الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 03th October,2005 العدد : 125

الأثنين 29 ,شعبان 1426

الطائي الصغير..!
محمد البشيت

عرفته يكتب شعراً.. ويكتب نثراً أشبه بالشعر.. تعمق في الأدب منذ وقت مبكر فأصبح الأدب ديدنه.. يكتب القصيدة فيصور بأسلوبه الفاتن الثاقب معاناته، فتصبح قصيدته تجسيداً لحالته المعنوية وحالة مَنْ هم على شاكلته من المتيمين بالشعر والأدب. تأخذك قصائده إلى عالم رحب يمتزج فيه الخيال بالواقع، تثير قصائده فيك روح الحماس فتقرأها المرة تلو المرة حتى تكاد تحفظها كلمة كلمة وشطراً شطراً. قصيدته عذبة العبارة، ناصعة المعنى، نافذة للوجدان، يأنس لسماعها كل إنسان.
تأثر الطائي في أوائل حياته الشعرية بالشاعر الكبير علي الجارم وبأبي القاسم الشابي.. فامتزجت في أشعاره فحولة علي الجارم الشعرية وعنفوان شباب أبي القاسم الشابي.. يخيل لقارئ شعره لتلك الفترة أنه شعر علي الجارم لقوة معناه وجزالة أسلوبه، أما دقة الوصف وحصافة التعبير ففي تأثره بشعر أبي القاسم!
لقد تلفع الطائي الصغير برداء الجارم يتدفأ به شتاءً عندما تعصف الرياح به، ويتفيأ به صيفاً ليقيه حرارة الشمس، إن الصبغة الجارمية ملكت عليه جوارحه أول الأمر ولسنوات طويلة.. فلما أفاق من ولعه بشعر الجارم اتخذ لنفسه سبيلاً مغايراً لفترة من الزمن. كادت نفحات شعر الجارم تنسيه ملكته الشعرية الفريدة!
ورغم كل ما ورد ما زلنا نشعر أن شعره لا يخلو من الأثر الجارمي. إن صح التعبير من حيث القوة والجزالة، لا غرو في ذلك فهو يحفظ معظم أشعار الجارم عن ظهر قلب ولا يفتر عن ذكره كلما دعت المناسبة بين الفينة والأخرى وعلى مسمع من زواره وأصدقائه.
خلق الاهتمام بالشعر عند الطائي الصغير الهمة والعزيمة.. فكتب شعراً يضاهي شعر مَنْ سبقوه في هذا المضمار.. كتب الشعر والمقالة منذ أن كان يافعاً فأكسبه التَمرسُ التَفرسَ فانطبق عليه المثل القائل (ما تفرس حتى تهرس) فهو إذاً فارس متهرس صقلته التجارب في ميدان الأدب.
الطائي الصغير - هذا ما كان يذيل به قصائده ومقالاته في الصحف المحلية لسنوات طوال.. وهو لقب يحمل في طياته معنى كبيراً تناولت الأقلام الصحفية والأدبية كتاباته.. بالمدح تارة وبالذم تارة أخرى. إن وضعه تحت المجهر سنوات طوالاً لم يمكنهم من معرفة الاسم الحقيقي له - أو كشف سر اتخاذه لذلك اللقب المستعار.
إن عدم الكشف عن اسمه الحقيقي لم يكن ناجماً عن عدم ثقة بالنفس أو فيما يكتب من شعر ونشر، بل سببه إنه كان يشغل منصباً مرموقاً لا يمكنه من الكشف عن هويته. وقبل تركه المنصب بفترة وجيزة كتب الأستاذ الأديب كلمة وافية شافية وضع بها حداً لكل التكهنات التي أثيرت حول هويته، فقال الطائي الصغير: (لا أنا وما أنا إلا عبدالله سليمان الغاطي!!) خرج الطائي الصغير - أبو حسان - بهذه الكلمة من قمقمه ممزقاً مكمناً قبع فيه سنيناً طويلة، ذاق صلف الصبر ومرارة الحرمان.. الحرمان من الشهرة والجاه. في وقت كانت أسماء مَنْ هم من جيله من الكتاب والشعراء لامعة ظاهرة للعيان.
إن مشاركة الأستاذ الأديب عبدالله الغاطي - رحمه الله - الأدبية في الصحف بدأت منذ ظهور تلك الصحف السعودية أمثال (حراء) و(الأضواء) و(الرائد) و(أخبار الظهران) و(اليمامة) ومن ثم الرياض والجزيرة وغيرها من الصحف السعودية.
فبصماته الأدبية ملحوظة لدرجة أنه ما صدر مؤلف عن الرعيل الأول للصحافة السعودية إلا وكان اسم الأستاذ الغاطي جلياً وواضحاً في هذه المؤلفات ولئن قلت مشاركته في السنوات الأخيرة من عمره - رحمه الله - فللطائي الصغير مكتبة زاخرة بها من العلوم الأدبية والصحافية شتى، فهي ثمرة خمسين عاماً من القراءة والجمع (والتبويب) تعود مصادرها إلى بلدان عربية عريقة بالفن والأدب. وما من كتاب في مكتبته اطلعت عليه إلا وجدت على صفحاته عبارات وحواشي كتبت بخط يده.
كان يأمل أن يجمع قصائده في (ديوان) وأن يضمن مقالاته في كتاب فهي ذخائر تجاربه في الحياة وفي دنيا الأدب، لكن الشيخوخة أدركته وحالت دون تحقيق ذلك فمرضه كان مباغتاً له أطفأ عنده جذوة الحماس لجمع هذه الأشعار والمقالات في كتابين لو صدرا له لأثرى بهما المكتبة السعودية - رحمه الله -.
إن الطموح والتطلع إلى الأفضل هما ضالة كل أديب صادق مع نفسه صادق في قراره. فكتابة الأديب الصادقة النابعة من أعماق نفسه هي جسر يوصله إلى مناخ أدبي متأصل ثابت عميق الجذور لا تنال منه الزوابع والرياح.
إن من سامر الطائي وجالسه ليعلم حق العلم أن حديثه وعلمه لا يقتصر على الشعر والمقالة بل يتعداهما إلى نقد الرواية والقصة وإعلامهما.. يتحدث عن القصة وكتابها حديث الواثق بعيداً عن أي زيف أو ادعاء ولقد كتب الكثير في نقد القصة والرواية الغربية.. لم تغنه كتاباته المتنوعة عن كتابة الشعر والحنين إليه - فعليه ينطبق قول الشاعر:
قلِّب فؤادك حيث شئت من الهوى
ما الحب إلا للحبيب الأول
ولقد جلست للطائي الصغير واستمعت منه كثيراً كلما سنحت لي الفرصة في زيارته في منزله - بحي الملز بالرياض - ويصادف أحياناً وجود صديق عمره الأستاذ عبدالرزاق مشعل السويلم.
أعود وأقول إن الشعر عنده يأخذ سمعه بمجامع ألبابه يهزه الشوق.. ويأخذ بالإنصات للطائي الذي يتواصل معرفةً وعطاءً مثمراً وإيقاظاً لروح الوجدان ينشط العقل ويدفعه لخلق متغيرات أفضل وأمثل فيصبح بيت الشعر بصدره وعجزه سجلاً يحوي بين طياته المقاصد النبيلة والغايات الشريفية التي تسمو بها مكانة الإنسان!
أسلوب طرحه للموضوع وطريقة معالجته تجعل المرء حائراً، ما من قضية أدبية أو صحفية مسها بقلمه، إلا ووضع لها أنجع الحلول بعد إشباعها تمحيصاً وتفنيداً.
شعره عذب يذكرني ب(أغاني الكوخ) لصاحبه محمد حسن عبدالله.. ونشره ونقده لا يقل جزالة عن - مارون عبود - وكامل مروة.
تربط الطائي برواد الأدب في بلادنا جسور صداقة ومحبة نذكر منهم صاحب السمو الملكي الأمير عبدالله الفيصل فقد عمل مع سموه قرابة ثلاثين عاماً وهناك آخرون مثل محمد حسين زيدان - ومحمد سعيد العمودي - وعبدالله بن خميس وفهد المبارك المؤرخ والكاتب الشهير بكتابه (من شيم العرب) وفهد العريفي وغيرهم.
في الفترة التي تسمى بها - الطائي الصغير - كانت الكتابة أمراً يأتي في المرتبة الثانية من حيث الوقت والعمل - فقد عمل مديراً بمكتب وزير الداخلية ثم شغل منصب مدير عام الإدارة العامة للمجاهدين حيث بلغ سن التقاعد.
وفي فترة ما بعد التقاعد عاد الطائي إلى منزله حيث (مكتبته) يمارس نشاطه الأدبي برغبة جارفة بعيداً عن التقيد والرسميات بعيداً عن (بيروقراطية) العمل. فالوقت كل الوقت للكتابة والقراءة، فتح نافذة مكتبته من جديد وبدأ التيار الأدبي يتسلل من خلالها للداخل محملاً بأخبار الإصدارات الأدبية مشفوعاً بالطرود البريدية التي بداخلها كل ما تجود به المطابع العربية.
ما من مرة زرته فيها إلا وجدته في صومعة (فكره) حيث يقرأ ويكتب دون حساب للوقت أو مأكل أو مشرب. ما كان يتوقف عن ذلك إلا عند سماع الأذان للصلاة فيتوضأ ويصلي ويتناول (النزر) القليل من الطعام.
وكان للطائي في هذه الفترة معارك أدبية فتارة ينقد وأخرى يرد على ذاك، فكأن قلمه سيف قاطع يذود به عن الحق - فكأن لسان حاله يقول:
تذكر وطأه لما رآني
أقلب صعده مثل الهلال
ينثر أشعاره ومقالاته في الصحف المحلية دون الالتزام بصحيفة معينة كتب بالرياض والجزيرة وعكاظ وغيرهن..
وحينما تعرفت على أستاذي عبدالله الغاطي - رحمه الله - لم يكن ذلك من محض الصدفة وإنما كانت هناك علاقة متأصلة منذ القدم فكان والدي صديقاً لوالده ومن هنا بدأت معرفتي بالأديب عبدالله الغاطي.
زرته بالإدارة العامة للمجاهدين لأكثر من مرة وتوطدت العلاقة معه.. أعتبره بمثابة والدي.. وكانت الخطابات متبادلة فيما بيني وبينه.. كنت لا أتردد من الاستشارة منه في النواحي الأدبية والصحفية.. وإنني إذ أذكر بداية عملي الصحفي، كنتُ في مجلة - اليمامة - مدفوعاً إليها من قبل عبدالله الغاطي - بخطاب تزكية موجه منه للأستاذ محمد أحمد الشدي رئيس تحرير اليمامة آنذاك، ثم تلا ذلك عملي بالجزيرة الغالية مدفوعاً بقوة مشفوعاً بالتزكية من أستاذي عبدالله الغاطي لدى شيخنا الأستاذ صالح العجروش، مدير عام مؤسسة الجزيرة الذي أحالني بدوره للأستاذ خالد المالك رئيس التحرير وقد عملت تحت إدارته من خلال مكتب حائل لسنوات طويلة.. يا لها من ذكريات جميلة انداحت كالطيف بين الزملاء في الجزيرة، وإذا كان الشيء بالشيء يذكر أتذكر الزملاء - عثمان العمير - محمد التونسي - عبدالرحمن الراشد - حاسن البنيان - بدر الخريف - حمد القاضي - سمير الدهام - وحتى الساعي العزيز أبو عوض!
أعود للأستاذ الغاطي الشاعر الناشر الذي تأثرت به في بداية حياتي الصحفية وقد أدمنت على متابعة أخباره ومعاركه الأدبية من خلال مقالته الدائمة (روشتة) بالجزيرة. وقد كانت أمنيته أن يجمع أشعاره ومقالاته في (كتابين) منفصلين إلا أن العمل لم يمهله لتحقيق هذه الأمنية.. وقد تناثرت عبر أوراق جمة تحتاج إلى الترتيب ودفعها للنشر.
هذا (الموروث الثقافي) يجب ألا يموت بموت صاحبه.. متى وجد اليد الحانية المخلصة التي تحرص على محاولة إبرازه للعيان.. يخيل لي أن الابن (الوارث) سعود الغاطي.. سيحرص جاهداً على تحقيق أمنية (المورث) والده عبدالله سليمان الغاطي - رحمه الله رحمة واسعة. هذه الأشعار الجميلة والمقالات الأجمل.. هل تضيع سدى؟.. أناشدكم مع أخيك حسان الحرص على تدوينها والدفع بها لإحدى دور النشر.
الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
تشكيل
كتب
مداخلات
الثالثة
مراجعات
اوراق
سرد
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved