الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 03th October,2005 العدد : 125

الأثنين 29 ,شعبان 1426

نهاية الداعية وولادة المثقف
في الدعوة إلى إحداث قطيعة مع المفهوم الغربي للمثقف
تركي علي الربيعو *
بين نهاية القرن المنصرم وبداية الألفية الجديدة وبعد كل هذا التراكم النقدي للمثقف التقدمي ووظيفته يجد المرء نفسه معنياً بالتساؤل: هل ستشهد نهاية وبداية القرن نهاية المثقف التقدمي، لنقل نهاية الداعية؟ وفي الحقيقة فإن نهاية القرن لم تكتف بالتبشير بنهاية الداعية، المثقف التقدمي والبطركي بآن، حارس الإيديولوجيا وشرطي الأفكار.. الخ من النعوت، بل حملت إلينا إعلان وفاته بعد أن أطلق عليه علي حرب رصاصة الرحمة كما صرَّح في الطبعة الثانية من كتابه (أوهام النخبة، 1998) وبعد أن بشَّر عبد الإله بلقزيز بزوال زمانه (نهاية الداعية، 2000).
كان إعلان موت المثقف التقدمي العربي، الذي تزامن مع إعلان موت العروبة (حازم صاغية، وداع العروبة، 1999) قد أفصح عن ضرب من المحاكاة للنموذج الغربي الذي راح يشكك بجدوى المثقف في عصر الفيديولوجيا، عصر التلفزة وسيلان الصور المرئية اللامتناهية، فقد تساءل ريجيس دوبريه في الكتاب الذي حرره مع السويسري جان زيغلر والمعنون (كي لا نستسلم) ما جدوى أن يكون المرء مثقفاً، ومن وجهة نظره أنه لا جدوى من المثقف في عصر العبادة العالمية للمرئي، أي للتلفاز الذي صلاته الوحيدة (انظروا إليَّ أولاً، والباقي لا أهمية له).
أعود للقول: إذا كان حارس الثقافة اللاتينية على حد تعبير فرانتز فانون قد فرض علينا هذه المحاكاة، فإن المحاكاة هذه التي تتجاهل واقع التخلف التاريخي ومحاولة استدراكه الذي يبرر فاعلية المثقف، سرعان ما تفقد مصداقيتها وسعيها إلى اللحاق بقطار الغرب السريع من هنا نفسر دعوة محمد أركون إلى إحداث قطيعة جذرية مع المفهوم الغربي للمثقف، وبالأخص المفهوم الفرنسي للمثقف الذي ظهر إلى الوجود مع ظهور قضية درايفوس (الضابط اليهودي المتهم بالخيانة). فالواقع العربي لا يحتاج إلى درايفوس كما يدعو محمد الرميحي. والأمر يتطلب وضع حدٍ للسلفية المعاصرة التي تجد في الغرب نموذجاً يحتذى في كل شيء، والسعي إلى البحث عن المثقف المبدئي في تراثنا العربي الإسلامي بمحاكاة نموذجه وجعله مثالاً.
تحت عنوان (المثقف والسلطة أمس واليوم) الذي يشكل واحداً من العناوين الفرعية التي يضمها كتاب محمد عابد الجابري وأقصد (المثقفين في الحضارة العربية، 2000) يكتب الجابري ما يلي: إن علاقة المثقفين بالسلطة بالأمس (معتزلة وأهل سنة) أشبه ما تكون بعلاقة المثقفين بالسلطة اليوم (سلفيون أصوليون وعصريون حداثيون) أما جوهر هذه العلاقة فهي، الأمس واليوم، (التناوب) على خدمة سيطرة الدولة وهيمنتها، ومن وجهة نظر الجابري فإن هذا (التناوب) على خدمة السلطة قادنا وعلى مسار تاريخ طويل من محنة إلى محنة، فقد كانت تجربة (المثقفين) المعتزلة، و(المثقفين السنيين)، الحنابلة وغيرهم، مع الخلفاء العباسيين تجربة المحنة ثم الانتقام ل(المحنة) بممارسة محن أخرى تجربة ممتدة عبر التاريخ العربي الإسلامي، وما زالت بعض فصولها ماثلة أمامنا اليوم.
إذن، نحن أمام تاريخ يعيد نفسه، وأمام حلقة مفرغة تدور من حولها نصب المحنة الملطخة بالدم. وما يقلق محمد عابد الجابري وكذلك محمد أركون، أن التناوب على خدمة السلطة يساهم في مسخ المثقف وتحويله إلى مسخ ينشر الفزع والدمار في كل مكان. من هنا هذا الهجوم الحاد على ما يسميهم الجابري تارة ب(المثقفون اللقطاء) وأخرى (مثقفو المقابسات) الذين ينتشرون كفطر ذري سام في أروقة الدولة التسلطية حيث تختفي المشاريع الثقافية والسياسية معاً، وحيث ينحصر هم (مثقفي المقابسات) في إرضاء السلطان وكسب وده وتزيين مجلسه. والجابري يرى أن العلامة الفارقة ل(مثقفي المقابسات) أنهم فئة من المستهلكين للثقافة الآخذين من هنا وهناك، (المتقابسين) الحريصين على المشاركة في كل علم والإدلاء فيه بدلو خلال المناقشات والمقابسات التي كانت تزخر بها (المجالس) الثقافية، سواء مجالس الأمراء والوزراء أو المجالس التي كان يعقدها هؤلاء (المثقفون) في بيوتهم أو في مكاتب الوراقين التي اشتغل فيها كثير منهم كنساخ لكسب قوتهم.
ما يطالب به الجابري ومحمد أركون هو كسر هذه الحلقة المفرغة، وإحداث قطيعة معرفية مع هذا النموذج قطعاً مع كافة صنوفه، مع المثقفين اللقطاء، ومع المثقفين البطاركة ومع مثقفي الدولة حيث يشتكي غسان سلامة وعزيز العظمة من كثرة انتشارهم ومن كثرة تبريراتهم لسلوك الدولة التسلطية في المشرق العربي، لنسميها مع عبد الرحمن منيف بدولة شرق المتوسط حيث الرعب والخوف والموت والسجن هو الوجه الآخر والحقيقي لها. وليس هذا فقط بل الذهاب إلى أبعد من ذلك، من خلال البحث عن المثقف المبدئي في التاريخ (ابن حنبل وابن رشد) وهذا ما يفعله الجابري ومحمد أركون الذي يمنح المثقف المبدئي شحنة انفعالية تجعل منه شاهداً وشهيداً، وذلك في تعريفه للمثقف المبدئي كما جاء في كتابه الموسوم ب(الفكر الإسلامي) فمن وجهة نظره أن المثقف هو ذلك الرجل الذي يتحلى بروح مستقلة، محبة للاستكشاف والتحري، وذات نزعة نقدية واحتجاجية تشتغل باسم حقوق الروح والفكر فقط.
من المؤكد أن الروح المستقلة للمثقف المبدئي، وكذلك نزعته النقدية والاحتجاجية تقطع مع الروح الانتهازية للمثقف اللقيط المستنسخ الذي يشتكي منه كثيرون. من هنا فإن الهدف من البحث عن المثقف في حضارتنا العربية الإسلامية، هو بحث عن النموذج والمثال، لنقل عن المثقف الذي يستطيع أن يقول كلمة حق في وجه سلطان جائر وكما جاء في الحديث النبوي الشريف. والسؤال: هل ستشهد بداية القرن بداية المخاض الذي يمهد لولادة المثقف المبدئي. خاصة في سياق التحديات الجديدة للغرب التي تهدد باحتلال عالمنا العربي، ذاك هو السؤال وذاك هو التحدي؟


* دمشق

الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
تشكيل
كتب
مداخلات
الثالثة
مراجعات
اوراق
سرد
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved