التجربة عندما تنتهي تصبح حتمية.

ولعل الخطأ الذي وقع فيه رواد الشعر الملحمي العربي عندما ظنوا أن الشعر الملحمي هو تخليد التجربة التاريخية، في حين أنه هو استغلال الخيال التاريخي لصناعة تجربة ثقافية، وعدم تقدير الحدود بين التجربتين الوثائقية والثقافية، هو ما جعل رواد الشعر العربي يفشلون في هذا الفن الشعري.

وحتى من يستثني (كبار الحوادث في وادي النيل) من هذا الفشل، ليس لأن شوقي نجح في الشعر الملحمي بل لأنه نجح في تقليد (أساطير القرون)، والناجح في التقليد لا بد أن ينتزع من الآخرين التصفيق!

ورغم كل شيء يظل الفرق واضحاً بين الرأس والعنق!

***

لإبداء الرأي حول هذا المقال، أرسل رسالة قصيرة SMS تبدأ برقم الكاتبة«7333» ثم أرسلها إلى الكود 82244

seham_h_a@hotmail.com - جدة


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة