Culture Magazine Monday  04/06/2007 G Issue 201
الملف
الأثنين 18 ,جمادى الاولى 1428   العدد  201
 

راشد المبارك.. المثقف الوسيط والمثقف الإنسان
عبد الله القفاري

 

 

عندما دعتني صحيفة (الجزيرة) للمشاركة في هذا الملف عن الدكتور راشد المبارك، وهو ملف يقرأ في إنتاج وعطاء الدكتور والمثقف راشد المبارك، توقفت أمام هذا الطلب طويلاً؛ فأنا لا يمكن أن أنزع نفسي في أي مشروع قراءة لهذا الرجل من صداقتي له واقترابي الجميل منه، وفي نفس الوقت فإنتاج راشد المبارك الفكري وإسهاماته الثقافية بين أيدي كثيرين هم ربما أكثر مني قدرة على قراءتها، وإضاءة تلك الأفكار التي لا تخلو جدليتها في بحث من بحوثه أو كتاب من كتبه. وعلى الرغم من تلك الصداقة التي أعدّها من أجمل ما في هذه المدينة الرياض إلا أن اختلاف الآراء وفحص الأفكار التي يطرحها كانت تصنع مداخلات تحتمل حالة تباين في الآراء، لكن يبقى هذا الاحتواء الجميل من الدكتور راشد المبارك واحتفاؤه بالجدل المنتج وعدم تشبثه بالانتصار لرأيه. لقد خلفت هذه العلاقة التي بدأت ثقافية بحتة معنى كبيراً على قيد صداقة يعشق هذا الرجل معانيها، ويتبتل في محرابها الإنساني، وهو الذي قلما احتفظ بمريدين لا يرونه غير شيخ لطريقة.

أفضل اليوم أن أكتب عن راشد المبارك المثقف الوسيط والمثقف الإنسان.. وأحتفظ بحق راشد المفكر وراشد الشاعر وراشد الأستاذ الجامعي.. إذ إن الأثر الوجداني أبلغ في تقديري وفي قدرتي على اكتشاف راشد المبارك الإنسان.

إن من يتقمّصون الأفكار أو يبشرون بها ليسوا بالضرورة ممن يعيشها، ومن تأخذهم الذائقة الشعرية إلى معارج الرقة والشفافية الإنسانية ليسوا بالضرورة ممن يحملونها معهم.. ومن يلتمسون الوجاهة الثقافية في مجتمع يحتفي بهذه الوجاهة ليسوا مثقفين بالضرورة.. لكني أؤمن أن هذا الرجل قبل أن يكون مفكراً أو شاعراً أو مثقفاً هو إنسان كبير بكل ما تحمل تلك الكلمة من معنى، وبكل ما يحمل ذلك المعنى من دلالات. وبكل ما يحيط براشد من هالة الفكر أو الثقافة أو الوجاهة الاجتماعية هو رجل نبيل تتجسد فيه معاني النبل الإنساني وسمو الإنسان المتحسس لآلام الآخر وأوجاعه واقتراب الإنسان الجميل من عوالم الآخر إلى حد الانهماك.

لا يسحرني شيء حقيقة في التكوين الإنساني أكثر من ملامح إنسان تستجيب لصدق المشاعر وتحمل ذلك الانسجام الداخلي بين قيم لها علو الإعلان وأدوار لها قيمة التواصل والفعل والمثابرة في محيط المجتمع وقضاياه.. إنه ذلك الانسجام الفريد بين قيم يحملها ويبشر بها مثقف، وممارسة يومية هي تعبير عن تلك القيم وترجمة حقيقية لها، وأزعم أن راشد المبارك من هؤلاء النادرين.

يعرف الكثيرون راشد المبارك من خلال نشاطه الثقافي المتمثل في ندوته التي بلغ عمرها اليوم خمسة وعشرين عاماً؛ أي ربع قرن من العطاء، وهي ملمح ثقافي في مدينة الرياض لا يمكن تجاوز النشاط الثقافي المديني فيها دون أن تكون هذه الندوة هي الأبرز على الإطلاق. عرفت تلك الندوة قبل أكثر من عقد من الزمن في منزله القديم، اكتشفت كيف يملك هذا الرجل تلك القدرة على نسج علاقات ثقافية وإنسانية بالغة الدلالة. تلك الندوة لم تكن خاصة بطيف وحيد.. أو لغة أو خطاب واحد.. كانت تعبيراً عن شغف الرجل بتكوين ملمح ثقافي يضمّ كل الأطياف الثقافية عنوانه نشر ثقافة الحوار قبل أن تصبح مهمة رسمية، وتأسيس هذا الحوار على فكرة التسامح والقبول بالرأي الآخر قبل أن يصبح عنواناً شائعاً. كانت مدرسة حقيقية - في تلك المرحلة - عرفت من خلالها وأنا الشاب الذي يغشى تلك الندوات أن ثمة معنى للبقاء والاستمتاع بتلك الومضات التي طالما أشرقت بفكرة من هنا وهناك، وكم حملت من طروحات جرأتها ومصدر مباغتتها أنها كانت في مرحلة قلق ثقافي واستسلام تام للسائد.

في هذا المشهد كنت أرى بجوار ذلك الطيف الثقافي وتلك العناصر المتباينة على مائدة حوار وصالون ثقافي سمته الجدل المنتج وعنوانه محاكمة الأفكار لا الاستسلام لها.. بجوار هذا كان ثمة إخوة لنا من بلاد عربية مختلفة لم يخلُ منهم صالون الأحادية.. فبقدر ما كان ذلك خليطاً جميلاً بين تلك الرؤى كان أيضاً انسجاماً أجمل بين أبناء وطن عربي كبير، يجمعهم شغفهم بذلك الجو الثقافي وتقديرهم للرجل الذي يتولى مهمة نبيلة وكثيراً ما كانت محرجة.

إن راشد المبارك عُرف أستاذ جامعياً ومثقفاً وأديباً يجمع في صالونه الثقافي كل أسبوع حشداً من متذوقي ندوته وروادها.. خلف الرجل كانت تكمن مواهب أخرى أستميح الصديق العزيز أن أتلمسها هنا، وهو يدرك أنني ظنين في إشادتي، متجاوز أحياناً في نقدي، وهو الذي طالما احتوى نزق الشباب بحكمة الشيوخ ومداراة العقلاء.

أزعم أن راشد المبارك هو موهوب متعدد المواهب، لكن موهبته الكبرى في فنّ العلاقات التي ينسجها على نحو مبهر مع مختلف الشخصيات بمستوياتها الاجتماعية والثقافية. وفي قدرته على انتزاع تلك القناعات من دوره كمثقف فقط يفتتح صالوناً أدبياً كل أسبوع أمام محبي الأدب ومتذوقي الفكر وتجلياته والمهتمين بالشأن العام.. إلى دور أكبر بكثير من هذا عنوانه البقاء في مشهد ثقافي له سمة الحضور لكن خلفه تكمن قناعات بمعنى ودور هذا الحضور، وخلفه تكمن موهبة الإمساك في وقت واحد بين إشعاع الثقافة والتمتع بأجوائها المثرية للعقل والذائقة والبحث الدائب عن الحقيقة، وبين دور المثقف ومهمته الصعبة لصناعة عالم يستجيب لقناعاته، وهي حتماً لن تخرج عن انتصار المثقف للإنسان بكل ما يحمل هذا المعنى من بُعد.

أثق تمام الثقة أن راشد المبارك لم تسرقه الأضواء ولم يسعَ لها يوماً، ودوره أكبر بكثير من فكرة الحضور الشخصي، لكني وأنا أكتب عن راشد الإنسان أقول: إن خلف تلك الوجاهة والحضور الشخصي والمخزون الثقافي الكبير هناك يكمن إنسان كبير أيضاً.. إنسان يتألم بشدة لبعض الواقع الذي لا يسرّ، ويتبنى قضايا إنسانية أو وطنية أو عربية حتى يراها جزءاً من مهمته ودوراً لا ينفصم عن معنى بقائه، ويمنح نفسه للآخر بذلاً وعطاء.. تلك هي القيمة التي نفتقد لها اليوم في عالم يعجّ بكل مثقف لا يحمل من مشروع المثقف سوى عناوين البقاء في مشهد الأضواء المبهرة. وقدرته على الجمع بين المهمتين هي المهمة الأصعب التي لا تأتي بسهولة في بيئة قد لا تعترف أصلاً بهذا الدور. رجل طالما استخدم كل علاقاته بلا تردد من أجل الانتصار لحق يراه انتهك، وطالما حمل عبء تعب إنسان وجعل منها قضيته الأساسية حتى يصنع شيئاً من أجلها، وطالما عرفت عن قرب كيف تبدو للبعض تلك المفارقات بين وجاهة النشاط الثقافي والتزاماته وعلاقاته التي قد تتحول إلى أداة احتواء وبين حضور الإنسان الذي قد لا نكتشفه إلا نادراً.

لطالما توقفت عند تلك الانتهازية الثقافية التي تتبدى علامة فارقة عند كثير من المثقفين اليوم بين عبء مشروع لا يصنعون من أجله الكثير، وهم الذي يحافظون على بقائه توسلاً للمعنى الثقافي، وبين ممارسات انتهازية جعلت من تلك النماذج حالة بائسة لا تبشر بإمكانية الإيمان بدور مثقف أو الاقتراب من عالمه المسكون بين الانتهازية وتوسُّل ذلك الحضور في مشهد ثقافي يعجّ بالكثير من الجعجعة والقليل من الطحين.

راشد المبارك حالة خاصة في هذا المشهد الثقافي.. لقد خبرت جانبين أثق أنى أملك القدرة اليوم على الحكم عليهما دون شعور بالتناقض أو اللايقين؛ أولهما أن ثمة منظومة فكرية بالغة الدقة في فكر هذا الرجل يعبر عنها كثيراً في طروحاته وكتبه وبحوثه وفي لقاءاته التي تتميز بقدرة عجيبة على البناء المنهجي وهو يستلّ منظومته من مخزون بالغ الدقة والترتيب كمن يستلّ ورقة إثر أخرى دون ارتباك أو تعثُّر، حتى يصل إلى تلك النتيجة المبنية على مقدمات مستفيضة تقدّم لسامعه أو قارئه فكرة مباشرة عن قيمة هذا المخزون العرفي والقدرة المتميزة على المحاكمة الذهنية الدقيقة.. إنما القيمة الأكبر أيضاً هي تلك المقدرة على الانسجام بين منظومة ذهنية يعبّر عنها المثقف عبر أدبياته المسموعة والمقروءة وبين تجسيد هذا الدور في عمل قادر على ممارسة دور الوسيط بين المجتمع والسلطة.

أعتقد أن الدكتور راشد المبارك لعب هذا الدور بحذق، وإن كانت المعطيات الثقافية والاجتماعية والسياسية لا تسمح بتناول هذا الدور، لكن تلك ميزة أداء مثقف مثل راشد المبارك، وهو الذي لم يجعل الحضور الثقافي سلّماً يصعد عليه، بل سخره لعبور هذا الدور وهو دور الوسيط.. هذا الدور الذي ظل يتراجع ضمن معادلة القوى الاجتماعية اليوم.. إنها المهمة التي نذر نفسه لها مثقف يرى أن دوره أكبر وأكثر أهمية من البقاء في مشهد ثقافي يعبر عنه بندوة أسبوعية.

دور المثقف الوسط في مجتمعنا دور غائب، وأحياناً دور ملتبس، ليس المهم في نظري اليوم أن يكون لدينا مثقفون يحملون عبء مشروع ثقافي نظري ويبشرون به إنتاجاً معرفياً وحضوراً ثقافياً.. وتستهويهم إثارة حالة جدل تبقيهم في مشهد الأضواء.. المهم أكثر أين يقف هذا المثقف من السلطة، وأين يقف من المجتمع وقضاياه الوطنية. قد لا تعترف السلطة العربية بدور المثقف العضوي، لكنها تحتوي المثقف المقاول.. والمثقف المقاول مثقف مسوّغ للسلطة يتمتع بميزات تمنحها السلطة. الوهج الذي يمنحه لنفسه قائم على معادلة دور صغير يتحول فيه من وسيط موضوعي بين المجتمع والسلطة إلى دور انتهازي يحشد حوله ثلة من الانتهازيين كرديف للسلطة لا كوسيط موضوعي بين مجتمع له مخاوفه وقضاياه ومشكلاته وبين سلطة لها حساباتها ولها قلقها أيضاً.

أزعم أن راشد المبارك من أولئك القلائل الذين لعبوا دوراً مهماً في إبقاء تلك العلاقة وتوجيهها في مراوحة حذرة ولكن منتجة بين اقترابه من السلطة على اختلاف أنواعها وبين مجتمع ينهمك في قضاياه اليومية.. وهو الذي حظي بثقة طرفي المعادلة السلطة والمجتمع لا كوسيط نزيه فقط، ولكن ضمن دور يمارسه مثقف في إطار مهمة ثقافية؛ حيث تتوارى تلك المهمة في المشهد الثقافي اليومي، حتى لا يرى سوى ذلك الحضور لتبقى تلك العلاقة عناوين غير مقروءة.

بين المثقف الوسيط وبين المثقف الإنسان تلتبس المواقف، لكنها تتخذ صفة الوضوح في عقل مثقف لا تنتزعه مسألة الاقتراب من السلطة للانصراف عن الشأن العام أو تجاهل قضاياه بحثاً عن مغانم شخصية، ولا تستحوذ عليه لغة خطاب سهل يدين السلطة على إطلاقها ولا يريد الاعتراف بمكتسبات يمكن العمل على تراكمها لا هجائها فقط.

لم تكن مسألة الحضور الجماهيري حاضرة في عقل مثقف كراشد المبارك، وهي لا تحتاج أكثر من مداعبة ذلك الخيال والانتصار اللفظي في منبر أسبوعي يتيح ممارسة ذلك الدور.

إنه مَن جعل من تلك العلاقة وسيلة لممارسة دور كان بالإمكان أن يكون أكثر تأثيراً وأبلغ حضوراً، لكنه تعامل مع نسق عام يحكم تلك العلاقة؛ حيث لا تعترف السلطة أحياناً بهذا الدور، لكنها تقبله لإيمانها بنزاهة الوسيط، وفي ذات الوقت لم ينهمك ذلك المثقف في مشروع خطاب جماهيري ديماغوجي أو انتهازي لحشد الأضواء وتركيز فكرة البقاء اليومي في مشهد ثقافي.. هنا تكمن إذنْ فكرة الوسيط الموضوعي، فهو ليس معنياً إلا بما يحققه من نتائج قد تتأتى عن طريق تلك الممارسة، وقد تتواضع نتائجها لأسباب خارجة عن إرادته.. لكن الإصرار على ممارسة هذا الدور والعزوف عن الأضواء أو البحث عن الجماهيرية هو المعنى المتجسد في مثقف استطاع أن يصالح تلك التناقضات لصالح فكرة البقاء في مشهد وطني يقبله كل الفرقاء.

راشد الإنسان لا يمكن عزله عن راشد المثقف، وفي زمن بات فيه التماس دور المثقف معقداً وصعباً وفي بيئة لا تعترف أحياناً بهذا الدور فقد انتزعه راشد المبارك بجدارة بطريقة تنم عن قدرة مذهلة على الاستحواذ والقبول.. وراشد المفكر لا يمكن عزله عن راشد المثقف؛ فهو دائماً في حالة تأمل واستعادة واستشكال تبدأ من تراث العرب الأدبي حتى تخوم الفلسفة الغربية التي تعني له تحدياً ذهنياً لا متعة عقلية فحسب. وراشد المتذوق والشاعر اقترب من تخوم النقد الأدبي قارئاً ومتأملاً من تراث شاعر العرب الأكبر أبي الطيب المتنبي حتى شاعر العرب المعاصر نزار قباني.. وراشد العالم المسكون بفكرة التقدم العلمي شرطاً وإنتاجاً وبحثاً ووظيفةً قدم إنتاجاً متميزاً لا في حلقات معزولة في سياق أبحاث علمية متقدمة، ولكن في قدرته على قراءة حلقات العلم والكشوف بطريقة جعلها مادة أدبية شيقة وملمحاً فكرياً مهضوماً واستدراكاً لتأثير خافٍ على كثيرين في طبيعة ذلك التقدم وتجلياته.

إنها ملامح في شخصية اقتربت منها، فيها كل نزاعات الإنسان قوة وضعفاً، وبهجة وحزناً، لكنه تبتّل جميل وإشراقه حية في محراب الانتصار لحق الإنسان بالحياة.. وفيها ملمح عقلي يشقيك في متابعته، وذاكرة حية ترهقك في استدراكاتها، ومنظومة ذهنية متماسكة لكنها غير مستسلمة تصدمك أحياناً في مسلماتك.. وفيها ممارسة لأدوار شاقة تصرّ على أن دور المثقف الوسيط النزيه ممكن وقابل للحياة في بيئة لم تألف هذا النوع من الممارسة. إنها منابع متعددة تصبّ في بحيرة واسعة اكتشاف أبعادها ممتع بقدر ما هو شاقّ أيضاً.

الرياض


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة