الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 3rd November,2003 العدد : 35

الأثنين 8 ,رمضان 1424

درس في الفيزياء
عبدالسلام العجيلي

ألقى الشاب الجريدة من يده وأطلق من صدره مثل الحسرة. قال له جليسه الشيخ:
كأن الأخبار التي قرأتها غمّتك. أراك تتحسر. تتحسر على ماذا؟
قال الشاب: أتحسر على ما يجري في دنيانا. وأعجب مما يجري فيها. تأمل في هذا البلد الذي أصبح سيد العالم بقوته التي استمدها من المعرفة التي استمدها من نشاطه العقلي المتمثل بتقدم العلم فيه، تأمل كيف يسخر معرفته وعقله وعلمه في أذى الدنيا وأهل الدنيا. وفوق ذلك يحاول أن يقنع نفسه ويقنع من يحرقهم بنيرانه إنه يفعل ذلك لخيره ولخيرهم.
قال الشيخ: أنت تعني أمريكا بلا شك.
قال الشاب: ومن غيرها؟ انظر إلى ما تفعله بنا وبإخواننا في كل مكان. وما فعلته قبلنا في دول أمريكا اللاتينية وفي فيتنام. كلما زادت معرفة زادت قدرة، وزادتها هذه القدرة انغماصا في الشر والأذى، أما تبصّرها معرفتها المتزايدة بطرق الخير بدلا من طرق الشر؟
رفع الشيخ رأسه إلى أعلى وقال، وكأنما يحدث نفسه:
والظلم من شيم النفوس، فإن تجد
ذا عفة فلعلة لا يظلم
قال الشاب: هذا من كلام أبي الطيب المتنبي. كان رحمه الله سوداوي النظرة إلى الدنيا وإلى الناس كليهم. ولكنني أتساءل عن هذه العلاقة بين معرفة أمريكا المتزايدة وانحرافها المتزيد عن طريق الصلاح.
قال الشيخ: إنها مسألة فيزيائية يا ابن أخي.
قال الفتى مستغربا: فيزيائية؟ ما دخل الفيزياء بسلوك أمريكا المشين مع علمها الباهر؟
قال الشيخ: نعم إنها الفيزياء، أعني علم الطبيعة. لعلك تذكر من دراساتك القديمة ما تعرفنا به الفيزياء عن تمدد المعادن الطولي بفعل الحرارة.
هز الشاب رأسه تأكيدا لاستغرابه ما يقول محدثه، وأجاب بقوله:
اعذرني إذا قلت إني لا أفهم ما ترمي إليه. تمدد المعادن؟
قال الرجل: تمددها الطولي. لكل معدن معامل تمدد هو ما يطول به قضيب من هذا المعدن بارتفاع درجة مئوية واحدة من الحرارة. معامل تمدد الحديد مثلاً يقارب 20، أما معامل تمدد النحاس فهو قريب من 17.
ابتسم الفتى قبل أن يقول:
أظل على قلة فهمي لنوع العلاقة بين ما أذكره أنا وما تتحدث به أنت.
قال الشيخ: أشرح لك. الإنسان مكون من عقل ومن نفس. عنصران متكاملان وحسنا الانطباق أحدهما على الآخر عند خلقهما. إنهما مثل عمود مكون من قضيبين معدنيين بطول واحد ملتصقين. أحدهما من حديد والآخر من نحاس. هما متشابهان في الطول ولكنهما مختلفان في معامل التمدد بالحرارة. هل تتابعني في تشبيهي الذي أسوقه إليك؟
ضحك الشاب وقال: أتابعك بلا شك لأرى إلى أين ينتهي هذا التشبيه.
تابع الشيخ حديثه بقوله: عقل الإنسان هو مستودع معرفته. إنه مستودع مرن، قابل للاتساع واحتواء العلم الذي يخزن فيه أو العلم الذي يبدعه هو باستخدام المخزون فيه.أما النفس، نفس الإنسان، فهي مركبة من غرائز معدودة محافظة على حجمها، عصية على التغير الكبير: أنت تعلم ما هي هذه الغرائز: حب البقاء، الحفاظ على النوع، الغريزة الجنسية، وأمثال هذه وتلك. مكوّنا عمود العقل والنفس في الظروف العادية يظلان مؤلفين كائنا بشريا متزنا ومعقولا، مثلما يظل العمود المؤلف من قضيبي الحديد والنحاس المتساويين في الطول مستقيما ومنتظما وأملس في درجةالحرارة العادية. فإذا ارتفعت الحرارة..
سكت الشيخ عند نطقه بهذه الجملةالأخيرة كأنه يريد أن يشد انتباه جليسه إلى ما يعقبها من كلام. وهذا ما جعل الشاب يقول مستحثا إياه على الإكمال:
فإذا ارتفعت الحرارة؟
فتابع الشيخ كلامه قائلا: إذا ارتفعت الحرارة حول العمود المعدني، فإن الحديد يتمدد حسب معامل تمدده الطولي الخاص المختلف عن المعامل الذي يتمدد به النحاس اللاصق به. الحديد يتمدد بنسبة عشرين، والنحاس بنسبة سبعة عشر. وبما أنهما ملتصقان، فإن هذا التمدد المتباين في القضيبين المعدنيين يؤدي إلى انقصاف العمود وتهشمه. هل ما أقوله مفهوم؟
اتسعت ابتسامة الشاب قبل أن يقول: مفهوم تماما، وأنا بانتظار النهاية.
قال الشيخ: النفس الإنسانية يا ابن أخي ربما كانت بالتعلم والتقدم قابلة للتمدد كتمدد المعادن بالحرارة، ولكن معامل التمدد فيها، أو في غرائزها، ضئيل يكاد يقارب الصفر. بينما عامل تمدد العقل بتلك العوامل كبير جداً لمرونته وقابليته للاتساع. ولكن هذين العنصرين العقل والنفس ملتصقان التصاقاً كاملا. الغرائز في الجسم الإنساني ظلت على حالها منذ بدأ الخلق، منذ العصرالحجري، بل ما قبل ذلك بكثير. أما العقل في هذا الجسد فقد تطور التطور الذي نعرفه أنا وأنت. تمددا بمعاملين للتمدد كبيري الاختلاف، وهذا ما أدى إلى تشوه السلوك الذي لا نشاهده عند أمريكا التي بلغت القمة في التطور العقلي، بينما ظلت غرائزها في الحضيض. لا تعجب لهذه الشرور التي تقترفها أمريكا صاحبة العلم الذي اجترح المعجزات، وهي في الوقت نفسه صاحبة أخلاق رعاة البقر التي بها قتلت الهنود الحمر قبل اليوم.
قال الفتى: كأنك بهذا يا عم تجد تبريراً لجرائم أمريكا حين تردها إلى التباين الطبيعي بين تطور الغرائز البشرية وتطور العقل البشري. أمتنا، في عصور فائتة، تطورت عقلياً ولكن تطورها لم يدفعها إلى ارتكاب جرائم كجرائم هذه الأمة المتطورة والمتقدمة كثيراً في عصرنا هذا.
قال الشيخ، وهو يلملم أوراقا كانت أمامه، متهيئا لمغادرة المقهى الذي كان يجلسان فيه:
الحق معك في اعتراضك هذا. هناك عوامل أخرى يؤسفني أن موعدا ينتظرني يحول دون بسطها في هذه الجلسة. نحن نتعزى أحياناً بكلمة غوستاف لوبون الذي قال: ما عرف التاريخ فاتحا أرحم من العرب. ونردد في مجال التعزي البيتين المشهورين:
ملكنا فكان العفو منا سجية
فلما ملكتم سال بالدم أبطح
وحسبكم هذا التفاوت بيننا
فكل إناء بالذي فيه ينضح
نعم نتعزى بهذا وذاك. ولكن، تريد الصحيح؟ أجدها تعزية كاذبة. إذا كان لابد من التمثل بالشعر فإني أفضل بيتا ثانياً لأبي الطيب المتنبي، وهو الذي يقول فيه:
فما ينفع الأسد الحياء من الطوى
ولا تتقي حتى تكون ضواريا
وإذا لم تكن ذئبا أكلتك الذئاب. أو كما قيل... والسلام عليكم.
قال هذا وصافح جليسه الشاب قبل أن يخطو خارجا من المقهى بخطوات سريعة.
الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
حوار
تشكيل
كتب
مسرح
مداخلات
الثالثة
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved