Culture Magazine Monday  03/09/2007 G Issue 214
سرد
الأثنين 21 ,شعبان 1428   العدد  214
 
قصة قصيرة
ولا تُمطر المدن
أحمد علي البشري

 

 

الباب الذي أخرجه، سكين نجاة بوجهين، وحينما أفزعته كآبة المدن قال:

الشوارع هي هي لا تأتي بسرعة ولا تتوقف.. وحين ينتهي شارع يأتيك آخر على وجه التتالي بأرصفة متشابهة، وسيارات نزقة مسرعة تسير في كل الاتجاهات.. وللمدن رائحة لا يغيرها السفر.

* * *

امتهنت السنين الركض على ذكرياتي، لم تبق لي مدينة أو جدار يحمل هوية طفولتي وذكريات مكتوبة ب (بخاخ) أحمر.

أغص في تفاصيل مدن كثيرة في مطاعمها المتشابهة، في المتسولين الذين لا يتزحزحون عن أرصفة الشوارع الراقية (هم فقط من يتكاتفون في وجه المدن.. موحدين عاداتهم ودعاءهم وسِبابهم..) لا أعلم ما الذي يدفعني الآن لأُخرجَ كل شوارعها وأفردها على مرأى من ذاكرتي، وأنبش عاداتي التدخينية في الأزقة البعيدة عن منازلنا..

ولِمَ أنا ممتلئ بأشباه طرقٍ تخطف المتأخر من أوهامي، وتُلقيهِ طفلٌ ب كرة متسخة في حي قديم، بقدمين حافيتين مكتظة بتضاريس الجروح..

لم يحدث قط أن رشوت نفسي بأمنية معطلة، أو انفعال لحلم ناقص آثر الخروج لئلا تشرده ذكرياتي المرتبكة، ذكرياتي تنحصر في مدى قصير، في ممارسات طفولية انتحرت سريعاً..

صالح بائع البقالة الأول الذي احتضن سرقاتي ل الشكولاته.. أقعدني على مقربة منه في المرة الثانية التي زرتُ فيها متجره في الخُبَر.. ليعطيني ما حاولت سرقته أول مرة..

يجلس وأمامه كرشه.. كثيراً ما أراه يأكل الحلوى، وحين يراني يستدعيني بصوت مرتفع وكأنه يحاول إغاظة أبناء أبي حمد (الجار الأول في ذاكرتي، وأول من بقر كرتي).. ل يملأ جيوبي ثم يدفعني باتجاه المنزل..

لا شيء في ذاكرتي إلا صالح. أذكر أنني في لجة حزن البيت، أخرج إليه فيتلقف الحزن مني، ويلقيه في الثلاجة حتى أخرج يغدق علي ويمازحني..

يعرفه الصغار كثيراً فهو جزل العطاء.. ويميز كل أصوات النساء اللاتي يتصلن به، ويطلبن أشياء مكررة غالباً..

لا أحد هنا يستطيع أن يحدد طبيعة شعوره تجاه صالح أو متجره الصغير.. فالكبار يرون فيه خطراً داهماً على ميزانياتهم الشهرية، ويلحون عليه بأوامر أشبه إلى التهديد بالاكتفاء بالتعامل النقدي، ومنع التسجيل في (الدفتر)، أو التعامل بالديْن خصوصاً مع أبنائهم وزوجاتهم. أما الشباب الذين غالباً ما يكونون مدينين له بثمن السجائر و(البيبسي) فلا يتورعون عن المزاح معه وإظهار محبته علناً!!

لمّا ألفتُ هذه الحياة، وبدأت تنشأ علاقتي في محيط أحبته والدتي ووالدي، كان طائر الشؤم في المكان القريب من نافذتي، مستدعياً إبليس ليقفا على رأس أبي في اليوم التالي في عمله ويحرضانه على خصام تافه مع مديره المتسلط.. لينفيه إلى أرض أخرى.

* * *

عندما يعود أبي بدون جريدة، ولا يحمل معه لبناً.. فإن أمراً قد حصل. مرتين فقط تخلف أبي فيهما عن ذلك، حين رحل جدي من الدنيا، وحين اصطدم بعمود إنارة وشُجّت أمنياته.

دخل إلينا بوجه متجهم، يكاد يميز من الغيظ.. يخلط كلامه المحموم بالأوامر ويرمش سريعاً، وهو يؤدي الحزن بمثالية.. لم يمهلني الوقت لأداء الوداع بطرقه التقليدية، لم يمهلني أن أخرج إلى صالح وأضمه، وربما أقبله وأسدد دَيْني.

من هنا ابتدأت علاقتي الأزلية بالسفر..

رحلنا إلى الطائف، محمّلين بأحلام جديدة، مبللة بالمطر الذي استقبلنا. البيوت هناك مرتفعة لا تستقر على أرض، ولا تنتمي إلى سماء، كوجوه أهلها بالضبط، لا تستطيع تمييز ملامح الترحيب من تلك التي تخص الرفض.

أن تذهب إلى الطائف، فإنك لا بد وأن تعتنق ديانة البرد، وتتقرب إليها بالصوف والحطب، وتبتهل لجبالها ألا ترديك في واد سحيق أو أرض بوار.

في الحال وجدنا بيتاً معلقاً إلى السحب، في حي مختنق بالأطفال، ومسقوف بأصوات الصلاة والمساجد، لا يوجد في الجوار (بقالة) إلا أنني رضيتُ مرغماً على الاحتفال بالبيت الجديد والمساهمة في الطلاء.

* * *

كل البقالات لصالح..

كل الباعة.. (صالح)، لا بد أن يكونوا ممتلئين بالعطف، ومجبولين على العطاء..

* * *

لم يكن في المكان متسع، فالبيت جديد، ويغرق في غباره، والحقائب التي حملناها معنا تتعثر في نزقي.. خرجت من البيت إلى الشارع.. في نهاية الشارع زُرعت بقالة صغيرة، صغيرة لدرجة أنك تتشكك في أمرها، ما إن كانت بسطة لإسكافي وأحذية عتيقة.. أو باباً لشقة عمالة وافدة.

كان الطريق يتخاذل ويبعد، وأنا أمشي باتجاه المحل.. دلفتُ ببطء، وكأني أنتظر أن يحييني صالح، أو يلقي علي ببعض الحلوى..

لم أنظر إلى مكان البائع، ظللتُ أمشي إلى الثلاجة القصية دون محاولة مني للالتفات، حملتُ عبوة لبن وتوجهت إلى الباب.. وضعتُ أربعة ريالات على الطاولة، وخرجت أسترق النظر إلى البائع دون تركيز مني.

كيف يمكن ل هؤلاء الباعة أن يجلسوا كل هذا الوقت على الكراسي الخشبية؟ ومن الذي لا يمكنه أن يفتعل حكةً أو ألماً في ظهره حتى يقف ويتمشى في المحل؟ أو يخرج ليبصق على الرصيف غير مبالٍ بالمارة.. صالح لم يكن ليفعل ذلك، فهو نادراً ما يجلس معتدلاً ونادراً ما تراه متململاً من الدخل، ومن البيع القليل.

كيف يستطيع كل هؤلاء الناس في هذا الحي أن يتصالحوا مع بائع ليس ك صالح؟

* * *

المدينة التي لا تحترم رغبات سكانها لا تستحق البقاء عليها.. هكذا كان أبي يقول.

وهكذا كنت أنا أنوي أن أقول.. يقول أيضاً إن الناس هنا لا تحترمك، لا تتركك تتجادل مع نفسك، أو حتى تدعك جبينك دون أن يلتفت إليك أحد بدافع فضول..

وأنا أقول إن لا شيء يصل ضفاف هذه المدن إلا (صالح)..

* * *

اللعنة لا تنتهي.. لا تقف عند أول مصيبة!! تراها أمام عينيك، تتغلغل في كافة شؤونك، حتى لا تكون قادراً على شيء، وكأن المدينة التي شتمها أبي استمعت لما يقول، ومديره الجديد ابن بار لها، سمع ما تفوه به أبي وقرر نفيه للمرة الثانية.

في المرة الثانية، بدا المساء وكأنه يتباهى بأبنائه المتمردين على قانون الأرض على طريقته.. فالنساء لا يجدن رغبة في البقاء في منازلهن، امتلأت بهن الشوارع.. والرجال التزموا البيوت، وأقاموا مآدب للبائسين الذين احدودبت ظهورهم من الفقر.

ونحن نمتهن ترتيب الحقائب بالملابس والبكاء..

* * *

أمي وأنا كشاهدين على ما يحدث لنا، لا نختلف كثيراً على أننا مصابون بعشق (الخُبَر)، فهي لا تستطيع الجزم بأي شيء دون أن يتوارد إلى ذهنها المدينة التي تريد الرجوع إليها، مدينة (الخير) كما تقول.. وأنا أتوق إلى مدينة البقالات الممتلئة.. مدينة صالح، (كيف أمكننا أن نبقى بعيداً عنها؟!).

عاد والدي بلا جريدة.. أو لبن.

بوجه لا يختلف عمّا رأيناه ذلك اليوم.. أدركنا أن شيئاً ما قد حصل لم نتفوه بكلمة، بانتظار أن يشرع هو في الحديث. مَرِق أمامي جدي، وعمي.. خشيت أن يكون شيء أصاب أحدهما.. افتعل سعالاً وقال:

- سنرحل عن هذه المدينة..

لم يخطر لي أننا سنعود إلى الخبر، فلو كنا سنعود لامتلأ وجه أبي فرحاً، ولما توانى في إظهار سعادته. لم نسأل، ولم نحاول أن نعرف أسباب انتقالنا، على أمل أن يبدأ بالحديث في وقت آخر!

* * *

فلسفة المدن والأرض الغائبة بتفاصيلها، والطيور التي لا تقع على أشكالها، والبحر الذي يرافق ذكريات أمي كل ما انتهجت طريق البكاء، تقول أمي بأنني ولدت على مقربة من البحر في مشفى خاص.. وذلك سبب رائحة البحر التي في جيوبي!!

انتابني فرح بسيط ووالدي يهيب بأمي لتزاول مهنتها الجديدة، مهنة الحقائب.. مهنة ترتيب الملابس الكبيرة في أصغر مساحة ممكنة من الحقائب.. راودني شعور البحر وأصوات نوارس لا أعرفها.. ورغبة عارمة في الذهاب إلى صالح، وربما الوشاية بأبي وعقدة السفر.

* * *

لا بد أن تكون نخلة أو شجرة خضراء حتى تستطيع التأقلم مع حياة (الخرج). أبي الذي ابتهج ببساطة أهلها في الأيام الأولى لحضورنا، هو نفسه سئم هذه البساطة التي تشبه الغباء كثيراً..

تُخرجك هذه المدينة من بيتك، لتعبث بشوارعها التي لا تشبه المدن. فهي تنتهي بسرعة وتُظهر لك أكثر من ما تبحث عنه.. مدينة تستطيع احتواءها ببصرك، ولا تستطيع إحصاء (البقالات)، وكأن الجميع يعمل على الشراء خوفاً من الجوع.

كانت رائحة البحر تحتل ترتيباً متقدماً على بقية الروائح في ذهني، رائحة الماء بشكل عام تحضر إذا ما الصحاري أجهزت على المطر، لم تقم العيون الناضبة، والساقية التي تحتضن الخرج بردة فعل مناسبة، ولم تنشر رائحة الماء في هذه الأرض البوار، واستبدلتها برائحة لماشية مريضة، وبكاء رطب لأطفال لا يكبرون..

أنا من قام بلعن الخرج هذه المرة، وهي أيضاً من قام برد فعل سريع. لم أكن مؤمناً بالسنيوريهات المتشابهة، أمي كذلك، وصالح أيضاً لم يكن ليصدق أن الأسباب تتكرر ثلاث مرات، حتى أبي - سبب كل هذا - لم يكن عدواني الطباع أو حتى عصبي المزاج، وكأنها ترد الصاع لي عن طريق والدي الذي التقمه المدفع وتآلف مع فوهته.

* * *

البحر صالح.. وصالح البحر

وأغنيات حفظتها في السفر.. صور تركتها في محطات وقود.. وفتيات لا أذكر منهن إلا سواد شعورهن.

حنين لا يعرف له وجهة.. نعل واحد جاب أربعة مدن لم ينقطع ولم يشتكِ.. وبكاء لطفل تائه يتكرر في كل مدينة.

* * *

أنا الآن على مقربة من العشرين أو أزيد قليلاً. حمل والدي على عاتقه السفر، وحملتُ أنا التشرد والصعلكة.

حيناً نكون أجنحة لطيور مهاجرة من الشرق إلى اللاوجهة، وحيناً سعاة بريد بثياب مدنية وحقائب فارغة من الرسائل..

لا أصدقاء يشاركونني بعض هزائمي، ويحتفلون معي بكل انتصاراتي.. أجلس على هذا المقهى في هذه المدينة الجديدة.. لا أعرف رائحة محددة لأشياء تستمر طويلاً، لا يعلق بأنفي إلا رائحة الطلاء في كل مرة ينتقل فيها أبواي إلى منزل جديد في مدينة جديدة..

لا أكاد أصل إلى صلح مع مدينة، وأتأقلم مع أصدقاء جدد..

أنا الآن أتشبث بصالح، أحيي ذكراه كل حين لئلا تسقط كما سقطت ملامح أبي حمد الجار الأول.. وأجاهد بإخلاص ممزوج ببكاء لكي تبقى لي ذاكرتي.


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة