الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 04th April,2005 العدد : 100

الأثنين 25 ,صفر 1426

صوت يخترق مدينة الصمت
حليمة مظفر *

عندما طلب مني أن أكتب هذا المقال في مسيرة 100 عدد لثقافية الجزيرة كانت فكرة ما تلح عليّ، هي مدينة الصمت التي أطلقها بين حين وآخر على أروقة وحارات وأحياء الثقافة المحلية التي دائما ما تتمثل لي بأنها عملاقة تتخذ السماء مسكناً لها، ولا تدري عن حال سكان الأرض سوى الهواء الذي يتقاسمونه معهم، ويتقاطع فيها الجنوب مع الشمال، وكل له سماته ومثالبه، ويجد الصمت ملاذه فيها، لأن من بها أراد أن يصمت هكذا دون مبرر مقنع، وفضل الفرجة المريحة، لكن غيرهم صمتوا لأنهم رحلوا وسكنوا خارجها تحت التراب بعد أن صالت وجالت خيولهم في ساحاتها، وكانت حين ذاك مدينة معمورة، لكن هذا الصمت تخترقه بعض الأصوات تنبلج كالفجر فيها، فتلحظ صوتا هنا، وصوتا هناك، بعضه حديث الولادة يحتاج لأن يتنفس النقاء كي ينمو سليما معافى، وآخر معمر يناشد البقاء، وكلاهما ينادي بقوة، لتكون بهما المدينة العملاقة ما تزال تنبض بالحياة في بعض أروقتها، ومن هذه الأصوات التي تحملني إلى داخل أروقة مدينة الصمت صوت المجلة الثقافية الملحق التابع لجريدة الجزيرة.
إنها صوت ينفذ إلى الأعماق عندما تجتلب لنا بعض القضايا الثقافية التي تحاكي الواقع الثقافي وإن كانت قليلة جدا، وتلك الوجوه الندية التي أتفق مع بعضها القليل واختلف مع أكثرهم في الطرح الفكري والثقافي إلا أنه اختلاف لا قطيعة فيه، وأول لقاء أعبره عبر صوتها هو مقال الناقد محمد الدبيسي (تكوين) الذي أجد فيه رصدا حقيقيا لواقعنا الثقافي، وتعبيرا لا يعرف المجاملة مع شخوص مدينة الصمنت، فيوقفني بما تناوله من تفاصيل أظنها أحيانا قبل (تكوين) أنها عابرة سبيل أمامي لا أعرها سوى كرم الضيافة مع النسيان بعد رحيلها، كما ويحملني صوت ثقافية الجزيرة مع الشيخ الجليل شاعرنا وأديبنا الرائد سعد البواردي في صومعته الفكرية التي اتخذت شكلا من أشكال المقال الثري ليطالعنا بشخوصه ومفرداته وتأملاته لملامح سكان مينة الصمت العملاقة قديما وحديثا، وكذلك فكر وطرح الكاتبة سهام القحطاني المشاغب الذي تجذبني فيه بنيته التحتية الدسمة والعميقة، وأتوقف أحيانا عند مشاكسات الشاعر محمد جبر الحربي الجادة، ومنه إلى أمل زاهد وجرأة الطرح المسؤول، ومنها إلى تفاصيل قلم الأديب عبدالحفيظ الشمري ومن ثم التطواف في بقية أروقة وأحياء مدينة الصمت من أصوات الإبداعات المرفهة والكادحة، وأصبحت هذه الرحلة ذات عناء ومتعة، لا يقطعها سوى ضيق الوقت.
ومع تألق أصواتها التي تحرص الثقافية على أن تزود بها صفحاتها إلا أني أجزم أني غير متابعة بالشكل الدقيق لكل ما يدور داخل هذه الصفحات الزاهية بألوانها، إذ أني أجد أصواتها تكاد تكون هي دون غيرها، سواء من المشاركات المقالية المتنوعة التي تحمل ذات الأسماء المعروفة مسبقا، أو حتى النصوص الإبداعية التي تتناولها الثقافية، وهذا التكرار للكثير من الأسماء يجعل القارئ متشبعا بها، فاترا تجاهها، خاصة لمن يريد وجوها جديدة بفكر جديد، وطرح مختلف، يزيد من أصوات وثراء ملحق الجزيرة المعبرة لأروقة مدينة الصمت.
إن امتداد مجلة الثقافية لتصل إلى 100 عدد لهو عين النجاح، لكننا نريدها أن تصل إلى الألف وما بعده، وذلك لا يتأتى إلا بالتجديد المستمر لدمائها لكي لا تشيخ، ولا تصيبها لوثة الشللية أو المزاجية أو الإقصاء أو أي مرض يجعل صوتها ضئيلا مختنقا، وعاجزا عن التعبير الصادق، لما يحوي مدينة الصمت العملاقة من أحياء مرفهة يسكنها المرفهون من النخبة التي تمتلئ بهم الثقافية، وتقاطعها الضئيل مع الحارات الضيقة التي يسكنها الكادحون، وكم أحب أن أراها تلازم لهؤلاء وهؤلاء بمساواة حقيقية، فيا حبذا لو أنها تقدم لنا من حين لآخر أصواتا جديدة وحيوية شابة، من خلال حوار، أو حتى عطاء الفرصة لهم في كتابة مقال مستمر، أو زاوية دائمة لفترة معينة، وتعرض للتصويت والدراسة والانتخاب؛ كي نعمر مدينة الصمت ببيوت جديدة تزيل عنها الركود والنوم والكسل والشيخوخة، وتجعلنا نعيش نهارا نشيطا معها، فكثيرون يرغبون بهذه الفرص، وعلى الثقافية أن تمنحهم إياها إن أرادت ذلك، وكم أخشى أن تتحول مدينة الصمت يوما ما بسكانها الصامتين وليس كلهم إلى مدينة تملؤها أشباحهم بعد موتهم وانقضائهم، وذلك لسبب بسيط هو عدم تأسيس جيل جديد ينهض بها.
كما أن الجزيرة لها أن تواصل المسيرة ملازمة للتقدم الصحافي العالمي من حيث تغيير الإخراج، والاحتراف المهني، فأغلب ما ينشر في الملحق من مواد صحافية ثقافية تأخذ الطابع الأدبي الإنشائي لا الطابع المهني الصحافي الذي يحترف تقديم المعلومة للقارئ دون تغليفها برأي مسبق للمحرر ذاته، حيث إن المادة الصحافية تختلف عن المقال الصحافي في إنشائها كما أظن، هذا إلى جانب ما ينبغي عليها من ملازمة الحراك التغيري الذي يمر به المجتمع في الآونة الأخيرة من انفتاح وإضافة مفردات اجتماعية ثقافية جديدة يعيشها المواطن والمثقف معا، خاصة في ظل عولمة الثقافة، وكم أأسى حينما أجد ملحق الجزيرة وهو ليس خطؤها وحدها بل كافة الملاحق الثقافية تقف عند حدود الأدب والنقد والنصوص الإبداعية والنظرة الضيقة لمفهوم الثقافة، إذ عليها أن تكون صوتا فاعلا للتغيير الاجتماعي الفكري، المنطلق من قاعدة مهمة في نظري هي أن التغيير السلوكي الاجتماعي يسبقه تغيير فكري اجتماعي، وهذا هو دور المثقف والمجلة الثقافية، ولن ينفعها إذ جمدت في مكانها إلا أن تكون في آخر الطابور، أو كيانا خاصا بها يعيش عزلة إلا من المهتمين بها.
والمجتمع الذي يمر بمطرقة الإصلاح لا شك في أن الثقافة فيه ركن من أركان التغيير، وربما يكون هناك تعليق على ما أقول في أن ذلك ما تطرحه بقية صفحات الجريدة الموقرة من طرح اجتماعي، إلا أني أقول ربما كان ذلك صحيحا، لكن بقية هذه الصفحات تطرح رأي المسؤول والكادحين والمرفهين من المواطنين، لكنه ينقصها رؤية المثقف الحصيف الذي دائما ما يحمل مواقف التغيير المسبقة، ويا حبذا لو ترك له المجال في ذلك لننشد ثقافة التغيير التي نرغب بأن تكون منطلقة من الإنسان نفسه، ودائما ما نجد الثقافة لا تبيع إعلانا لما تمارسه من علوية وانعزالية مما يجعلها بعيدة كل البعد عن متناول الشرائح المختلفة في المجتمع، وغالبا إن لم يكن دائما المثقف الجامد سببا في عزلته وعزلة ثقافته عن المجتمع، واعتقد أن لثقافية الجزيرة بقائدها المثقف التنويري الأستاذ إبراهيم التركي وأعضاء تحريرها القدرة على التفكير واتخاذ القرار وحسم الموقف وتفعيله إن أرادوا أن تكون المجلة الثقافية صوتا معمرا فاعلا داخل أروقة مدينة الصمت، ولعل الخطوة الجريئة في استكتاب بعض المثقفين والمهتمين بالمجلة الثقافية خطوة مباركة تظهر ما لدى فريق التحرير من ديموقراطية وقدرة على قبول النقد لتصحيح ما يستحق تصحيحه وتعزيز ما يمكن تعزيزه. وكم أتمنى لهذا الصوت الثقافي الرشيق عمرا مديدا، وركضا مستمرا بين أروقة مدينة الصمت، وأن لا يمارس بدوره الصمت أبدا.


* كاتبة وصحافية

الصفحة الرئيسة
المئوي
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved