Culture Magazine Monday  03/09/2007 G Issue 214
فضاءات
الأثنين 21 ,شعبان 1428   العدد  214
 

إنهم يقتلون الجياد..
وتأملات في شريط مفارقات شقاء الحياة!

 

 

يعلن عن مسابقة للرقص في خضم أزمة اقتصادية طاحنة، في أحد أغنى البلدان الثرية..

يتهافت المطحونون من شتى الفئات، كالفراشات المنجذبة إلى قبس من نور نيران تبدد بعض ما هي غارقة فيه، من حلكة ظلام.. نيران تحرق كل من يقترب منها حتى الفراشات.. الفرق الوحيد بينها وبين أولئك المطحونين، أنهم ضحايا ووقود تلك النيران، في آن!..

صفوف من مختلف الأصناف، مثقلين بالهموم والآلام، يجذبهم حبل أمل رهيف نحو لجنة الاختيار.. جارد حاد النظرات، يجرد من يمر أمامه من الصفوف، كما تجرد الأنعام، مستعيناً بخبير وطبيب، يستبعدون كل من هو ظاهر التشوهات والعاهات، بل وحتى من يشكون بضعفه أو مرضه، رغم أنهم الأحوج.. ولكن الأقوى هو دوماً الغالب، حتى من بين جوعى النكبات، المتكالبين بالمناكب على نزر مساعدات دول ثرية، لضحايا زلازل ومجاعات شعوباً مطحونة!.. رغم أن الأضعف هو الأحوج.. فيا لها من مفارقات تماثلية ساخرة، ما بين ضحايا الأزمات والنكبات الملمة بشعوب ثرية وفقيرة على حد سواء!..

* * *

ما إن فض الاصطفاء، سامر الاصطفاف، حتى بدأ من وقع عليهم الاختيار من الأزواج، مراسم الافتتاح، باستعراضهم أزواجاً أزواجاً أمام مدرجات المتفرجين، تماماً كما تستعرض قوافل العبيد في أسواق نخاسة ماضٍ تليد، أو زرافات المجالدين المستعبدين في حلبات صراع الموت أمام جماهير روما القياصرة، مهووسة بالعنف والدماء..

المفارقة المؤسية المبكية، ألا شيء قد تغير سوى الوسائل والزمان والمكان!

فالإنسان ما برع منذ سالف الأزمان، إما طاحنا أو مطحونا، مُذ شطر نهر القدر، أمم وشعوب البشر ما بين ضفتي مالك ومملوك وسجين وسجان.. سوى المتفرجين الذين ما عادوا كما كانوا عبر الأزمان، من ذوي السلطة والسطوة، أو المال والحظوة فحسب، بل باتت الشاشات تستهوي وتستقطب جميع المكتفين بالفرجة على شقاء ضحايا الكوارث.. والنكبات.. والأزمات.. والغزاة!!..

* * *

من أوائل المستعرضين من الأزواج، كان..

زوجة حاملا.. يقودها زوجها العاطل..

ممثلة مطلية مجهولة الذكر والهوية.. يتبعها ظل رجل..

بحار كهل متقاعد، يجر خلفه رفيقته المتعبة الكهلة..

حسناء حانقة شرسة، برفقة بديل لا تكاد تعرفه، عن رفيقها المرفوض من لجنة الاختيار، لمجرد شكهم بمرضه..

يتبعهم زرافات المتبارين أزواجاً أزواجاً.. مستعرضين مواهب بعضهم فرادى.. لعلهم يحظون بهزيل قطع نقود عطف أو استحسان..

شدو غناء الزوجة الحامل بصوتها الشجي.. أثار شجون بعض الحاضرين..

ودقات كعب حذاء البحار الراقص.. استقطب استحسان بعضهم الآخر..

وإلقاء الممثلة المسرحية لمقاطع شكسبيرية.. بهر فأسكت ضجيج آخرين..

تناثرت نقود العطف والاستحسان لتركع تلك المواهب على ركبها لتلتقطها، تماماً مثلما تلتقط مناقير الحمام حبات ما يجود به سياح في ميادين عواصم بلدان سياحية شهيرة، أو كما تلتقط مناقير بط وأوز ما يتسلى به عجائز وأطفال من مكارم خبز يابس، على ضفاف بحيرات منتزهات مدن.. متحضرة!

* * *

لم تكن تلك المشاهد سوى استهلال لما سيتبع من مشاق وأهوال..

فالمسابقة مضنية، منهكة بما يفوق الخيال!..

مباراة رقص مستمرة لمئات الساعات على مدار أيام.. لا تتوقف إلا لنوم بضع ساعات.. فعلى المتبارين الرقص حتى وهم يأكلون!.. ولقطع رتابة العرض تقام سباقات سير سريع للأزواج على أطراف الكعوب والأقدام..

فتتحول الحلبة إلى ميدان، يدور فيه كل من تبقى من الراقصين إلى حد الإنهاك، فآخر ثلاثة أزواج سيستبعدون.. حتى من بصيص نور أمل كاذب!..

سباقات منهكة مهلكة وسط ضجيج وزعيق وهتاف متفرجين أثرياء متخمين، يتضاحكون على من يسقط من المتبارين من شدة العياء، فيضطر رفيق إلى حمل رفيقته على الأكتاف، أو تضطر امرأة إلى جر رفيقها جراً، كما تجر المواشي والأغنام من حُفر وأوحال طوفان عارم، جارف لا يرحم..

* * *

تواصلت المسابقات والسباقات، بلا رحمة أو انقطاع، وسط تهليل وهتاف جماهير، يماهي لدرجة الانطباق هتاف وضجيج الجماهير المتعطشة لمشاهد القتل والدماء، في حلبات صراع مستعبدين وأسود، رومانية غابرة، أو ميادين صراع الثيران في إسبانيا الحاضرة.. دونما أدنى اهتمام بمآل وآلام ضحايا الحظوظ العاثرة!..

سقط البحار ميتاً إثر أزمة قلبية، إبان أحد تلك السباقات المهلكة..

وخرجت الممثلة المنهكة من عالم الحواس، إثر ما عانته من إنهاك وصل بها إلى ذهول هستيري، دفع بها إلى عالم الجنون والضياع..

وغرقت الزوجة الحامل في دماء إجهاض جنين ما عاد يحتمل العيش في حنايا رحم متهالك ضنين..

أما الغادة الحسناء المحبطة، فبعدما أنهكها السباق.. صدمها من أسلمت له جسدها من ا لمديرين بغية الفوز، بأنها لن تفوز.. فتكالبت مشاعر الإحباط واحتقار النفس، إلى دفعها إلى هاوية قنوط قاتل، جعلها تتوسل رفيقها بأن يطلق على رأسها رصاصة رحمة من مسدسها الصغير!...

المشهد الأخير من ذلك الشريط الزاخر بالملاحم والمآسي الإنسانية، كان مسك الختام وذروة سنام رسالة الفيلم!.. فهو يظهر القاضي، وهو يسأل الرفيق الشاب الرقيق عما دفعه لارتكاب فعلته القاتلة؟!.. فكان الجواب:

- رأيت والدي وأنا غض غرير يطلق رصاصة على أعز جياده على قلبه، لينظر لي مفسراً بقوله، إنها رصاصة الرحمة.. لتخليص الجواد مما يعانيه من آلام قاتلة..

فلماذا يا سيدي القاضي تعتبرون مساعدة أعز رفيقة على التخلص من آلام ما هي فيه من يأس وقنوط بمثابة إجرام.. وخاصة أنها هي من توسلت إليّ لفعلها بنفسها وبمسدسها؟!..

وضع مأساوي إنساني خطير.. لعل أبلغ ما يعبر عنه، هو بيت المتنبي الشهير:

كفى بك داءٌ أن ترى الموت شافيا...!!

وجواب مثير، لا يملك كل ذي لب متأمل، سوى التساؤل:

إن كان اليأس والقنوط يدفع حتى الأسوياء الأبرياء من الناس إلى حافة القتل والإجرام... بل وحتى الإرهاب..

أما كان الأجدر والأعدل محاكمة وعقاب من دفع برفيقة ذلك الشاب وأمثالهما من المحيطين من الشباب إلى هاوية يأس وقنوط.. يدفعهم للانتحار والجريمة والإرهاب؟!

تساؤل في غير محله.. فالجواب واضح جلي من عنوان الشريط المثير:

إنهم يقتلون الجياد.. أليس كذلك؟!

وما الشطر الأخير من العنوان سوى تأكيد وجواب، أكثر مما هو تساؤل، عما سبق من تساؤل!

* * *

شريط مثير.. محفز للتأمل والتفكير.. يزخر بحوارات عميقة المغازي، بليغة المعاني من مثل:

- أليست الدنيا بمثابة مدينة ألعاب كبرى.. نرى فيها ألعاب خيول معدنية دوارة.. توهم من يمتطيها بأنهم فرسان؟.. ولكن سرعان ما يترجلون عنها ليمتطيها آخرون.. في دورة لا تنتهي من الإيهام؟!!

ليرد المحاور بذكاء:

- بل وفيها ألعاب أخرى تدور بلا انقطاع.. فهناك دولاب شاهق الارتفاع يدور بالاتجاه الرأسي يشاهده القاصي والداني، وهو يرفع أناساً بل وحتى أمماً وشعوباً إلى ذرى تناطح السحاب.. ويهبط بآخرين إلى أسفل سافلين.. ولكن سرعان ما ينقلب الحال.. فمن في القعر يرتفع للذرى.. ومن كان في الذرى يهبط للحضيض!.. المفارقة الكبرى.. أن الجميع بمن فيهم المتفرجون سيرحلون..

ويحل محلهم آخرون.. والكل يظنون أنهم يتسلون.. فيما الدواليب الأفقية والرأسية.. الصغيرة منها والكبرى تدور وتدور في دوائر وهم كبير!..

* * *

معانٍ ومغازٍ تحلق بالرائي، إلى سامق رحيب آفاق التأمل والتفكير.. يتمنى معها كل مهموم بهموم الانغلاق الثقافي الأحادي الرؤى والاتجاه، المتقوقع على الذات، لو شاركه التحليق في ذلك الأفق الرحيب المتيح لرؤى أبعد وأوسع، تكشف عن مدى تماثل هموم ومآسي وعلل ما يعانيه الإنسان في كل مكان وعلى مر الأزمان، دونما فرز ما بين ألوان وأعراق وأديان، أكبر جمع، وأعرض جمهور من خلال دور عرض لمثل تلك الأفلام المثرية، تنشر في طول البلاد وعرضها..

فمثل تلك دور العرض لم تعد فحسب مقصداً يوفر المتعة والتسلية للكبار والصغار من العزاب والعائلات، أو ملاذاً بديلاً عن التسكع في الأسواق، والتحرش بالناس والسيارات، بدليل ما باتت تمثله من مقصد يشد له الرحال، كل قريب من سبيل أو جسور إلى بلد خليجي منفتح جَسور، أو أعداد من يرتادها من القادرين على باهظ تكاليف رحلات إجازات إلى بلد بعيد من المواطنين!.. وإنما قد تقي شبابا محبطا أو عاطلا من الوقوع في براثن تخبط فكري أو فراغ قاتل، لا يجد مخرجاً منها سوى بديلين.. فأما الانضواء بالانضمام إلى المتقوقعين في كهوف فكر ظلامي متطرف.. أو إدمان ارتياد مقاهٍ لا تعرض شاشات تلفازاتها المنتشرة في كل الزوايا والأركان، سوى الهابط من الفن وأفلام عنف وجرائم وجنس ودم!.. وكلاهما شر مستطير..

فيما دور العرض تمتاز عن التلفاز في فرز ما يمكن عرضه فيها من أفلام، لا توفر للتسلية والمتعة والملاذ من الشرور لمختلف الأعمار والفئات فحسب، بل باتت منبعاً، عبر أفلام حازت أرفع الجوائز، لأرقى وأهم مناهل الفن والأدب الرفيع.. إضافة لما تتيحه من انفتاح على تراث وثقافات وعادات وتاريخ مختلف الأمم والشعوب، وسير العظماء من المفكرين والأدباء والفنانين والزعماء، فلكل أمة رجال وتقاليد وخصوصيات، تعتز وتفتخر وتلزم بها شعوبها، دون أن تكون عوائق وذرائع تسد المنافذ على مختلف ثقافات غيرها من الشعوب!.. فلولا انفتاح أوائل أسلافنا الحكماء عليها، وترجمتها وإتاحة الاطلاع عليها لمن يشاء دونما أدنى قيود، لما قامت الحضارة العربية الإسلامية!.. فالحكمة ضالة المؤمن أينما وجدها.. والعلم والثقافة، أول ما حض على طلبها هو الدين.. لا من العجم أو الغرب فحسب، بل وحتى من الصين!..

الرياض


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة